الكتابة محاولة افتراضية للرهان على الخلود، فهي أنموذج متعالٍ للمثال والوجود ولحيازة المعنى، مثلما هي خيار استيهامي في تدوين خطاب ذلك الخلود، والتعاطي معه بوصفه قوة تدميرية، لمواجهة المحو والموت، أو ربما بوصفه احتيالا سرديا على الوجود، عبر توريات وأقنعة وتعازيم وتعاويذ وأساطير وملاحم واستعارات ومجازات، لأن الكتابة تملك جهازا تمثيليا فائق الخطورة من الإشارات والشيفرات، ومن الصيغ والتشكلات ذات الفاعلية البنائية والمورفولوجية، التي تجعلها أكثر الوسائط الإنسانية تأثيرا على صيغ الثابت من الأنساق.
قد تكون الرواية بوصفها سياقا كتابيا أكثر أشكال الكتابة تمثيلا لذلك الرهان، لأنها مجال مفتوح للسرد والحكي، وللتعبير عن الأفكار، حيث تحتكر اللغة – أداة الكتابة الرئيسة – لعبة التفكير، من خلال ما تفرضه من آليات وأنماط وموّجهات، مثلما تحتكر الكاميرا- أداة السينما الرئيسة- لعبة التمثيل البصري، عبر استعارات وصور وإيحاءات وعلامات وتقانات، تجعل من سرديات السينما تملك طاقة موازية في التأليف وفي تغذية خطاب المادة الحكائية التي يعالجها هذا الفيلم أو ذاك..
خطورة هذه السرديات تكمن في علاقتها التأويلية بالتاريخ، فنحن مسكونين بلاوعي سردياتٍ موروثة، على مستوى التداول والاستعمال، وحتى على مستوى التصديق بما تقترحه مدوناتها من مرويات وأسفار وسيرٍ ومغازٍ، ومن حكايات وأساطير لفرقٍ وجماعات لها نصوصها ورواتها ومروياتها المكتوبة، حتى بات البعض يجد نفسه أمام الفكرة التي قالها مرة جيمس جويس: «إن التاريخ كابوسٌ يجب أن أصحو منه».
الكتابة تنزع في هذا السياق إلى صـــــناعة افتراضية للوثيقـــــة، أي حيازة القوة التي يتحصّن فيها الراوي، والتي تملك قابلـــية التحوّل إلى خطابٍ له غاية التأثير على الآخر القارئ أو المروي له، أو الآخر المريد، أو المتحزّب، أو الباحث عن إشباعات روحية أو علامات للدلالة، وهــي ما تعــــني إمكانية وجود حرب افتراضية بين (الوثائق المكتوبة) توهمــــاً باتجاه البحث الفانتازي عن (الوثيقة الناجية) التي لن تكون بعيدة عن حاكميات طائفـــية وقومية واجتماعية وسياسية وعسكرية وأيديولوجية، لها قوتها في فرض وإشهار تلك الوثائق في سياق الصراع، أو في سياق التداول الثقافي والسياسي والطائفي.
علاقة الكتابة بالخلود هي نظيرٌ لعلاقة الإنسان المُخاتلة بالوجود، وبطرائق بحثه عن الحماية، وبالتعبير عن حاجته، ولذته، وهروبه من الموت، وهذا ما يجعل الكتابة في سياقها اللغوي والبصري أكثر تموضعا في سيميائية الأثر، بوصفها العلامة التي تختصر التعبير عن تلك القوة والهيمنة، وعن الضعف والحاجة أيضا، وعن الانشداد إلى الأيديولوجيا العصابية، أو الأيديولوجيا (الناجية).
ارتبط تاريخ بعض الحاكميات بالكتابة، أي بعالم من النصوص التي فرضت نفسها على مخيالنا الحكواتي والسلطوي، وعلى اصطناع نصوص وآليات لتفكيك المتخيل الضدي، ووضعه في سياق إكراهي أو تكفيري.
الكتابة وذاكرة المُقدّس
تاريخ الحاكمية المُستبدة في شرقنا، جعلت البحث عن سرديات الحماية أكثر هوسا في حفريات ما هو سري في الوثائق، والوصايا وكتب التنجيم والأسحار والأحاجي، وفي مدونات الجماعات المتصارعة، مثلما كان في وجهٍ من وجوهه بحثا في مدونات (المعارضة) بوصفها الضد النوعي لتلك الحاكمية، حتى باتت العلاقة بين تلك الوثائق وذاكرة المقدّس متوترة مع التاريخ، بوصف أن سرديات تلك الكتابة تسعى إلى تجريد التاريخ من أكثر أسلحته سحرا، وصار- في سياقها- الحكواتي والمُدوّن وصاحب المقامات، والفقيه، والروائي في عصرنا يمارس سلطته واستعاراته الفاضحة في معالجة أحداث غائرة في (تاريخ الأمّة) و(تاريخ الملّة) وهما ثنائيتان تحصنتا طويلا بالتاريخ بوصفه مقدسا، أو وعيا قارّا بأحداثٍ دوّنتها السلطة أو الدولة الأمة، أو الجماعة الملّة، أو الجماعة الكلامية في سياق حجاجها، أو في سياق بيان موقفها العقائدي. ففي روايات جورجي زيدان ونجيب محفوط وأمين معلوف، ورضوى عاشور، ويوسف زيدان وربيع جابر، ورواية «موت صغير» للروائي محمد حسن علوان، ورواية «أيام المستعصم الأخيرة» للروائي عبد الجبار ناصر وغيرها، توفّر للقارئ والباحث مستويات سردية لمقاربة التاريخ، عبر سردنة بعض أحداثه، وعبر قراءات لها مرجعيات وحساسيات ثقافية، يشتبك فيها السياسي والتخيّلي والهوياتي والتمثيلي.
الانتقال من الجمالي السردي إلى التمثــــيلي هو أخطر تحولات كتابة الرواية العربية، إذ أسهم هذا الانتقال بتعدد منصات الحكي، وتوّسع مديات ما تحوزه تلك المنصات من مرجعيات ونصوص، يمكنها أن تفضح تاريخانية السرديات الكبرى، وأن تُعطي لما سمّاه معن الطائي بـ(السرديات المضادة) النظير التوصيفي لـ(السرديات الصغرى) عند ليوتار، مجالا للتعبير عن تحولات مهمة استغرقت الجهاز النقدي، كفاعلية في رصد تاريخ ما كرسته سرديات الجماعة وإزاحتها عن الفعل الباعث على وهم خلودها في النصوص وفي لاوعي الناس.
الكتابة ووهم السرديات
السرديات الكبرى هي سرديات أنوية الجماعة المهيمنة، حيث النص والقوة والثروة، وحيث الوهم بفرضية تهميش الآخر، أو تفريغ حمولاتها الرمزية، وهو ما يجعل أرخنة الصراع أكثر تعالقا بتلك السرديات (القاتلة والمقتولة) وبالتالي تكون نظرتها للخلود رهينة بمدى حيازتها على كتابة سردياتها الفائقة، تلك السرديات/الوثائق، والسرديات/ الفقهيات، والسرديات/ الحكايات، التي تقوم على صياغة مسبوكة للأثر، وللبطولة، وللقوة التي تملكها الحاكمية.
ارتبط تاريخ بعض الحاكميات بالكتابة، أي بعالم من النصوص التي فرضت نفسها على مخيالنا الحكواتي والسلطوي، وعلى اصطناع نصوص وآليات لتفكيك المتخيل الضدي، ووضعه في سياق إكراهي أو تكفيري، وبالشكل الذي جعل من حرب النصوص أكثر علامات تاريخنا مفارقة، منذ أن بدأ الكلاميون لعبتهم الكبرى في صياغة الأفكار حول العقائد، وتدوين وجهات نظرهم عنها، دفاعا أو دحضا للشبهات، وحول علاقة الفقه بالمُقدّس، وبالحجاج الذي أثاره علماء الكلام منذ المعتزلة الأوائل، وانتهاء عند محنة ابن حنبل، وأطروحات الجويني وأبي الحسن الأشعري.
تاريخ كتابة سرديات التاريخ ليس بعيدا عن هذه العلاقة، ولا عن مقاربة الصراعات التي حدثت هنا أو هناك، والذي تحوّل مصدرا لسردنة الأفكار والأحداث، ولذاكرة الحروب التي احتشد بها تاريخنا، وأحسب أن سرديات السينما كانت من أكثر السرديات توظيفا لذلك، بدءا من فيلم «الشيماء» وفيلم «خالد بن الوليد» وفيلم «الناصر صلاح الدين» وفيلم «المصير» وليس انتهاء بفيلم «الرسالة»، وصولا إلى ما قدمته لنا الدراما الإيرانية من مسلسلات دينية غير بعيدة عن المرجعيات الثقافية والسردية والطائفية. كل هذه الأفلام والمسلسلات وغيرها قدّمت لنا توظيفات سردية أكثر مما قدّمت مرجعيات حيادية في نظرتها ومعالجتها للأحداث التاريخية، إذ ظلت أكثر تماهيا مع الحساسيات الثقافية والسياسية والأيديولوجية، وحتى التجارية، رغم الإشارة في بعض تترات الأفلام والمسلسلات بأنها مجازة من قبل هذه المرجعية أو تلك.
الإصرار على سردنة التاريخ، أو كتابته بطريقة مسردنة تعني أساسا الشك بالتاريخ، والبحث عن خلودٍ ما لوجهة نظر معينة، أو لحدثٍ مكتوب من زاوية سياسية أو طائفية، والتي تفترض – توهما – تكريسه كأثر أو كنص مكتوب، أو محاولة تعويمه وفرضه بوصفه النص الذي لا يطاله الحجاج، وأنه الأكثر قربا إلى ضمير الأمة.
٭ ناقد عراقي
من وجهة نظري يختصر عنوان (سرديات الكتابة وسرديات التاريخ) مفهوم التدوين لدى ثقافة الأنا أولاً ومن بعدي الطوفان، بمفهوم الخلود، للكاتب العراقي (علي حسن الفواز)،
ولكن واضح فاته دخول الآلة لتكون وسيلة التدوين اللغوي والتسويق كذلك،
غيّر أصول اللعب من وجهة نظري على الأقل، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر في عملية الوصول إلى ثقافة النحن كأسرة إنسانية،
في أجواء العولمة (بعد عام 1945) والإقتصاد الإلكتروني (بعد عام 1992)/الرقمي (بعد عام 2008) التي أنتجت فلسفة المدرسة الأمريكية في عملية التسويق ( ممثلة بموقع أمازون)، وحكمة المدرسة الصينية في عملية التسويق (ممثلة بموقع علي بابا) في عام 2019.
ولذلك ما هو تقييم تطبيق (التزييف العميق) بين الفلسفة والحكمة والإيمان؟! لأهم مشكلة في دولة الحداثة التي ستعمل على انهيار القيم والأخلاق ومعنى المعاني في قواميس أي لغة إنسانية، لماذا؟!
يجب أن يكون هناك معيار للعلاقة داخل الأسرة (ثقافة النحن) أساسها الإيمان/الثقة.
ويجب أن يكون هناك معيار للعلاقة خارج إطار الأسرة (ثقافة الأنا) أساسها الشك وعدم الثقة.
بدأت المشكلة في دولة الحداثة، التي حددتها إتفاقية سايكس وبيكو، عندما رفضت الإعتراف بالأسرة، كأصغر وحدة في المجتمع للدولة،
بل أعتبرت الفرد، هو أصغر وحدة في الدولة، وعملت على محاربة الأسرة/العشيرة أو معنى المعاني، والتعامل معها كوحدة تكوين واستثمار لدافعي ضرائب ورسوم وجمارك المستقبل،
بحجة أن مفتاح التطور يبدأ من رفض قبول قواميس اللغة، كمرجعية لخبرة الإنسانية في أي مجتمع.
التدوين من خلال الآلة، لأي منتج لغوي، يختلف تماما، عن تدوين أي لغة، بواسطة أي شيء آخر،
عدم استيعاب ذلك في المناهج التعليمية، يؤدي إلى ضياع الإنسان من خلال مهنة البرمجة اللغوية، وهل هي كانت مخصصة للآلة أم للحيوان؟!
ومن هنا أهمية طريقة تعليم (صالح) لكل لغات العالم الإنسانية بالإضافة للآلة، حتى تكون منتجات الإنسان اللغوية (المهنية)، تبقى متفوقة على منتجات الآلة والحيوان اللغوية (المهنية) في المستقبل.??
??????