من خلال رواية تجاوزت الأربعمائة صفحة، أنشأت الكاتبة والإعلامية الفلسطينية نادية حرحش، سردية شديدة التمايز على غير ما رأيناه في «أدب القضايا الكبرى». أهم ما يميز روايتها «على درب مريم»، ذلك الخيط الرفيع الذي يستمر بحدته ودفئه على مدار الرواية كلها: الإنسان في النهاية هو ثمرة ومحصّلة تاريخية تتكون باستمرار من خلال تجاربها، وليس منجزاً منتهياً. محمول تاريخي ثقيل. وهذا ما جعل الرواية تتأسس على تناصات عالمية كثيرة أعطت للرواية عمقها وتجذرها الإنساني، من قصتي العذراء والمجدلية، إلى الكوميديا الإلهيّة، إلى عشتار، إلى جورج أورويل، إلى النفري، إلى هنري ميلر، وغيرهم.
باتساع موضوعاتها وجدلها وأزمنتها، تحولت رواية «على درب مريم»، إلى سردية الزمن العربي الذي وجد نفسه مطروداً من التاريخ، مثقلاً بتاريخ لم يستطع إلى اليوم إعادة قراءته وفهمه لتغيير حاضره، لا للنوم في مساحاته الخضراء التي لم تعد اليوم إلا علامات صغيرة وسط حقل من الخوف من النهايات التراجيدية. عالم عربي متشقق، مكسور، يعيش داخل الخرافة، محمل بميراث ثقيل من الهزائم والإخفاقات، يتبدى في الرواية كرمزية يتجلى فيها الإنسان بكل تناقضه ونوره وضعفه وجبروته. التاريخ في الحاضر هو مؤشر لزمن لم يتغير كثيراً في سلسلة إعادة إنتاج الخوف والهزائم والرعب. تحمله الشخصيات على ظهورها في شكل مؤشرات تحيل إلى مدن فلسطينية سرقت من ذويها. تفصل الكاتبة في شروحها في الهامش كأنها تريد أن تحافظ على العلامات من الاندثار الذي أصبح يتهدد كل شيء. من هنا، فالتاريخ بالنسبة للروائية ليس إلا مطيتها لقول حاضر يتغير بسرعة باتجاه المزيد من الانهيارات والتحلل، من خلال مآسي أربع شخصيات نسوية. مست الرواية مساحات تاريخية كبيرة وواسعة، من خلال «التاريخ الصغير» للنساء. ينهض من وراء السرد حاضر متهالك، يكاد يكون بلا أمل، من النكبة التي جعلت الشعب الفلسطيني في ثانية واحدة على حافة التلاشي والنهايات المفجعة لولا عنصر المقاومة الذي يحمله المهجَّرون في دواخلهم، مصرين على مفاتيح طال أمدها، وصدِئت، لكن رمزيتها ما تزال قائمة. القوة ليست في المفتاح الذي غيّر «الإحلال» أبوابه، لكن في دلالاته التي لن تنتهي وتورث للأجيال، وتضع الروائية أمام سؤال قاس: هل انتهى كل شيء؟ حتى الثورات العربية انتهت إلى حروب أهلية طاحنة ومدمرة دون أن تغير شيئاً عميقاً، بل حل محلها إرهاب مقيت غير مسبوق جعل من البلاد العربية هدفه المدمر.
اختارت الروائية تنويع المآسي لتمس كل الشرائح الفلسطينية والعربية في امتداداتها. قصة أربع «مريمات» تجمعهن ظروف المنافي والنكبات، وتفرقهن الحياة. يلتقين بعد عشرين سنة في مئوية مدرستهن المقدسية التي درسن فيها. تفردت كل واحدة منهن بفصل روائي خاص بها، يحمل اسمها، وأضافت له الروائية فصلاً خامساً خصصته لـ«تمار». لا دور واضحاً لتمار سوى كونها وسيطاً يقودها حلمها بالتحرر من الجسد المقتول إلى «الانتحار/ الاستشهاد» على معابر القدس. يتحول لقاء «المريمات» للاحتفال بالمئوية، إلى مأساة بموت تمار التي كسرت الحصار في محاولة يائسة للدخول إلى القدس عبر المعبر الممنوع. تخرج «المريمات» في جنازتها لتوديعها في المقبرة المطلة على كنيسة مريم المجدلية، في نشيد جنائزي (دانتي الكوميديا الإلهية).
خريجات المدرسة المقدسية نفسها تشتتهن الأقدار عبر الخريطة الفلسطينية كلها، القدس، نابلس، رام الله، غزة والمنافي الأمريكية. نتعرف عليهن وعلى رحلاتهن المأساوية التي تشكل فيها النكبة المشفوعة بذكورة متأتية من بعيد، العنصر التراجيدي الأساسي، من خلال السرد الذاتي لكل واحدة منهن، تتكون من خلاله أربع سير ذاتية شديدة القسوة. فمريم الأولى التي انتقلت إلى نابلس، تعيش تجربة حب مع جبرين العاشق المستميت الذي يؤثث داخلها بأجمل اللحظات، سرعان ما يخونها، فيحب مساعِدَته في العمل ويتزوج منها ليدخلها في جحيم درب الآلام الممتد أبداً من مأساة عشتار، مروراً بالمريمتين: العذراء والمجدلية. ترفض الطلاق منه وتجد طريقها في مسلك الانتقام، فتخونه بدورها مع موظفه المفضل قاسم. تخلق لحياتها مساراً آخر برمي النقاب على الرغم من محاولات صديقتها تمار المتدينة ونصحها بالعودة إلى الطريق المستقيم. مريم الثانية الغزاوية، تعرضت لاغتصاب أخيها في طفولتها. الأم تعاقبها وكأنها هي الجانية. تنتقل إلى مدرسة القدس، وفور تخرجها تُزوَّج بابن عمها الذي يغتصبها حتى قبل الزواج بوحشية، فتصبح مملكته الجنسية الرخيصة، وأماً لولدين مريضين يموتان في المستشفى جراء قصف إسرائيلي. وتفشل في الحصول على الطلاق بسبب رفض أخيها الذي سجنها داخل علاقة سفاح القربى. وتكاد صورة المجدلية المظلمة تتجسد في صورة مريم الثانية، لا تنفع فيها حتى قولة سيدنا المسيح «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، لكن مساعدة مريم الثالثة التي تعيش في أمريكا سمحت لها بالانتقال إلى رام الله وإيجاد عمل. وهناك تتعرف على فرعون الغوشي الذي أعاد إنتاج نفس التوحش. وتخلع زوجها وتتعرف على أسد، طالبها في الجامعة الذي تحبه، وتعيد ترميم حياتها بإرادتها الصلبة وبالرغبة في الحياة. مريم الثالثة تزوجت بصديق الطفولة دانيال، وسافرت برفقته إلى أمريكا. تصطدم في زواجهما القصير بشذوذه الجنسي وخياناته المتكررة. تغادره، وتدخل في علاقة مع سيمون المتزوج الذي يسجنها في ذكورته وسرقة حريتها. تجد في الكتابة تحررها من مرض الذكورة، فتكتب رواية، وتسافر إلى سوريا كمراسلة حربية. تتعرف على فنان سوري، جهاد. يعيشان تجربة حب جميلة، لكن أهله يرفضون زواجه من مسيحية مع أنها لا تعير أي اهتمام للديانات أمام الحب. ولا نعرف مآل هذه التجربة؟ مريم الرابعة كانت أكثر حظاً وربما أكثر تبصراً في حياتها. تتزوج من الشخص الذي كانت تحبه، فهي المتعددة الهُويات والثقافات والديانات من خلال ما تحمله من مكونات تاريخية سلالية، من جدة قبطية وأخرى يهودية، وهي الفلسطينية المسلمة. منحها ذلك متسعاً من الحرية في رؤيتها. تتزوج من المحامي فارس وتنجب منه يافا التي سرعان ما تفقدها يوم الولادة، ربما كان ذلك تلميحاً خفيفاً لفقدان يافا ومدن أخرى. تكاد تكون مريم الرابعة هي المريم النموذجية التي لا تقهرها الاختلافات الدينية أو العرقية أو اللغوية؛ فهي مواطنة العالم. أخيراً تمار التي لها مسار لا يختلف كثيراً عن مسارات صديقاتها التراجيدية. تنتقل إلى باريس لإكمال دراساتها الفنية، وتتعرف هناك على برناردو الذي يمنحها الحب الكبير، لكنه يتوفى بشكل فجائي تاركاً في أعماقها حزناً أبدياً. تعود إلى نابلس وتتزوج من أيوب المتدين الذي يفرض عليها فهمه للدين بذكورة مهزومة. تعيش انفصاماً قاسياً بين ماض جميل مع برناردو، وحاضر بائس أغرقها في حداد لا ينتهي. وتتمنى الموت للحاق ببرناردو، ويحدث ذلك عندما يصيبها قناص إسرائيلي وهي تحاول أن تقطع معبر القدس.
يبدو واضحاً أن واحداً من رهانات رواية «على درب مريم» هو نزع «القداسة» الوهمية عن الفلسطيني والتعامل معه كإنسان داخل ظرفيات تحدده كما في كل العالم العربي. وجعلت من نضالات المرأة الفلسطينية اليومية وسيلتها لقول فلسطين في تعدديتها وإنسانيتها وتراجيديتها أيضاً. فقد سرقت الذكورة المقيتة كل أمل للحياة والتنور. وربط مصير المرأة بلحظتين قاسيتين محكومتين بالأعراف والدين والتخلف: إما عذرية مطلقة تمثلها العذراء، أو لا أخلاقية تظهر فيها مريم المجدلية تعبيراً مجازياً حاداً. لكن الإرادة النسوية الكبرى، جعلت الإلهة عشتار أو «الأم الكبرى»، التي اختارت البحث عن حبيبها تمّوز، تجازف بالنزول إلى العالم السفلي.
شكرًا أخي واسيني الأعرج. يصعب عليّ أن أناقش القصص والروايات لأنني لم أقرأ قصة أو رواية في حياتي رغم المحاولة مرتين! لكن اسمح لي ببعض الحوار. الشيء الذي تبادر إلى ذهني في سردية هذه المريمات ىالعنق الإنساني وربط ذلك بالثورات العربية هو أن ماحصل للسعوب العربية يمكن هنا أيضًا ربطة بالمسيح الذي صلب وكان أخر كلمات لفظها على الصليب أيلي لما شبثتني (بالأرامية أيلي تعني إلهي) في حين أن مريم نادت أيلي عليك ياولدي.
لا أعرف ربما هذا الربط مجازي لكن أعتقد أنه يشبه إلى حدما الروابط والعمق الإنساني كما جاء في المقال.
اينما حلت حروف الكاتب الراءع واسيني الاعرج ، يحل الجمال وتهون الوحدة بنا مواسي غربتنا بالبحور بين سطوره كم انت جميل بنا ونحن نعشق حبرك . مع فاءق احترامي
مودتي