سردية سوداء من غزة: «إزميل رام» واستقراء خراب مُخَيلة الرجل الشرقي

حجم الخط
1

«إزميل رام» دار الرعاة ـ رام الله 2020، سردية وحشية صادمة من غزة، مسكونة بشهوانية جسد المرأة والتلذذ بقتلها، تكشف وباء وخراب النفس الذكورية، في شخصية شَهْرَيار الغزي «رام» الفنان التشكيلي، صائد النساء السادي، ومُشَرح جثثهن، لينحت منها «التمثال الأجمل للمرأة» في معرض منحوتاته. من خلال تعالق الواقعي والفانتازي، تتراءى صور التوحش المُلازمة لشخصية رام، لكن السردية بترميزها تطرح أسئلة وجودية، حول قتل وتغييب المرأة، في المجتمع الشرقي الذكوري، تناغما مع سؤال شكسبير، على لسان هاملت «أكون أو لا أكون؟ هذا هو السؤال».
شيفرة سؤال السردية المُختبئة في الميتانص: ما الفرق بين المرأة الحاضرة جَسَدًا، والمُغَيبَة روحا في المُجتمع الشرقي الشهرياري، والمرأة القتيلة المُشَرحة، والمنحوتة تِمْثالا في معرض رام في غزة؟ الاثنتان صامتتان ومُخَبأتان في غرفة مغلقة، في النيكروبوليس (مدينة الموتى).
من خلال رحلة استقراء مخيلة رام، يتمظهر فيلم رُعب كابوسي، شبيهٌ بالفيلم الأمريكي جزيرة الخيال Fantasy Island، الذي يتحول فيه الخيال الجامح إلى حقيقة مُرة، لكن في إزميل رام، يُصبح الواقعُ أكثرَ غرائبيةً من الخيال، لا أحد يستطيع الخروج والنجاة من مَشْرَحَة رام السرية المُعَتمة الواقعة خلف الحائط الشرقي لمنزله في غزة والملآى «بالأعضاء التناسلية للمرأة مُنوعة وبأحجام مُخْتلفة، وما يعلوها في كل مساحة من صدور النساء المتمايزة في الحجم والملمس، فلا أذكر أنني رأيتُ صدر امرأة إلا وصار مُقيمًا شرق بيتي». هذا المشهد الأيروتيكي السيريالي، لشهوانية رام بأعضاء أجساد قتلاه من النساء، وكأنه يرسم لوحات تسفح أُنوثَتها كما في لوحات الفنان هنري ماتيس، يُشير إلى محنته وجرثومة فكره. رام صاحب القتل المدروس، مُصاب بانفصام، ويختبئ وراء قناع صاحب معرض منحوتات، عاكسًا صورةً لغريزتَي الجنس والقتل الساكنتيْن فكره فهو «يتمنى مثل نيرون أن يكون للنساء كافة فم واحد، يقبله ويستريح» كما يقوم بسلسلة جرائم، تتأتى باستدراج معارفه، من صبايا ونساء، وممارسة الجنس معهن ثُم قتلهن، وقد اعترف في قرارة نفسه، بأنه جرّب جنونه هذا، مع 13 امرأة في غاية الجمال والرقة، منهن ماريا الفنانة التشكيلية، وليلى طبيبة الأسنان، والمخرجة تشرين نصار ذات التفكير الثاقب، التي رأى في عقلها، القطعة التي تنقص تمثال الجمال، الذي يحلم بنحته. لقد عاش رام مرعوبًا من انفضاح سره وكشف غُرفته، لذا ترددَ في البداية من السفر، إلى إيطاليا لحضور مؤتمر دولي للفن التشكيلي، وحين قرر السفر اشترى قفلا لباب السقيفة، التي يُخفي فيها تمثاله للمرأة الأكمل وبقية تماثيل ضحاياه، خَوْفا من أن تعرف تشرين وأخته بان خباياه. لكنه حين عاد من المؤتمر، اكتشف اختفاء الشعر الذي قام بقصه من أجساد النساء، إثر ذلك استدرج تشرين إلى مشرحته، ومارس الجنس معها ثُم قتلها بالإزميل وشق جمجمتها، آخِذًا دماغَها لتمثاله الذي يعرضه أمام جمهور، يعتمر القبعات السود، ويحظى بتصفيق دام 13 دقيقةً، أكثر من التصفيق الذي حظي به تشارلي شابلن كما ورد في السردية، لكن تنتهي السردية برواية ثانية مُختلفة، بصوت آخر هو صوت تشرين، التي تروي بالتفصيل، أن رام تحول إلى شبح، وأنها التقت شبحه في غرفته المعتمة، وقال لها «في العتمة لَسْتُ رام الذي تعرفينه، إنني مسؤول العالم السُفلي، حانوتي الجميلات» وبعد أن استجوبته واعترف أمامها، بقتل النساء صاحبات التماثيل، قَتَلَتْهُ بإزميله الحديدي الثقيل، وقطعت جَسَدَهُ، ثُم استخرجَتْ عقله ووضعته في رأس التمثال، وقامت بتحطيم تماثيله.

تقع مَشْرَحة رام السرية في غرفة مُغلقة وراء جدار بيته في غزة، وتأخذ بُعْدًا سيميائيًا لتوصيف Dystopia أو عالم الواقع المرير والسوداوي، لمدينة غزة، من اختناق وفقر وحواجز وخوف.

التعالق مع فيلم راشومون ورواية فرانكشتاين في بغداد

تتقاطع هذه السردية الدموية مع فيلم راشومون (1950) Rashomon، للمُخرج الياباني أكيرا كوروساوا، المأخوذ من قصتين قصيرتَيْن بعنوان «في غابة In a grove و«راشومون» للكاتب الياباني ريونوسوكي أكوتاغاوا، وقد قام بترجمة هذه القصص إلى العربية تحت عُنوان «راشومون وقصص أخرى» كامل يوسف حسين (الشارقة، دائرة الثقافة 2004 ) من حيث انفتاح النهاية إلى أكثر من رواية أو بؤرة. يحكي راشومون جريمة اغتصاب امرأة وقتل رجل في غابة، أثناء رحلة لهما عبر الغابات المجاورة لراشومون، في مدينة كيوتو اليابانية، لكن بسبب تعدد الروايات ووجهات النظر، من قبل شهود الحادثة، لم تُعْرَف هوية القاتل الحقيقي. كما أن عالَم الجثث، وصور انتزاع الشعر من الجثث وبيعه، حاضر في راشومون، حيث تقوم الحَيْزبون (العجوز) بانتزاع شعر الميتين من الجثث المنتشرة أمام بوابة راشومون، لتعد منه شَعَرًا مُستعارا. وفي «إزميل رام» تحضر مشاهد راشومون من جثث وجز الشعر من أجساد القتيلات والاحتفاظ به في السقيفة، إضافة إلى الاختلاف في تصوير نهاية الأحداث، وقد بلور فيلم راشومون نظرية (نسبية الحقيقة) أي أن الحقيقة متماهية لا يمكن الوصول إليها. كما يبرز تأثر هذه السردية بعدة أعمال روائية عربية منها «فرانكشتاين في بغداد» -2013 للروائي العراقي أحمد السعداوي، التي حصدت جائزة البوكر العربية لعام 2014، حيث تُصور قيام «العتاك» بصناعة «الشسمة» مخلوق عجيب مكون من أشلاء جثث ضحايا التفجيرات في بغداد. وفي «إزميل رام» تكتشف تشرين في غرفة رام مومياء مصنوعة من عدة أجساد «إنها مومياء، يا للهول! ركزت أكثر فوجدت آثار لصق بين مساحات الجلد المختلفة، إنها مُشَكلة تشكيلا مُتْقَنًا، جسد يتكون من قطع لأجساد مختلفة، يا إلهي، كيف من المُمْكن أن يُصنع ثوب أبيض من قطع الفحم». وبما أن المشهد الروائي العربي المعاصر، مسكون بالكافكاوية، ومصبوغ باللونين الأحمر القاني والأسود الحالك، بفعل سلسلة الحروب اللامتناهية، وحوادث التفجير والقتل الجماعي، فقد ساهم في تطور هذا الجانر، من السرديات الدموية الوحشية مثل «مشرحة بغداد» ( 2012) للكاتب العراقي برهان شاوي، و«نصف للقذيفة» 2014 للكاتبة العراقية سمية الشيباني، و«المشرحة» 2015 للكاتبة اليمنية سمية طه، المتكئة على حادثة واقعية سُميت بسفاح صنعاء أو سفاح المشرحة، وهو عامل مشرحة في كلية الطب في جامعة صنعاء، قام باغتصاب وقتل 16 طالبة من طالبات الطب في جامعة صنعاء لبيع أعضائهن.

ديستوبيا غزة

تقع مَشْرَحة رام السرية في غرفة مُغلقة وراء جدار بيته في غزة، وتأخذ بُعْدًا سيميائيًا لتوصيف Dystopia أو عالم الواقع المرير والسوداوي، لمدينة غزة، من اختناق وفقر وحواجز وخوف، وقد وردت في السردية ومضات تحكي الواقع الميت للمدينة «عدد المقابر في غزة قليل، لكن الموتى فيها كُثْر، يرجع ذلك إلى كثرة مُسببات الموت، وندرة المعنى في البقاء، الناس هنا يتجولون كأشباح،لا يحاولون النظر حولهم، لقد امتد الفقر إلى معظم بيوت غزة، لا عمل لمئات الآلاف من الشباب، وصار المتكلم في غزة مثل راقص بلا جمهور… إنها سنوات سمتها التعتيم على كل شيء، إنك لا تعرف من الذي يكذب عليك»… هذه السردية المُرعبة ثيمتها المرأة، اعتمدت الغرائبية والوحشية لشخصية رام، تعبيرا عن قساوة الواقع وإسقاطات الحصار على غزة، كما أنها توظف تعرية التماثيل البشرية النِسْوِية المُشرحة، تعبيرًا لنقصان حرية المرأة وصرخة في وجه النظرة الشهوانية لها. وهي رُغم المبالغة في وصف المشاهد الأيروتيكية، المُقْحمة غير المُتناغمة وأحداثها الفجائعية، ورغم التكثيف في السرد التاريخي والأسطوري، والديالوغ الفكري الموقفة لحركية السرد، التي تشكل عبئًا ثقيلا على المتلقي، ورغم حضور بعض الأخطاء اللغوية في لغتها الراقية، إلا أنها تشكل صوْتًا جديدًا وجريئًا في رواية الديستوبيا الفلسطينية المُعاصرة من حيث كسر التابو، وتعرية القمع الذكوري للمرأة، وتحمل صوت المرأة الذبيحة مُمَثلا بتشرين «أشفق على المرأة الشرقية، كيف أنها تفكر بمن سيتزوجها حين يبدأ الوعي في التشكل لديها، ونتيجة المؤثر القمعي من الأم والأب، والمجتمع بأكمله، فإنها تمارس الوقت كأنه عداد في انتظار أن يوقفه العريس لتنطلق الحياة الفعلية بعدها، وهذا الوهم، هو أول أسباب العجز لمجتمعاتنا العربية، لأن نصفه منذ البداية مُعَطل، المرأة في هذا المجتمع تعيش بلا هوية، بلا ذات، لا طرق للمرأة في هذه المجتمعات». إنها سردية السخرية السوداوية في تعرية التماثيل الصامتة للمرأة الشرقية، البوصلة للخروج من العتمة.

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نزيه حسون:

    لا شك أنها رواية قاسية باحداثها الفجائعية كما ذكر الكاتب الذي استطاع أن يعكس لنا وبمهارة متقنة تلك الحالة السوداوية التي تعيشها المرأة العربية في خضم المجتمع الذكوري المتسلط …والواقع الدموي الذي يعيشه عالمنا العربي…كما أن الكاتب استطاع أن يربط وبتقنية فائقة أيضا بين كل الروايات التي كتبت عن هذا الموضوع واظهر معرف عميقة وقراءات موسعة في هذا المجال تحية عطرة لكاتبنا المبدع الذي يتحفنا داىما بابداعاته المميزة ومواضيعة الهامة والتي تضيف لبنة جميلة للمشهد الادبي العربي كله

إشترك في قائمتنا البريدية