ينشأ النص الروائي ضمن شبكة من العلائق الأدبية شديدة التعقيد والصعوبة، ويحتاج قرائياً إلى معرفة مسبقة ودربة كافية. من الصعب أن يتحول القارئ الذي لم يقرأ رواية في حياته إلى حَكم. والرواية تبنى داخل نظام رمزي يتعانق فيه التخييل بلغة سردية خاصة، صحيح هي عامة في كونها لغة مشتركة ولكنها تمتلك الخصوصية عندما «يجيّرها» الكاتب لصالح نصه.
مجتمع الرواية هو مجتمع اللغة، والتيمة ليست إلا وسيطاً داخلياً يمنح النص اجتماعيته. لهذا، فالحكم على الأحداث والشخصيات كونها مجرد مرايا عاكسة للكاتب ولحياته، يجعل تقييمنا للنص غير صحيح، بل وقد يؤذي النص وينسف القراءة بوصفها إعادة تركيب لا معنى للرواية قرائياً إلا بها (فولغانغ إيزر). ولعل الأحكام التي صاحبت رواية «هوارية» منشأها سوء الفهم هذا في البداية قبل أن تتشعب الأمور وتخرج عن نطاقها وتسبح في إشكاليات لا علاقة لها بالرواية، بل إن الرواية تحولت إلى مجرد مطية لاختراق وضع ثقافي معقد هو صورة مصغرة لما هو موجود في «البنية» الاجتماعية الكبيرة.
اختارت الروائية الدكتورة إنعام بيوض، كتابة واقعية حكائية سلسة، تقطع مع «الشاعرية» ذات الفيض اللغوي المطنب، التي غزت الكثير من النصوص في السنوات الأخيرة مسترشدة شكلياً بنصوص غادة السمان حيث الصورة الشعرية هي سيدة الكتابة، وليس المعنى. واختارت الكاتبة اللغة الواصفة التي تقول كل شيء مباشرة لترسم المصائر القلقة لشخصيات الرواية التي تصدرت كعناوين داخلية في النص، في مجتمع متأزم عاش حقبة من أصعب حقبه «العشرية السوداء»، حددت العلاقة الهشة والمرتبكة مع الحياة. كيف سيكون وضع إنسان يبحث عن مكان ينام فيه مع إخوته المصطفين تحت «البورابح»؟ ليست وهران إلا ديكوراً وطنياً وربما إنسانياً، إذ إن الحركات الإرهابية والأغنياء الجدد (البقارون) الذين أفسدوا المجتمع، عمقوا الفجوات، وما كان قاعاً تجاوزته الممارسات التي كشفت لنا عن قاع القاع. هذا الخيار الأدبي الواقعي تبعته سلسلة من الممارسة اللغوية، إذ لا وجود للرواية إلا باللغة (رولان بارث) التي تنشأ داخل نظامها.
اختارت الروائية لحظة بدئية (Incipit) غير معقدة كما في الروايات الكلاسيكية، كما اختارت لحظة ختمية (Exipit) للنص الروائي تختم الأحداث ويخرج القارئ برضاه أو بأسئلته، وتنفتح على عالم وهبة تركب حصانها الأباش بعد أن تركت وهم مخطوطة «الياقوتة» بعد أن اندثرت أخبار هاني. نخرج من الرواية ونحن نسترجع تراجيديا مجتمع صنعته القسوة والخيبة والجريمة الموصوفة والمخدرات، لكنه لم يقتل جوهر الإنسان فيهم.
تحتاط الكاتبة منذ البداية مخافة التأويل المغرض لروايتها، تقول في ص 6: «أي تشابه في الأسماء والأماكن والأحداث المذكورة في هذه الرواية ليس سوى محض صدفة». مثل هذه الجمل التي نجدها في كثير من الروايات لها وظيفتان: الأولى للحماية القانونية، والثانية حتى لا ينظر للرواية بأنها مجرد صدى لواقع اجتماعي ينتقده الكاتب؛ للحد من الإسقاطات المجتمعية أيضاً. هذا لم يمنع طبعاً الحملة البائسة التي شهدتها الرواية دون قراءة لدرجة الاحتجاج ضد الكاتبة على أساس أنها أساءت للمرأة الوهرانية ولوهران وغيرها، والشكاوى التي قدمت للبرلمان ولكثير من المؤسسات في ظاهرة غير مسبوقة. ومازلت أعتقد أنهم لو قرأوا الرواية ما حدث الذي حدث. الرواية ظلت في دائرة التخييل في مدار حالة مأساوية يعيشها الناس ليس في وهران وحدها ولا حتى في الجزائر وحدها. تراجيديا التخلف والظلم.
في الجزئية الثانية من الاستهلالات الروائية، أعلنت الروائية جزءاً مما سيكون بين هواية التي تقرأ خطوط المصائر والخطوط والأصوات المتعالية والكلمات المحبوسة في الحلوق وترقب من يحررها ليصل إلى نبضها وعنفوانها (الرواية. ص.7). منذ اللحظة السردية الأولى، فصل هوارية 1 (ص9) ، تضعنا الروائية وجهاً لوجه مع شخصيتها الأساسية وهي بمستشفى وهران، مستلقية على ظهرها تسترجع اللحظة التي قادتها نحو المستشفى وهي مع هشام الذي تعود أن يسوق سيارة R4 الحمراء بيد واحدة وبدون رخصة سياقة، متباهياً بشطارته في السياقة، العاشق للأفلام المصرية من أمه. ثم تنتقل من السارد العليم الواصف، إلى هوارية التي تبدأ في سرديتها بصوتها مباشرة (كما في كل الفصول) وهي تتحدث عن علاقتها بزوجة أخيها هواري، هدية، المنشغلة بجسدها من أجل عشيقها أكثر من أي شيء آخر لمرافقتها للذهاب مع هشام لعيون الترك. وصفتها هوارية منذ البداية بأن لهجتها بذيئة لما تقول لها حركي «مصاصيطك» أي حركي مؤخرتك، أسرعي لأن السيارة تنتظرهما في الخارج، حتى يجب ألا تخطئ موعدها مع عشيقها الطبيب هاشمي الغامض. لا تأبه هوارية برأي أخيها فيها لأنه يراها «مزعوقة» وغير جميلة.
وكل ذلك عبر خطة مرسومة. هدية نحو الطبيب هاشمي، وهوارية نحو حبيبها هشام (الغريب أن كل الشخصيات تبدأ بحرف الهاء؟ لا أعتقد أنها صدفة). كلما أرادت الخروج اصطدمت هوارية برقابة أخيها بالخصوص عندما ارتبط بالمجموعة السلفية، جماعة «عليها نحيا وعليها نموت».
تستعيد هوارية قصتها مع هشام منذ اللحظات الأولى. كلما غادرت المدرسة وهي صغيرة كان يدس الوريقات في جيبها معلناً عن شعوره نحوها مع أنها كانت ترميها ولا تقرأها، إلى أن وجد أخوها إحداها عندها. مجتمع ذكوري، ما إن تغيب الشمس حتى تصبح المدينة رجالية بامتياز (الرواية ص17). بسرعة ترافقه وتكتشف هوارية أن حبيبها مهرب مخدرات يتعامل مع صديقه خيطانو ابن صاحب حانة كارنو للدخول إلى ملهى مونشاطو. هناك تلتقي بهدية زوجة أخيها مع عشيقها وهي في حالة سكر. وهي تقول له بشكل لا يخلو من بذاءة سبق أن بررتها الكاتبة في القاموس اللغوي لهدية: «تبغيني يا العطاي» فهي تتعامل باستخفاف مع هذه الكلمات. إخراج الكلمات من سياقها يثير الانتباه، لكنه هنا جزء من سلسلة كلامية لا يمكن الفصل بينها وإلا سقط المعنى. تتساءل هوارية وهي ترى رواد الملهى: «من أين جاؤوا»؟ (عنوان رواية صديقي الكاتب بلقاسم بن عاشور) هؤلاء البشر حديثو النعمة «البقارون» الذين اغتنوا بلا ثقافة. في الفصل الخاص بهشام، تنكشف لنا الوضعية الاجتماعية المزرية لهذا الشاب الذي لا يجد حتى مكاناً ينام فيه براحة. نسمع سرديته بصوته الخاص التي يرويها وكأنه يحدثنا جميعاً لكي نفهم المآلات. أب مغيب كلياً يدعي أمام الناس أنه يعمل في مصنع الغاز المميع في أرزيو. وأم، هنودة الزينة، بأولاد كثيرين لا أحد يشبه الثاني. الوحيد الذي ترضى عليه ويكبره بأربع سنوات، هو الروجي أو هاني الذي استعارت اسمه من المغني هاني شاكر الذي كانت تحبه. كلما احتاج نبيذاً وهو في حالة سكر، نادى هشام ابنه الكبول (كلمة عاصمية وليست وهرانية. في وهران الفرخ، أي اللقيط) عندما يحتاج إلى النبيذ فيبعثه عند كارنو ليأتي بقنينة نبيذ. يقايضه بالمخدرات التي يجلبها من المغرب. نعرف من خلاله قصته مع هوارية وكيف التقى بها، وكيف أحب أخوها هواري المرأة الفاضحة التي ستصبح زوجته. هاني أيضاً يروي سرديته بكل تفاصيلها ويحلم بالحرقة على الرغم من شدة ذكائه.
يقدمه هشام لأصحابه بنعت مؤثر وقاس: خويا في الميزيرية. يتطوع هاني لرعي أغنام صاحب الحوش. تعلم بعدها ووصل لدرجة قراءة أعلام الصوفية. يتعرف على ابنة صاحب الحوش هبة في سعيدة الذي يرعى أغنامه. يدخل معها في نقاشات دينية. هبة مولعة أيضاً بالصوفية. وقصة المخطوطة العظيمة «الياقوتة» التي اشتملت على كل المعارف المادية والروحية. من أجمل فصول الرواية وأكثرها سمواً حتى أصبح مفصولاً عن بقية وقائع الرواية. يوم تخرج هوارية من المستشفى، تبحث عن هاجر (هيلين هامبرون) القبائلية المنفصلة عن المجتمع والمثقفة بساعتها الحائطية الغريبة التي رميت في الزبالة قبل أن تغادر المستشفى نهائياً.
الشيخ هنان النصاب والمحتال الذي لا يحمل من مشيخته في سيدي يوسف إلا رغباته الجامحة منذ أن رأى هبيرة «قلبه سقط منه». تختم الرواية بوصول طرد كتاب الياقوتة الذي بحثت عنه مع هاني، لم تجد فيه إلا أوراقاً بيضاء. تعود إلى حصانها وتركب حصانها أباش، في مزرعتها التي أعادها إليها أخوها. صورة جميلة ومدهشة مليئة بالشعر، تفتح الرواية على أفق آخر.