«سرقة أدبية» للمكسيكي إيكتور أغيلار كامين… جرائم الكتابة ومؤامرات الوسط الثقافي

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: «يمكن النظر إلى تاريخ الأدب بأكمله على أنه طرس قال فيه ثلة من المؤلفين كل شيء، والبقية مجرد نُسّاخ، بُلْه أو أذكياء… هكذا أصبحت كاتباً .. أنقل بتواضع ما أبهرني وأعيد كتابته بتكبّر. (الرواية)
يمكن الاستناد إلى هذه العبارة من رواية «سرقة أدبية» للكاتب المكسيكي إيكتور أغيلار كامين، كمدخل للعمل ككل، الذي حاول من خلاله المؤلف الكشف عن آليات الكتابة والوسط الثقافي في بلد مثل المكسيك، والمثير في الأمر هو مدى التشابه حد التطابق بين سلوك المؤسسة الثقافية ـ وزارة الثقافة ـ ورجالها، من حيث المؤامرات والدسائس والأسر في قبضة السلطة السياسية مع مؤسساتنا المُبجلة، حتى إننا قد نستبدل بكل سهولة اسم مسؤول ما في الرواية باسم مسؤول آخر، دون أدنى شك، ناهيك عن الوسط الثقافي وجموع مثقفي الحظيرة وألعابهم القذرة وسلوكهم الذي تستعيذ منه الدناءة.
أراد كامين أن يخلق نصاً موازياً لكل ما هو مزيف في الأدب والكتابة، بداية من المقالات المسروقة وحتى العمل الأدبي الأسمى (الرواية) كاشفاً عن فداحات ما اجتمع على تسميته بـ(التناص) والتأويل، وكل تهافت ما بعد الحداثة، وكيف أنها أسهمت في تعميق السرقات الأدبية، دون أن يدري الموسومون بـ(النقاد) أي شيء عن عمليات السرقة هذه، رغم الثرثرة الفارغة ليل نهار عن النظريات وتطبيقها وموضوعات في أغلبها مسروق بدوره من آخرين، وقد أصبحت السرقة بديلاً عن (العنعنة) في تواتر الأخبار، لتصبح سرقة عن سرقة عن سرقة، فلا مجال لحقيقة ولا مجال لأصالة في عمل أدبي. صدرت الرواية عن دار الخان الكويتية للنشر والتوزيع في 2022، بترجمة حسن بوتكي.

الكارثة

دون مقدمات كثيرة، يدخل الراوي في الموضوع، وفي تواتر سريع، بما أن الحديث عن جريمة سرقة بالأساس، التي ستتحول في النهاية إلى جريمة قتل. فبعد فوز الراوي بأكبر جائزة أدبية في الدولة، يتم الكشف عن أنه سارق للعمل الفائز، ومِن مَن؟ من الأديب المُسماة الجائزة باسمه! «ذات اثنين أعلنوا أنني فزت بجائزة مارتين لويس غوثمان، يوم الثلاثاء اتُهِمت في الصحافة بأنني سرقت بعض المقالات الصحافية. يوم الخميس اتُهِمت بأنني سرقت أيضاً موضوع روايتي الفائزة. وفي يوم الاثنين من الأسبوع الموالي وقّع تسعة وسبعون كاتباً رسالة ضدي. صباح ذلك اليوم بالذات اكتشفتُ أن زوجتي هي التي قامت بالتنسيق السرّي بين أولئك الذين اتهموني… يوم الأربعاء الموالي قدمتُ أيضاً استقالتي من منصبي في الجامعة. وتنازلتُ أيضاً عن جائزة مارتين لويس غوثمان».
الكاتب هنا يمثل ــ بخلاف الكتابة ــ سلطة في الوسط الثقافي، فهو من حيث درجته الوظيفية بمثابة ـ لو تحدثنا عن مصر ـ رئيس المجلس الأعلى للثقافة، والخادم والتابع الوفي لما يمكن أن نطلق عليه وزير الثقافة، وعلى كل بلد عربي أن يجد مُسمى لما تماثله هذه المناصب. «كثيراً ما كانت تهمني الشهرة أكثر من الأدب، والسلطة الثقافية أكثر من الثقافة، والنساء من لحم وعظم أكثر من القرّاء المحتملين… لم أتوهم قط أنني سأعيش من الكتابة، قررت منذ البداية أن أكون بنفسي راعياً لنفسي، فظللت دائماً متحيناً لفرص الكسب والتأثير والسلطة التي يمنحها لي هذا المجال».

عالم المرتزقة

ونعود إلى الجائزة التي سمع عنها الراوي منذ 35 عاما في منزل (مارثيلينا) المُنتحلة بدورها، وزوجها الناقد الأدبي (ماتورانا) ومقابلته مصادفة رئيس المكسيك المُنتخب حديثاً، الذي موّل الجائزة بشكل خفي غير مباشر، حيث كانت المرأة وزوجها الناقد هما رعاة الجائزة، والقول بأنها من مالهما الخاص، ثم التبرعات الخيرية، وللمفارقة فازت بعض الأعمال التي سبق وانتقدها ماتورانا بالجائزة، ما منحها النزاهة والمصداقية. فالناقد الكبير كان يتلقى من الناشرين نقوداً لمدحه هذا الكتاب أو ذم آخر.فالراوي تربى في بيت اللصوص، وعرف جيداً كيف تُدار الأمور، ذكر ذلك عند تعيينه مسؤولاً عن المؤسسة الثقافية ـ الرجل الثاني ـ وكيف كان هو ورئيسه يعدّان كشوفاً بأسماء مَن سينالون جوائز الدولة والمنح الثقافية لسنوات مقبلة، وكذا نشر الأعمال الأدبية، وفي الأخير.. أسماء المغضوب عليهم، الذين سيتركونهم يتسولون على قارعة الطريق.

آكلو ميزانيات الثقافة

وهو المُسمى الذي يُطلقه الراوي على الكثيرين من رفاق الوسط الموبوء، ومنهم بالطبع الذين وقعوا بياناً ضده بسحب الجائزة، وكلهم كانت تربطه بهم علاقة منح أو منع، كالرشاوى والصفقات والبعثات الخارجية والوظائف من دون عمل.. «لم يكن أحد يعرف حكاياتنا الصغيرة، لذلك اعتبر عموم الناس انقلاب كل تلك التوقيعات ضدي فضيحة كبيرة».
ولنذكر هنا بعضا من أشكال الموقعين.. «من بين تسعة وسبعين كاتباً وقعوا من أجل الإطاحة بي، كان هناك تسع عشرة امرأة، ومن بين هؤلاء النساء التسعة عشر، عشرة سبق لي أن نمت معهن، أما التسعة المتبقيات فيكبرنني بكثير… نشرت لهن جميعاً ـ التسعة عشر ـ كتاباً أول، ولم أنشر لهن كتاباً ثانياً». وللمفارقة توجد سلسلة نشر تابعة للمجلس الأعلى للثقافة في مصر تُسمى بـ(الكتاب الأول) تشجيعاً للمواهب الواعدة! أما الباقي، فمنهم من عمل معه وتم طرده، ومنهم من أضاع منحة جامعية، أو رفضت الهيئة التي يترأس تحريرها طبع كتاب لهم، إضافة إلى شقيق مساعدته التي كان يتحرش بها، ثم بعض الخصوم القدامى له أو لرئيسه في العمل، ثم آخر ثلاثة.. شاعر يعيش من عدم كتابة الشعر، آخر من البقايا الكحولية لحركة 68، والأخير كان (فولتير) ـ هكذا كان يطلق عليه الراوي، نظراً لمكانة فولتير في الفكر الأوروبي ـ «كان عبقرياً، وهو مركز إعجابي الحقيقي، وخوفي وحسدي وهواجسي». فولتير سارق زوجة الراوي، وكاشف سرقاته الأدبية، والمتورط الكاتب في قتله. لكن.. كيف عرف الراوي بخيانة زوجته؟ عرف ذلك من خلال خبرته بلعبة (الانتحال) نفسها، فعبارة جرت على لسانها، من دون أن تنتمي إلى قاموسها اللغوي، كشفت أنها انتحلتها من آخر.. «إنها تنتحل! قلت في نفسي. إنها تخونني! شخص آخر استقر في رأسها!». وبالطبع لم يكن هذا الآخر سوى فولتير.

اللعبة

وفي سخرية بالغة يشرح المؤلف/الراوي لعبة الانتحال في روايته الفائزة بالجائزة من رواية الكاتب المُسماة الجائزة باسمه، وهي لعبة تتضح أكثر في نقل عمل أدبي إلى وسيط آخر كفيلم سينمائي أو مسرحية ـ قد يذكر البعض المصدر والغالبية تضع في صفاقة صفة التأليف قبل اسم السارق ـ وهنا يتم وضع الحبكة والشخصيات، لكن في سياق مختلف، فالصراع على السلطة بين الحاكم والمتمردين يصبح صراعاً بين عصابات المخدرات، ومجلس النواب يصبح ملهى ليليا ـ وهو إليه أقرب ـ والجيوش الثورية عصابات مخدرات. أما النهاية فلم تكن الفوز برئاسة الجمهورية كما في الرواية الأصلية، بل السيطرة على مدينة حدودية لتمرير المخدرات إلى الجانب الآخر. ويمعن الكاتب في سخريته من أساليب السرد التي بدورها تخفي تواطؤ عمليات السرقة .. «كانت مشاهدي متقطعة متناوبة على طريقة رولفو أو فوكنر، وذلك ما تدرب عليه القارئ الحديث وألفته خرافاته، بعد أن أجبر على القراءة المتقطعة لروايات زمنه، التي يتوجب عليه إعادة تنظيمها في ذاكرته بدل الاكتفاء بقراءتها. كان هذا التعقيد المصطنع مناسباً جداً لما أصبو إليه».

في مديح الانتحال

بداية يعترف الراوي قائلاً.. «إنني ورثت موهبة التركيب والوضوح، لا موهبة الإلهام والجمال». ونتاج هذا الوضوح، وصولاً إلى حِرفيّة الانتحال وأصالته ــ الصفحة الأولى من دون كيخوته أصبحت فصلا من فصول روايته الأولى ـ يسعى الراوي إلى تشييد نظريته عن فكرة السرقة الأدبية، وهي بالفعل أمر يكمن في لاوعي الكثيرين من مُمْتهني الكتابة.. «تنطوي السرقة الأدبية على رغبة تُفهَم خطأ، وهي أنها جريمة يُصاحبها الإعجاب، يسرق المنتحل لأنه معجب، لأن المادة التي يسرقها تبلغ في دواخله بُعداً فنياً فريداً لا يمكنه الوصول إليه، ولا أن يتشرف به إلا بطريقتين.. باستنساخه كلياً، وهذه نسخة همجية للمهنة، أو تغييره بما يكفي ليصعب التعرف عليه لأول وهلة، لكن مع الحفاظ على أثر الإبهار الأصلي الذي دعاه إلى انتحاله كما هو». فالراوي هنا لا يبحث عن تبرير لجريمته، لكنه يكشف عن وجهها الجمالي، إن جاز التعبير، هناك حالة قصوى من الإعجاب، وهو ما يُماثل العشق. ألم يتم انتحال زوجة الراوي نفسها من قِبل كاتب آخر؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية