سرقة الثورات على الطريقة الرومانية

هناك نموذج مشؤوم للثورات الحديثة كان يجب على كل شعوب وثورات الربيع العربي أن تتعلم منه كي لا تقع في الحفرة التي وقعت فيها الثورة الرومانية الشهيرة في عام 1989، ففي نهاية ذلك العام وبعد حكم ديكتاتوري قل مثيله في التاريخ الحديث انتفض الشعب الروماني على الطاغية سيىء الصيت نيكولاي تشاوسيسكو الذي كان صديقاً حميماً لبعض الطواغيت العرب، وتمكن الثوار خلال أيام من إسقاط واحد من أحقر وأعتى الطغاة في القرن العشرين. وانتهت بمحاكمة الطاغية خلال ساعتين فقط بإطلاق الرصاص عليه وعلى زوجته.
لقد ظن الشعب الروماني أنه بعد التخلص من الطاغية أن ثورته قد نجحت، وأن نظام تشاوسيسكو قد ولّى إلى غير رجعة. لكن الثوار كانوا ساذجين للغاية، فقد كان لهم الحرس القديم، أو ما يسمى بالدولة العميقة بالمرصاد. فبعد أن ارتدى الديكتاتور الجديد ثوب الثوار، وامتدح الثورة، وهنأ الشعب على ثورته، راح من وراء الكواليس يخطط لانفلات أمني رهيب في البلاد، حيث ﺑﺪﺃﺕ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎﺕ ﻣﻦ ﺍﻷﺷﺨﺎﺹ ﺍﻟﻤﺠﻬﻮﻟﻴﻦ ﻳﻬﺎﺟﻤﻮﻥ ﺑﻴﻮﺕ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﺍﻟﻤﻨﺸﺂﺕ ﺍﻟﺤﻴﻮﻳﺔ، ﻭأخذ ﺟﻨﻮﺩ ﺍﻟﺠﻴﺶ ﻳﺘﺼﺪﻭﻥ ﻟﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﺭﻭﻣﺎﻧﻴﺎ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺣﺮﺏ، ﻣﻤﺎ ﺗﺴﺒﺐ في ﺇﺣﺴﺎﺱ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﺑﺎﻟﻬﻠﻊ ﻭﺍﻧﻌﺪﺍﻡ ﺍﻷﻣﻦ. وﻣﻊ ﺍﻻﻧﻔﻼﺕ ﺍﻷﻣﻨي ﺍﻟﻤﺘﻌﻤﺪ وغياب الخدمات الأساسية، ﺍﺭﺗﻔﻌﺖ ﺍﻷﺳﻌﺎﺭ، ﻭﺃﺻﺒﺤﺖ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ في غاية الصعوبة والفوضى.
في هذه الأثناء، كان الإعلام ﺍﻟﺨﺎﺿﻊ ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ يلعب ﺩﻭﺭﺍً ﻣﺰﺩﻭﺟﺎً، ﻓﻬﻮ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺳﺎﻫﻢ في ﻧﺸﺮ ﺍﻟﺬﻋﺮ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﺸﺎﺋﻌﺎﺕ ﺍﻟﻜﺎﺫﺑﺔ ﺍﻟﻤﺘﻮﺍﻟﻴﺔ، ﻭﻓﻰ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﺭﺍﺡ ﻳﻤﻌﻦ في ﺗﺸﻮﻳﻪ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﺜﻮاﺭ. ﻭﺗﻮﺍﻟﺖ ﺍﻻﺗﻬﺎﻣﺎﺕ ﻟﻤﻦ ﻗﺎﻣﻮﺍ ﺑﺎﻟﺜﻮﺭﺓ ﺑﺄﻧﻬﻢ ﺧﻮﻧﺔ ﻭﻋﻤﻼﺀ يتلقون ﺃﻣﻮﺍﻻً ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺇﺳﻘﺎﻁ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺗﺨﺮﻳﺐ ﺍﻟﻮﻃﻦ. ومع ارتفاع حدة الهلع وعدم الاستقرار والإزمات الطاحنة، ﺗﺄﺛﺮ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻮﻥ ﺑﺤﻤﻼﺕ ﺍﻟﺘﺸﻮﻳﻪ ﺍﻹﻋﻼﻣﻰ، ﻭﺑﺪﺃﻭﺍ ﻳﺼﺪﻗﻮﻥ ﻓﻌﻼً ﺃﻥ ﺍﻟﺜﻮﺍﺭ ﻋﻤﻼﺀ. ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺣﺲ ﺍﻟﺜﻮﺍﺭ ﺑﺄﻥ ﺇﻳﻠﻴﺴﻜﻮ ﻳﺴﻌﻰ ﻹﺟﻬﺎﺽ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ، ﻧﻈﻤﻮﺍ ﻣﻈﺎﻫﺮﺓ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺭﻓﻌﺖ ﺷﻌﺎﺭ: ﻻ ﺗﺴﺮﻗﻮﺍ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ…..ﻓﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺇﻳﻠﻴﺴﻜﻮ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻭﺟﻪ ﻧﺪﺍﺀ عبر شاشات ﺍﻟﺘﻠﻴﻔﺰﻳﻮﻥ ﺇﻟﻰ من أسماهم ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﺍﻟﺸﺮﻓﺎﺀ. (ﻻﺣﻆوا ﺗﻜﺮﺍﺭ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ). ﻭﻃﺎﻟﺒﻬﻢ ﺑﺎﻟﺘﺼﺪﻯ ﻟﻠﺨﻮﻧﺔ، ﻭﻗﺎﻡ ﺇﻳﻠﻴﺴﻜﻮ ﺳﺮﺍً ﺑﺎﺳﺘﺪﻋﺎﺀ ﺁﻻﻑ ﺍﻟﻌﻤﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﻢ، ﻭﺃﺷﺮﻑ ﻋﻠﻰ ﺗﺴﻠﻴﺤﻬﻢ، ﻓﺎﻋﺘﺪﻭﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺜﻮار، ﻭﻗﺘﻠﻮﺍ ﺃﻋﺪﺍﺩﺍً ﻛﺒﻴﺮﺓ ﻣﻨﻬﻢ.
لاحظوا أيضاً أن الطاغية الجديد أطلق على عصابته التي انقلبت على الثورة وسرقتها، اسم «جبهة الخلاص أو الإنقاذ الوطني» التي تكونت من قيادات الصف الثاني من الحزب الشيوعي الروماني المنحل. وقد عمدت الجبهة إلى إطلاق العنان لفلول النظام البائد، فبدأت بالجيش، وعقدت صفقات مع جنرالاته. ورغم إعلان الجبهة نيتها عدم خوض انتخابات 1990، وأنها غير طامعة بالسلطة أبداً وأن هدفها فقط إنقاذ رومانيا، إلا أنها أعلنت عن تأسيس حزب سياسي عند اقتراب موعد عقد الانتخابات، واستخدمت وسائل الإعلام الحكومية بكثافة – والتي كانت ما تزال تحتكر الفضاء الإعلامي في البلاد – وقامت بتعبئة الناخبين من خلال شبكات الحزب الشيوعي القديمة في الريف والحضر، فتمكنت الجبهة من حسم أغلبية مطلقة لصالحها في أول برلمان روماني بعد الاستقلال، وهو البرلمان الذي وضع دستوراً يطلق صلاحيات السلطة التنفيذية وخصوصا الرئيس. وفي 1992 عقدت أول انتخابات رئاسية خاضها إيون إليسكو رئيس جبهة الإنقاذ، وأسفرت عن فوزه بأغلبية مطلقة قاربت 85% من أصوات الرومانيين طبعاً عبر عميلة مزورة من رأسها حتى أخمص قدميها. فباتت رومانيا برلماناً ورئاسة في يد كوادر الحزب الشيوعي السابق التي تمكنت من إعادة إنتاج سلطتها بعد التخلص من تشاوتشيسكو، حسبما تذكر الموسوعة السياسية حرفياً.
لقد نجحت (جبهة الخلاص أو الإنقاذ الوطني) في إجهاض الثورة الرومانية بعد سنه ونص فقط من قيامها، وفقدت الثورة الكثير من التعاطف الدولي لها، بينما استمر فلول تشاوتشيسكو في السلطة لعشر سنوات بعد الثورة الشهيرة.
انظروا حولكم في بلاد الثورات العربية، وقارنوا ما حدث في رومانيا بما يحدث في بعض بلاد الربيع العربي، فستجدون أن الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ أن لا أحد يتعلم من التاريخ، كما قال هكسلي ذات يوم.
وسلامتكم!

٭ كاتب واعلامي سوري
[email protected]

د. فيصل القاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول انيس من تونس:

    مقال رائع

  2. يقول Ayoub02:

    تطلب منا ان نقرأ التاريخ ونتعلم الدروس من رومانيا والله انك لتعيش في عالمك الخاص!!! فإن كان نصف العرب لم يدخلوا مدارس فكيف لهم ان يعرفوا موقع رومانيا ومابالك بثورتها؟؟؟؟؟إن الثورات العربية اصبحت العن من ثورة رومانيا لان الغرب والصهاينة دخلوا بحذائهم فيها

  3. يقول خليفي محمد:

    لا اشك. في انك كنت صغيرا يوم ان اطيح. برئيس رومانيا…… وتكون قد سمعت فقط. . ابان حكم شاوسيسكو كانت رومانيا. تملأ اسواق اوروبا بمنتوجاتها…… وعند الاطاحة به لم يترك. اي فلس دينا على رومانيا……. وكان صديقا. للقضية الفلسطينة……. ولم يجد الانقلابيون شيئا ثمينا كان يملكه هذا الذي نعته. بالديكتاتور . كان شيوعيا غير انه لم يكن خائنا لرومانيا. وقد راح صحية الحرب. الباردة…… ولم يعدمه. شعبه وانما تم ذلك في بلد مجاور…. اما عن الحكام الدكتاتوريين الذين كانت له علاقة بهم . فهم جمال عبد الناصر. وبومدين. وصدام وهؤلاء كانونوا من الذين يشهد لهم الغرب الذي. اراء تهلل له بحبهم لوطنهم . ومقارعته . وكم سعوا للاطاعة بهم. بسبل خسيسة . ان الذين نراهم اليوم نموذجا للحرية. لم. يقوموا في زمن. بالنظر الى الشعب الكردي بعين رحمة…. لقد قاموا بتوزيعه بين ايران والعراق وسوريا وتركيا.. ولن يقوموا اليوم باعطائه. شيئا رغم تودد وخدمة حكام ومثقفين. للغرب واسرائيل التي تنفخ لها في الكير.
    ان التهليل للثورات التي جلبت الشرور بدل السرور وكان العديد من الفضائيات. خادمة لاجندة لن بتبين الكثير من المثقفين بعد ابعادها…… وان تبينوا فهم من العمالة اقرب الى العمل الشريف…… ولذلك اقول انك لم تقدم شيئا يمكن ان تذكر به.

  4. يقول Rebhi-كندا:

    ما حدث في سوريا لا يعتبر ثوره ولا يرقى الى اي من درجاتها، فهي ليست اكثر من معارضه مسلحه بدأها بعض ضباط الجيش واتسعت مع انضمام المسلحين الاسلاميين من كل حدب وصوب، اما الشعب السوري فلم يخرج الى الشوارع بمئات الالوف لاشهر عديده مطالبا” بأسقاط النظام كما حدث في مصر واليمن وتونس، ولذلك لم يتحقق اي شيء على الارض فيما يتعلق بنظام بشار الاسد. وبمعنى اخر ما يحدث في سوريا الان يشبه ما حدث في ليبيا في السابق وهو اسقاط نظام الحكم بالقوه المسلحه وهذا ما يفسر الصدامات المسلحه بين الجماعات المسلحه التي شاركت في القضاء على حكم القذلفي في ليبيا واالتي تريد لنفسها حصة من هذه الغنيمه، وهو الامر الذي لا نراه يحدث في مصر واليمن وتونس التي تعاني من اضطرابات وعدم استقرار سياسي اكثر منها صدامات مسلحه ( في حاله اليمن، جاءت المواجهات المسلحه نتيجة عوامل وتدخلات خارحيه من قبل ايران من خلال دعم الحوثيين التي استفاد منها نظام علي عبد الله صالح، وليست من تداعيات ثورة الشعب اليمني وبالتالي لم يتمكن اليمنيون من استكمال ثورتهم). لقد ادى تقاعس الشعب السوري عن التظاهر والخروج الى الشارع الى تردد قادة وافراد الجيش السوري في الانشقاق والتخلي عن دعم النظام السوري الامر الذي حافظ على تماسك الجيش السوري وزاد من قدرته على افشال اهداف الجماعات المسلحه المعارضه في اسقاط نظام الحكم لأكثر من اربع سنوات، كما ساهمت سلبية الموقف السوري الشعبي ايضا” في تشجيع ايران وحزب الله على التدخل لصالح النظام والحفاظ على تماسكه، ذلك ان هذه الاطراف ما كان لها ان تتدخل على هذا النحو لو انها رأت زخما” شعبيا” يدعم المعارضه المسلحه ويقف ورائها. وبأعتقادي الراسخ ان الشعب السوري لا يريد التخلص من نظام حكم الاسد، او انه لا يريد ان يدفع ثمن تحرره من سطوة نظام مجرم من خلال مقاومته ومواجهته بالشارع، وللاسف ان الشعب السوري ( وقبله الشعب االعراقي) اختار اللجوء الى الدول المجاوره او الى اوروبا بدلا” من التحيز الى احد الاطراف بمواجهه الطرف الاخر. فاذا اراد السوريون بفاء نظام الحكم الحالي في بلادهم عليهم الوقوف الى جانب جيشهم في مواجهة القوى المسلحه في بلادهم، واذا ارادوا التخلص من نظام الحكم عليهم الوقوف الى جانب المعارضه بشكل علني وواضح لا ان يختاروا اما السكوت بأنتظار تدخل امريكا لتخليصهم من الاسد وشبيحته او الهرب واللجوء. وبالمناسبه غير السعيده، تميل الشعوب العربيه الى اللجوء والتشرد في بلاد العالم والعيش بمخيمات بدلا” من الوقوف والمواجهه والتضحيه لفرض ارادتهم.

  5. يقول أ.د. خالد فهمي - تورونتو - كندا:

    عزيزنا د.فيصل…شكراً على المقال الجاذب والملئ بالعبر…

    تختتم المقال بالقول…أن الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ ..هو أن لا أحد يتعلم من التاريخ !!! كما قال الفيلسوف الانكليزي ألداوس هكسلي

    ولربما هذه هي من صفات البشر الاساسية والسيكولوجية… فكيف يتعلم من التأريخ أذا كان ذات الانسان يصعب عليه التعلم من خبرات الاخرين على المستوى الشخصي الفردي !!!

    أعتقد أن البشر لو كانوا يتعضون من بعضهم البعض أو من أحداث التأريخ لكان العالم أكثر أمناً و أقل وحشية !!!

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية