النزوع إلى التجريب الشعري لا يعني تحويل القصيدة إلى حقل ألغام، ولا حتى توريط الشاعر بمغامرات الشطار، بقدر ما تعني دفع الشاعر إلى مغامرة التجاوز، ليكون خارج لعبة المركز اللاوعي للتاريخ، وللأبوة الشعرية ولذاكرة العائلة.
هذا التجاوز ليس سهلا، إنه أيضا خيار الوعي، والذهاب إلى الكتابة الجديدة، بوصفها حساسية، وغواية، وسؤالا، إذ تلبس القصيدة القناع الاستعاري والشبقي للجسد، حيث الشغف بـ«التململ» والضيق، والتوق إلى ما يشبه الخروج والتعرّي، والتمرد على النسق والتاريخ والذاكرة. وهذا ما يضع شعراء التجريب أمام لعبة المفارقة، والمختلف، والسعي إلى تفريغ القصيدة من ذاكرتها، ليس لكي تصطنع بياضا أو محواً، بل لكي تجرّ معها قلق الشاعر الشخصي، إلى غابة الأسئلة، وإلى التلذذ بنزق الشك المعرفي والاستعاري، وبنزق الكتابة، التي يطلق عبرها الشاعر، فراشاته، أو يرمي حجره، أو ينزع عن اللغة قميصها الميثولوجي.
سركون بولص قد يكون شاعرا بهذا الامتياز، فقلقه مهجوس بالفقد، ولغته مثقوبة الذاكرة، ومدينته اتسعت مثل أي مدينة كوزموبوليتية، وأحلامه مشبوبة بالحرية، وأحسب أن «حيازات» كهذه تكفي لدفع الشاعر إلى المغامرة، وربما إلى مزيد من القلق، لاسيما «قلق المكان، الذي يتبدى عبر قلق اللغة ذاتها. أي قراءة لسركون لا تغفل نزعته التجريبية، ولا تغفل خفّة لغته، وهو يكتب عن الجسد والهوية، وشغف البحث عن الغائب، إذ تضعنا قصيدته أمام شاعر يلتصق تجريبه الشعري، بقلقه الشخصي، بكل الأصوات التي تصطخب داخله، مثلما تمور بالأسئلة، التي يصنعها وعيٌ حادٌ، تشكّلت فرادته وخصوصيته عبر «جماعة كركوك» فهذه الجماعة لا أيديولوجيا واضحة لها، لكنها تنماز بأفكار وهواجس مشبوكة، بأفكار الحداثة والتنوير والانفتاح الحر على الاخر، بعيدا عن رعب الأيديولوجيا الصارمة، التي كانت تعيشها المدن السياسية العراقية مثل، بغداد والبصرة والموصل.
المرحلة الثانية من شعرية سركون كانت بعد تقوّض «جماعة كركوك المؤسِسة» ومجيء فاضل العزاوي وجليل القيسي ومؤيد الراوي وسركون وصلاح فائق إلى بغداد، وهو قدر أغلب شعراء مدن الهامش، فبغداد الستينيات كانت مركزا «كونيا» جاذبا للتحول العاصف في الأدب والفكر والصراع السياسي، وكانت مقاهيها ومجلاتها وصحفها عوالم صاخبة بالتحول. حضور «جماعة كركوك» إلى بغداد، صنع له صخبا استثنائيا، في الشعر وفي القصة، إذ لفت سركون الانتباه إلى عوالمه، وإلى سحر لغته، في كتابته للشعر وللقصة، مثلما أثارت تدفقات مؤيد الراوي الشعرية أسئلة حول تماسك وعيه الثوري، مع رؤيته الشعرية، وهو الذي دفعه إلى العمل في الصحافة الثورية الفلسطينية، كما أعطى لفاضل العزاوي رياديته في مسارات الكتابة الجديدة والمختلفة، التي أفرزت «البيان الشعري» عام 1969 بوصفه حدّا مهما في تاريخ التحول الشعري العراقي. مثلما أعطت للقاص جليل القيسي تميزه كمجدد في كتابة سرديات القصة الجديدة، عبر جدّة مستوياتها الرمزية والبنائية، وطبيعة معالجتها لأزمات الإنسان المعاصر، في اغترابه وفي متاهته، وفي علاقته الملتبسة مع الواقع والسلطة والتاريخ.
النزوع إلى التجريب الشعري لا يعني تحويل القصيدة إلى حقل ألغام، ولا حتى توريط الشاعر بمغامرات الشطار، بقدر ما تعني دفع الشاعر إلى مغامرة التجاوز، ليكون خارج لعبة المركز اللاوعي للتاريخ، وللأبوة الشعرية ولذاكرة العائلة.
استعادة سركون
بقطع الخلاف أو الاجتهاد حول ريادة سركون بولص لقصيدة النثر العراقية والعربية، فإن أهميته تكمن في القيمة الفنية المميزة لقصيدته، ولطبيعة المناخ الذي تتحرك به، ولتفاعلها مع «الصخب» التحديثي الذي تعيشه مدينة كبرى مثل بغداد، لكن طغيان الأدلجة والعصاب، هو ما استفزه، وما وضعه إزاء خيارات وجودية صعبة، وإحساس عميق بالطرد الأنثروبولوجي/ الهوياتي، الذي قاده للبحث عن مدينة أخرى تطمئن لها روحه المطارَدة، فكانت بيروت وجماعاتها الشعرية هي الملاذ، والمهرب، التي تركته ايضا نهبا للقلق وللضياع ولهواجس «الوصول إلى مدينة أين» وهو عنوان أول مجاميعه الشعرية.
استعادة سركون بولص، تفتح أفقا ـ ولو ضيقا- لقراءة ظاهرة هذا الشاعر المتعالي بقلقه، ولمعاينة ما خفي في أنساق « اللحظة الشعرية العراقية» تلك اللحظة التي عاشت مركّب التحول، وهاجس المطاردة، والخوف من الضغوط، التي بدأت ملامحها بالتشكل، عبر تضخم ظواهر الأدلجة والعسكرة والعنف الاجتماعي والهوياتي. سركون المُستَعاد، سيظل خارج لعبة الاحتفاء، وسيكون الداخل إلى غواية «المكوث الشعرية» حيث هو «الفتى المشتعل» كما سمّى بول أستر الشاعر الأمريكي ستيفن كرين، إذ يصطدمنا دائما بفرادة قصيدته، وبحيوية وعيه الحاد، وبرؤيته العميقة للأشياء التي تحوطه، باللغة التي جعل من طراوتها وبنيتها التشكيلية والرؤيوية نبضا متدفقا وصعبا، وبما يمنح الكتابة تلك الحساسية التي تستفز شاعرها للتجاوز دائما. علاقة سركون باللحظة الراهنة، هي ذاتها علاقة لعبة اللغة بتأهيل المكوث، عبر تجديد أدوات الشاعر، وباتجاه تجديد وعي القارئ أيضا، ولما يمكن أن تصنعه القصيدة من شغف، ومن لذة، ومن رغبة في البحث عن ذات الشاعر اللجوجة داخل قصيدته، فالشاعر يظل في نوبة بحثٍ دائم عن ذلك المكوث، وعن بيت وجودي يربطه بما قاله هيدغر عن هولدرلين، لاسيما ما يتعلق بعلاقة اللغة بالكينونة، والهوية باللغة، واللغة هنا تتبدى عبر أن تكون وظيفة للإشباع، ولإطلاق ما يشبه شهوة البقاء، وأحسب أن سركون وضع قارئه خارج الالتباس، وداخل منطقة التشهي، تلك التي تتطلب وعيا مُستنفرا، ليس في القصيدة ذاتها، بل بما تتركه من قلق، ومن تحريض، ومن لذة وإثارة، وبما تثيره أيضا من أسئلة، تخص الشعري في بنائه وصوره وتقانته، وفي ما بعد الشعري، حيث الذات اللجوجة، القلقة، وحيث الهوية التي تتسلل شيفراتها من ثقوب الاستعارات، وحيث الجسد المنهوك تحت سطوة الأمكنة، وحيث الوعي الذي يتقاطع مع الهيمنة، وهذا ما يجعل قصيدة سكون وكأنها لعبة باذخة وخطرة، ومغامرة لم يطق التخلي عنها، لأنها الوحيدة التي تطهره من رجس الواقع، ومن ذاكرة الخوف، لذا خرج بقصيدته ووعيه ومغامرته إلى العالم، لكي يجاهر بالحضور، ولكي يصرخ دون رقابة، ولكي يضع هويته على الطاولة بعيدا عن الافتراس.. لكن الخروج الشعري لا يشبه خروج جند مهزومين، إنه خروج اللاعودة، حيث «الاين» هو جوهر السؤال الوجودي الذي يمسّ المكان والكائن والكينونة، مثلما يتعالق باللغة، وهي تصطنع عبر مجازاتها، ورؤاها، عالما تكون القصيدة هي شفرته التي توخزه، وتفتح له طلاسم اللغة.
أصعقيني يا قصيدة،
أسْقطي وجهي وعرّيني، أفيقي،
في زمان ساحرٍ في مدنٍ لا أعرفها،
تسحر البحر كأعمى بنسيج الأبدية.
آه عرّيني اتركيني نائماً،
أسمع العالم يبكي في المفاتيح
وأصغي لأنين الأبجدية،
اردمي عاصمتي فوق قناعي،
اردميها واقتليني يا قصيدة.
القصيدة التي لا تطمئن للمكان
يمكن القول: إن سركون لم يستسغ لعبة أن يكون جزءا من جيل صاخب، بقدر ما أراد أن يكون ممثلا لذاتٍ صاخبة، ولأن الثقافة العراقية بطبيعتها مسكونة فكرة الجماعات والأجيال والبيانات، فإنها فرضت نوعا من «الهوية الشعرية» عليه، بوصفه جزءا من جيل وجماعة، ومن تجريب، يعيش رغبة الكشف، والبحث عن ذاته، لذلك سعى دائما أن يستكنه الأشياء من حوله، أن يندفع نحو تمثيلات لغوية، وتقانات أسلوبية، تدخل في سياق التجريب، لكنها تدخل أيضا في الأسئلة الذهنية التي أراد من خلالها الإيهام بالخلاص اللغوي، كتعويض وقناع للخلاص العوليسي، وعبر تعقب خطواته، ورؤاه وهي تستكشف العالم، ليستعيد معها قوته الرائية، قوة الشاعر وروح المخلّص، لذا بدت فكرة خرق المكان، هي الأكثر مناظرة مع خرق اللغة، والأكثر تمثيلا لهوس الشاعر في كتابة قصيدته التي لا تطمئن، والتي تجوس، وتصغي، وكأنها تعيش فعلا صخب وجوديا عارما، تُعرّيه اللغة الغاطسة باستعارات المحذوف والمخفي، تلك التي تشبه روح «المسيحي» الباحث عن أرض/ لها حمولة الجلجلة..
تمشي فتدفعك الريح من الوراء،
باردة كأنفاس مقبرة،
وتقرأ بعض العناوين عن أرضك البعيدة،
حيث الحرب لا تنام،
صيحات المسافرين ما زالت ترنّ فارغة بين الأنفاق،
لكن تحت دمائك عاصفة من صيحات أخرى،
لا تكفّ عن الانقصاف،
لحظة سركون التي نستعيدها كأثر، وكتوهجٍ للتحول الشعري، تكشف لنا، وهي مسألة نقدية وتاريخية، عن علاقة الشاعر بالحياة، وعن علاقة هويته بالتاريخ، وعلى علاقة وعيه بالسؤال الذي يطرحه الواقع، وبما يجعل هذه العلاقات مادة للدرس الثقافي النقدي، وحتى للدرس الأنثروبولوجي الذي يجعلنا نستعيد معها التحولات الإشكالية للنهضة العربية، حيث قادها عدد من المثقفين التنويرين المسيحيين الذين وجدوا في التنوير، مغامرة لنزع «السحر العصابي عن العالم» وللخلاص من عقدة الهوية البطرياركية، وللأدلجات التي جعلت الفكرة والقصيدة أمام مذابح نستعيدها اليوم مع حروب الهويات والجماعات التي تمارس طردها القاسي للاخر..
كاتب عراقي
سركون بولص شاعر محظوظ قبل أي وصف آخر لكن هذا الحظ تخلى عنه بعد أن وصل الى وعاش في امريكا ولع سركون باللغة الانكليزية وبالشعر الانكليزي حبب اليه الشعر وصور إليه الحياة الرومانسية في الغرب . خيبته هذه الحياة فمكث فيها سنين طويلة غير فاعل وعرف مثل أي عاقل أن حظوظه التي نشأ عليها غير موجودة إلا على أرضه أو على الأقل بين الأدباء العرب من اصدقائه وغيرهم . منطلقا من الشعر الاجنبي الى العربي كتب الشعر شعرا جميلا وجديدا قد لا يخلو من بعض الهفوات اللغوية التي تذكر بهفوات جبران خليل جبران دون أن تمثل نقيصة في شعره لم اجده واسع الخيال مثلما وجدته حساسا كشاعر وصل الى فرنسا في نهاية الثمانينيات مسبوقا بشهرته ولم يكن ، خلا قصائده وترجماته ، أصدر كتابا وبالفعل كان الحظ في انتظاره
. استقبله الشاعر كاظم جهاد واحتضنه وقدمه الى لفيف من المثقفين وكانوا يعرفونه على السمع واحتفوا به احتفاءا بالغا وأحبوه فقد كان كأنسان محبوب جدا لا يكذب ولا يتبجح بوهيمي حتى النخاع تطارده المثقفات العربيات ويستسلم لهن بسهولة ويطارد هو البارات كركراته مسموعة لا يلتفت الى احاديث الشعر إلا قليلا ومع المهتمين بالشعر الحديث حقا ولكن للأسف هذه البوهيمية لم تتجل على تمامها في شعره لم يسعفه الوقت فأنجز على وجه السرعة أغلب أعماله المعروفة وربما مشاغل أخرى وعلى حد علمي فإنه مدين الى كاظم جهاد بديوانيه الأول والثاني وربما ايضا في متابعات اخرى لعبد القادر الجنابي الذي لم يكن يتأخر حينما يتعلق الأمر بالشعر لست متأكدا ولكني كنت مضطلع والفضل الذي لايمكن ان ينكر ايضا يعود الى الشاعر خالد المعالي في المرحلة اللاحقة في المانيا في كل ما تبقى من اعماله حيث وضع دار نشر الجمل تحت امره بعد ان تبناه حرفيا كصديق وكشاعر . رحم الله شاعرنا المبدع سركون وطيب الله خاطر اصدقائه وقرائه .
كان لي الشرف العظيم أن أتعرف على الشاعر الكبير سركون بولص في أثناء دراساتي في سلك التبريز أستاذا طالبا. آنذاك، جاء الاختبار في قصيدة من قصائد سركون بولص التي يتحدث فيها عن جبران خليل جبران ونايه، فقمت بقراءة هذه القصيدة قراءة عاشقة إكراما لهذا الشاعر.