قطار سريع من اللاشيء إلى اللاشيء… أسئلة عن الجدوى في عهد السيسي

في مصر وفي إجماعٍ قل ـ إن لم نقل انعدم ـ نظيره يجأر الناس عامةً، وعاملون في القطاع الطبي، بالشكوى من فداحة انتشار هذه الموجة من جائحة كورونا، التي تحصد الناس، حتى صارت صفحات التواصل الاجتماعي أشبه بصفحات الوفيات في الجرائد.
وحدها الحكومة المصرية تنكر وتدلس وتكذب، عن أعداد الوفيات، مستعيضةً عن ذلك بإطلاق أرقامٍ هزيلة تعجز عن إقناع أحد؛ ربما ينبغي أن لا يثير ذلك الدهشة، ففي التصريح بالإحصاءات الحقيقية (بفرض قيامهم بها) اعترافٌ بالتقصير وتهرؤ المنظومة الصحية الحكومية، ما قد يفتح باباً للجدال والحوار في ما تبقى من المجتمع، أو ـ لا سمح الله ـ صوت من هنا أو هناك يتساءل عن دور ومسؤولية الحكومة، أو ربما يتجرأ فيدين معرضاً بفحش التكلفة المبهظة للعلاج الخاص، الذي يظل، أسوةً بالحكومي، دون المستوى، وحينذاك لن تعدم من يتذكر فيُذكر بالبند المفترض إنفاقه على الصحة، في دستور السيسي نفسه لا غيره، وقد تتم مقارنة بنسب الإنفاق في الخارج وما اتخذ أو فُرض من إجراءاتٍ.
في مصر السيسي أيضاً يستمر نزيف الأطباء والأطقم الطبية من شتى المراحل السنية بمعدلاتٍ مدهشةٍ مؤلمة، جراء نقص الإمكانيات ووسائل الوقاية، وعوضاً عن التصدي لذلك النقص، الذي يُعد بحقٍ ومن دون أدنى مبالغة جريمة، أو الاحتفاء بالشهداء وتكريمهم، والتعبير بكل الوسائل عن الامتنان، وتعويض الأسر مادياً، والتكفل برعاية الأطفال، مع الاعتراف بأن ذلك لا يمكن أن يرقى لأن يشكل بديلاً عن الفقيد أو الفقيدة، نجد الحكومة تماطل وتفاصل رافضةً الاعتراف بكورونا سبباً لكثيرٍ من الوفيات، لكي لا تدفع.
في مصر السيسي أيضاً يتم الإجهاز على ما تبقى من المشروع، الذي وإن عده البعض هزيلاً، إلا أنه يظل المشروع التنموي الوحيد والجاد منذ نصف القرن العشرين الثاني في مصر، بتصفية مجمع الحديد والصلب، الوحيد الذي ينتج من خام الحديد المستخرج من مصر، والذي دعم المشروع الحربي وشكّل رافعةً للصناعة المصرية. في مصر السيسي أيضاً أُضير وديس على عشرات الملايين من ذوي الدخول الثابتة، المنسيين بحق، بتعويم الجنيه، ما هوى بقيمة مدخراتهم الضئيلة ونهش رواتبهم التقاعدية الشحيحة في المجمل، وأسقط كثيرين منهم بجرة قلم من حالة الستر والتبلغ بشق الأنفس والكفاف، إلى درجة الفاقة وعداد المعوزين، معتمدين على ما تبقى من مدخراتهم (المنكمشة القيمة) وشبكة الدعم الاجتماعي المشدودة.

أهم شاغل لدى نظام السيسي هو النظام نفسه، استمراره بتحالفاته الطبقية بموقع الضباط المتميز فيه واستمرار السيطرة بالقبضة الحديدية

في مصر السيسي عشرات آلاف المعتقلين والمختفين قسريا، وآلاف القتلى بدمٍ بارد، وفي السجون وتحت التعذيب، ويخرج علينا هاني مهنى ليريح قلوبنا فيطمئنا بأن سجن «الكبار» حيث قضى ستة أشهرٍ من حكمٍ بخمس سنوات برفقة حبيب العدلي وابني مبارك وهشام طلعت مصطفى، الصادر بحقه حكمٌ نهائي في جريمة قتل، هذا السجن يتسع للآلاف مساحةً، وقبع فيه حينها أقل من عشرين شخصاً، وأن به صالات للألعاب الرياضية وspa، ولم يخجل. في مصر السيسي ملايين العاطلين والفقر ينهش أكثر من نصف الشعب، على أقل تقديرٍ وتعريف. في مصر هذه يعقد السيسي اتفاقاً مع شركة سيمنز لإنشاء قطارٍ كهربائي، يربط العين السخنة بالعاصمة الجديدة بالعلمين بتكلفة إجمالية قدرها 360 مليار جنيه مصري، أي بما يزيد عن ربع ميزانية مصر المعلنة.
من العبث في الحقيقة السؤال عن الجدوى الاقتصادية، فهي على الأغلب غير حاضرة، أو ليست هي الاعتبار الأول إن وُجدت، وإلا تعين علينا أن نسأل عن جدوى إجراءاتٍ ومشاريع كثيرة على رأسها التفريعة الجديدة التي لم نعد نسمع عنها؛ في الحقيقة لقد كفانا السيسي مشقة البحث والتنقيب عن الإجابة إذ قال ما معناه أن دراسات الجدوى كانت لن ترجح الغالبية الساحقة منها، وإن استمر في تسميتها بالإنجازات، بعد أن ثبت بالفعل عدم جدواها، أوإن إنجازها شيء ذو بال، بل فشلها إن شئنا الدقة، حيث انزلقت من الذاكرة السريعة بتدوير عدسة الكاميرا على «مُنجز» آخر.
ينبغي أن لا نضيع وقتنا ومجهودنا في السؤال عن الجدوى بمعنى المنفعة العامة، بل في المقابل يجب أن نلتفت إلى بعض السمات الرئيسية لهذا النظام في حقبته السيسية، أي حقبة الثورة المضادة الغشوم: ذات الجنرال المتضخمة، التي تريد أن تُرى بزيٍ رسمي على قطعة بحرية، والعنف اللامتناهي، والكذب والصفاقة، بالإضافة إلى انحيازٍ طبقي، صفيقٍ بدوره، للبورجوازية وضد الطبقات الشعبية. فمن فرط الصفاقة يستطيع النظام وإعلامه اختراع و»طخ» أي جملة من الأسباب تجعل من ذلك القطار الكهربائي مشروعاً قومياً سيحفز الاقتصاد وسيدر العائد إلخ، ولن نسمع أحداً من إعلاميي النظام أو مسؤوليه يسأل عن شبكة القطارات الموجودة، ما بالها، وما مشكلتها وكم تكلفة تحسينها لتضطلع بهذه المهمة؟ ما ينبغي في المقابل أن نفعله هو طرح السؤال بالشكل المناسب: الجدوى في نظر من؟ نظر الطبقات التي لا يجد أفرادها العلاج، أو سرير المستشفى؟ أم نظر الأثرياء والمحسوبين على النظام؟ وما هي طبيعة هذا النظام وكيف يرى الناس.
في رأيي أن النظام يتعامل مع الجمهور الأوسع كقطيع أو كتلة ضخمة، موجودة للأسف، عبء، ويلزم سوقه وترويضه كالدابة وتحجيمه ولجمه عند اللزوم، مع الإبقاء على أي التزامٍ من قبل النظام تجاهه في الحد الأدنى. هذه الكتلة فاعلة اقتصاديا أيضاً.
أهم شاغل لدى النظام هو النظام نفسه، استمراره بتحالفاته الطبقية بموقع الضباط المتميز فيه، واستمرار السيطرة بالقبضة الحديدية. لذا فحين أقرأ خبراً عن مشروعٍ كهذا، وبعد أن أفاجأ وأشك في كونها أيضاً رشوة لشركةٍ ضخمة، تستطيع أن تضغط على حكومتها لتمرر لنظام السيسي إجرامه وحكمه المتوحش، وإذ أرى كل هذه الوفيات جراء الوباء وغير الوباء من فقرٍ وإهمال فإنني لا أسأل عن الجدوى؛ ذلك القطار بين العين السخنة والعلمين، أي بين مصيفين لموسمين مختلفين في العام، مروراً بالعاصمة الإدارية الجديدة، لا جدوى أخرى من ورائه، غير ما يوصف تماماً، بطريق سريع للطبقة المرفهة الممتازة التي يرعاها ويتعهدها السيسي ويسخر لها إمكانيات الدولة ومشروعه الكابوسي للانعزال المكاني التام. أما الباقون فلهم الله. ليظل السؤال العالق الذي ينتظر إجابة: أيُعقل أنه لم يزل هناك من يتصور إمكانية إصلاح هذا النظام؟
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    سؤال:
    هل يعرف جميع المصريين بذلك؟ فإن كانوا يعرفون, فلماذا السكوت؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول كريمي صالح:

      ها أنت عرفت فكيف لم يأخذ المصريون خبرا بهذا. نحن في عصر المعلومات الطائرة و لكن الناس ساكتة عن الظلم و لا تتجبر إلا على المهذبين المنتخبين ديمقراطيا

  2. يقول عبدو:

    لقد استطاع السيسي ان ينقذ بلاده من الإنهيار والدمار الذي يسعى إليه تجار الدين المفلسين الخائنين الخوان المفسدين إخوان الشيطان القطيع المغيب

  3. يقول أبو حامد:

    أصدق ما قيل في وصف السيسي

  4. يقول منار:

    إلا متى يا ربي هذا الظلم و هذا الجبروت و الطغيان..اللهم زلزل الارض تحت أقدام السبسي و عصابته لعنة الله عليهم الى يوم يبعثون

إشترك في قائمتنا البريدية