مزيدًا مزيدًا من الحبّ، وقليلًا قليلًا من الأمل، هكذا نودّع الندامات الكبرى منها والصغرى. من عظمة الرواقيّة والبوذية والسبينوزيّة، أنّها أعلت من قيمة الحبّ في مقابل التقليل من الأمل، ليس ذلك رفضًا للأمل بذاته، وإنّما تحاشيًا للألم الذي يسبّبه هذا الأمل. (وهذا ما يؤكّده الفيلسوفان الفرنسيان المعاصران، لوك فيري وأندريه كونت سبونفيل في كتاباتهما).
فاللاديمومة واقع يخبّرنا ألّا شيء باقيًا، إلا في حيّز الذكرى التي نتمسّك بها. وكلّنا إلى فناء. لذلك لم يعد لنا إلا الحبّ، به نكتب رسالة الحياة، وبه نعيشها وبه نتركها. لم يعد إلّا الحبّ، به يأخذ الفعل مجرى الأمام في شقّ الجدار لرؤية المدى. لكنّ الحبّ تهيّؤ دائم للخسارات، وبمعنى آخر، الحبّ حمّال البدائل في حتميّة النظر في الجهات الأربع.
كيف نحبّ من دون أن نتعلّق بمن نحبّ؟ والحبُّ تعلّق، والتعلّقُ أسرٌ وربط؟ كيف نحبّ من دون أن نمنح خيالنا تلك الحرية اللامحدودة ونحن نعلم أنّها العائق الأكبر أمام اللاتعلّق؟ ربّما نجد الإجابة في براءة الصيروة التي قال بها نيتشه، فهي تدريب الذات على فرح اللحظة الراهنة. التعلّق باللحظة من دون أسرها بماضٍ أو مستقبل. ولا فرح إلّا بإنقاذ ما تبقّى من حبّ ليبقى لهذا الوجود معنى. إنّها فلسفة الاستعداد الدائم، أو فلنقل التهيّؤ الدائم لأيّ طارئ. الطارئ هنا الفقد أو الخسارة. التهيّؤ يريح كاهلنا من ثقل الندامات، الكبرى منها والصغرى. والتذكير بها أمام مرآتك يجعل حدوثها واقعًا، صورةً مكرّرة لشريط في ذاكرتك، أي لحظة وقوعها تصبح رهينة الماضي، تسقط من جدول الطريق إلى الغد. عيش اللحظة الراهنة حبًّا يبعد عنك ما يعيق العيش بفرح. ما يعيق العيش. ضع إلى جانبك سلّة، وارمِ فيها كلّ تأسفاتك وذنوبك ومنغّصات عيشك ونداماتك ومقلقي حياتك. وامضِ في الطريق.
أكثر اللحظات التي تحيا فيها، هي حياتك. ولا بأس، أن تقشّر خشونات الحياة بخفّة الراقص على جلدها، فتستقيم حوافها المسنّنة، لتتنعّم بملمسها عند احتكاك ضرورة الارتماء في جنباتها. عيشُ اللحظة حبًّا، هو زرع «بذور الأبدية» وحصادها في آن، هو مهرجان المواسم في لحظة!
وإذا كان الأمل هو سعي النقص إلى اكتماله في مكان لا ينوجد إلا في الذات، فعلينا ألا نعطي وجداننا خيالًا لا محدوًدا، لأن ذلك سينقضّ علينا في الليالي حين يتعارض الواقع مع الرغبة في ذروة طلباتها، ويصبح الشعور بالنعمة عصيًّا، ذلك الشعور بمصالحة الكون والتناغم معه. ربما يجعل اللجوء حينذاك إلى القراءة الكونية لواقعنا، حياتَنا أكثر يسرًا وسعادة وهناءة.
وربّما يكون السرّ في تأبيد اللحظة، مع الحرص على محدودية الخيال. اللامحدودية مع كلّ فرصها، طريق إلى الخوف والحسرة والندم، أتكون اللاديمومة واقعنا الذي يجب أن ننطلق منه كي نتجنّب الأمل الكثير؟ فالقليل منه يتلاءم والمنظور، والكثير منه جرعة قاتلة. الأمل تعاسة الراجين إلى اكتمال صورة من خيال في واقعهم، فلا الخيال تتسرّب ألوانه من إطاره إلى الواقع، ولا الواقع له قدرة سحب الناقص منه إلى أرضه.
ربّما يكمن سرّ الفرح في ذلك الحبّ البعيد عن التأويلات، ذلك الحبّ الساكن في العينين، يقرأه الأمّي والعالم والجاهل بالرسالة عينها، ذلك الحبّ الذي ينتقل بدفء اليدين إلى الكبير والصغير والمقيم وعابر السبيل، مع الاستعداد الدائم لتقبّل فقدان تلك الوجوه، ذلك الحبّ المعجون برغيف غمّس بكثير من القبلات.
لا قاعدة عامّة للسعادات، هذا سرّ الإنسان، ولا قاعدة مسبقة للحبّ، هذا سرّ الكون. ولا مفاهيم معلّبة للأمل وطبيعته، هذا سرّ البصيرة. إنّما نحن نكتب عنها إيمانًا منّا بأنّ الكتابة رسالة حبّ ووسيلة من وسائل الحياة.
٭ أكاديميّة وروائيّة لبنانيّة