«سرّ يونس» رواية اليمنية نور ناجي: التمثيلات المضادة من التهميش إلى الاندماج

عادل ضرغام
حجم الخط
0

في روايتها «سرّ يونس» تقدم الكاتبة اليمنية نور ناجي تصويرا لافتا للأبكم الذي تخونه الأصوات والألفاظ، فتأخذ مسارات عديدة لتكشف عن نفسه في تأسيسها لعوالم شديدة الخصوصية في ارتباطها بالخيالي والوهمي والعجائبي، وفي انشدادها إلى الصراع المتوهّم الذي تؤسسه هذه الذات، للدخول إلى حيز الوجود والإحساس بالمشاركة، بعيدا عن التهميش والتغييب اللذين يمارسان ضدها. فالأشكالية الأولى التي تقابل الأبكم هي إشكالية التواصل، وتتشكل في إطارها إشكالية الوجود، فهو في كثير من الأحيان ليس إلا طيفا، لا يتمّ الانتباه إليه أو إلى وجوده.
وفي حدود هاتين الإشكاليتين يؤسس عالمه، من خلال عالم غير (مرئي) لهذه الشخصيات، يكتسب في إطاره القدرة على تمثيل الآخرين، وتسكينهم تماثلا أو تشابها أو تباينا في هيئات وثيقة الصلة به، وبإحساسه بهم. ففي مقابل الوجود الطيفي أو اللامرئي يؤسس عالمه الذاتي داخل العالم الجمعي من خلال منطلقات خاصة، في إحداثه للذوبان بين الكائنات المحيطة والإنسان، وإزالة الحواجز بينهما، أو من خلال البناءات المصنوعة والمتوهمة للصراع أو للصداقة في إطار قائم على الوهم. وهذا يجعل الرواية منفتحة في حركتها على الثرثرة أو المناجاة الذاتية المرتبطة بتيار الوعي. فالرواية من بدايتها إلى نهايتها منفتحة على سرد تصاعدي بطيء الحركة، ولكنه مشدود إلى سيل المناجاة والتوهمات التي تتشكل أثناء هذه الحركة البطيئة في مدى زمني لا يزيد عن ليلين بينهما نهار.
فحديث شخصية الأبكم يونس إلى ذاتها، وفي مقاربتها للآخرين، حديث يرتبط بعمق الأزمة الذاتية المرتبطة بالتهميش والتغييب، فهي تمثيلات جانبية غير منجزة، وغير نهائية، لأنها لم تمتحن في ظل وجود تمثيل مقابل أو مباين. فالشخصيات لا تقدم كاملة، فما يقدم لها ليس إلا صورة جانبية، مقطوعة من سياقها، ليس لها تاريخ مؤسس في النص الروائي، هي تمثيلات تخلقها الأزمة، ولا تخلو من ذاتية ممسوسة بوجهة نظر هذا الأبكم، وكأن النص الروائي – بتسليمه منصة السرد – يوجّه نحو قدرته على التمثيل حتى في مقابل الصمت والخرس، فغياب الصوت أو خيانة الحروف، لا تؤدي إلى غياب المعرفة والإدراك، خاصة معرفة التشوهات الحاضرة مع مجمل الشخصيات، فدال الصمت الواقعي يتكشّف عن ثرثرة معرفية، لا تخلو من الكشف والتعرية لكل شخصيات القرية البسيطة، والأخرى التي تأخذ مظاهر أقرب إلى الوظيفة السياسية، فالرواية من خلال استحضار هذا التوجه، قد تاخذ مدى واسعا في القراءة والتلقي للنظم السياسية، خاصة في وجود إشارة إلى الشيخ والعاقل والفقيه، وكلها تؤدي إشارات سياسية داخل نظم القرية الحاكمة.

التمثيلات المضادة

يتجلى النص الروائي في إطار هيمنة صوت يوسف الأبكم، فهو المتكلم الذي يتحكم في حركة السرد، وآلية مقاربة الشخصيات، فلم يمنح أية شخصية منها مساحة للظهور المباشر بصوتها للتعبير عن نفسها، فالشخصيات سابحة، وكأنها أطياف في عالمه، وقد يكون ذلك رد فعل لحالة التهميش أو حالة عدم الانتباه التي يعانيها وفق منظوره وإحساسه بسلوك الشخصيات معه، فقد ظل وصف (اللامرئي) أو (الطيف) ملازمين لحضوره، ما يؤشر إلى وضعه المهمش والمنبوذ. وقد أتاح له هذا الوجود الطيفي أو اللامرئي أن يكون قريبا من الحدث، فهو يدرك من خلال هذا الاقتراب وعدم الانتباه ما لا يدركه الآخرون، ويختزن أسرار أفراد القرية واحدا واحدا، مما أسس له معرفة خاصة بكل السلوكيات والتشوهات، يقول النص الروائي: «لم تجعلني تلك العاهة أشعر بالنقص يوما، على العكس فقد استفدت منها مع جزم سكّان القرية أنني أكثر من نصف أبله».
وإذا كان موضعه قد أسس في إطار اللامرئي أو الطيفي، فإن المعرفة التي جناها من هذا الوجود، أصبحت مصدرا من مصادر القوة، وإذا كان الحمق أو البله صفتين تطلان معه في حدود النص الروائي، فإنه –انطلاقا من المعرفة التي يختزنها- لا يكفّ عن تقديم تمثيل مضاد للقرية بوصفها كلّا كاملا، من خلال وصفه له (أي قرية حمقاء؟)، أو في قوله (من المؤسف حقّا أنني أتعامل مع مجموعة من الحمقى). فالمعرفة التي يحصلها هي باب القدرة والتعاظم للحركة من سياق التهميش للتجذر في سياق الحضور القوي، فهذه المعرفة تشير- ولو من طرف خفي- إلى أن لكل فرد في العالم عاهته التي قد لا تكون ظاهرة مثل (البكم)، فهي داخلية متوارية تحتاج فقط إلى الكشف عنها، فالرواية من خلال اختزان المعرفة ومراقبة تشوهات الآخرين توجّه نحو نوع من المساواة والتشابه بين الجميع.
وربما تكون بنية ذهن يوسف الأبكم في تعامله أو تواصله مع الحيوانات، وتشييد مساحة من التداخل بينه وبينها، في إطار فتح مساحة للقبول بدلا من التهميش من أفراد القرية الذين لا ينتبهون إليه، هي الأساس في تمكين هذا التوجه في تمثيل الشخصيات. ففي ذهنه دائما ما تأخذ الشخصيات المجاورة له في حيّز حركته صورا أقرب إلى الحيوانات، إما لارتباطات أو لتداعيات خاصة، أو بسبب ملامح تجذّر هذا التشابه وتقويه، أو بسبب سلوك ما من هذه الشخصيات. يتمّ كل ذلك في إدراك واع لعنصر المشابهة الذي يفتح الباب لعمل المتخيل، ووقوفه جنبا إلى جنب بجوار الواقعي المعيش، وفي ظل نصّ يعلي من ثرثرة الذات وفاعليتها، يصبح هذا المتخيل حضورا أقوى، ويصبح لهذه التمثيلات قوة الوجود الواقعي.
ففي هذه التمثيلات هدم للحواجز من جانب، وتعرية من جانب آخر، فسعد حرامي الذرة يأتي شبيها بالفأر (أخذت أراقب سعد، بفكّه العلوي البارز كفأر حقل)، والشيخ السابق والد الشيخ الآني الممثل لأعلى سلطة في القرية، بعد أن احتجزه ابنه في مساحة خلفية من البيت، وأخذ مكانه، ندرك أن وجوده بين الحياة والموت، وسيلان لعابه، وتكوّم النمل ومخلفاته حوله، أعطت نوعا من المشابهة بينه وبين جمل (صالح) التاجر الرحّال المتنقل من مكان إلى آخر. ومع والدة الأبكم الموزّع بينها بين القبول والرفض والحب والبغض، نراها شبيهة بالنمل أو كبيرة النمل (هل يعقل أن تكون والدتي نملة).
ولكن التمثيلات اللافتة المنطلقة من المعرفة والوعي في النص الروائي، هي تمثيلات أصحاب السلطة، أو الذين يمثلون السلطة، فالتمثيل المضاد مع أنماط السلطة يتأسس على المعرفة التي تمثل منطلقا أساسيا له، خاصة الفضائحي المتواري، فمع المعرفة يدرك الأبكم ما يخفى عن بعضهم البعض، فهذا الأبكم المتواجد الذي لا يلقي له أحد بالا، يستطيع أن يملك القرية من خلال المعرفة. وتمثل شخصية الفقيه وجودا مهما، لأنها ذراع معبّد لسطوة السلطة السياسية، فمن خلال تبريراته وتسويغاته تحافظ السلطة السياسية على نوع من المنزع الأخلاقي في سلوكها، فالفقيه منوط به إسدال مشروعية للسلوك أو الفعل، فقد قدمت الرواية له صورة مباينة للتصور المثالي.
وهناك داخل هذا الكون الروائي شخصيات تنتمي إلى السلطة لا تجدي معها المعرفة، لأن وجهها سافر في الكشف عن طبيعتها غير السوية، وهذه الشخصيات تطلّ- لسفور السوء- متبجحة بلا أسرار، أو لا تلقي بالا لشيوعها بين الناس، مثل شخصية العاقل الذي تكشف الرواية عن وفاته. ولكن من فعل الوفاة تتكشّف الأسرار، فهي ليست وفاة بسبب الوباء، ولكنها عملية قتل من أحد أبنائه. وتبدأ الأسرار التي يدركها الأبكم عن عملية القتل، من خلال عدم الاهتمام بوجوده، والإنصات إلى حديث ابنه محمد إلى ذاته، في اتهامه لأخيه حسن بالقيام بقتل أبيه. وتفضي- كذلك – عملية الرصد والمراقبة واختزان المعرفة مع المرشح من أبنائه سلطان لمنصب العاقل الجديد، عن انتهاكه لكود السلوك القويم مع رؤوفة زوجة مختار في يوم عزاء والده، مما يؤكد فكرة التعرية للسلطة بشكل مستمر من خلال الأنماط المتوالية.

أشكال التواصل من التهميش للاندماج

المتأمل للشخصيات التي تمّ ذكرها في النص الروائي يدرك أنها كثيرة جدا، ففي الرواية محاولة لإكمال كل عناصر الشكل ومكونات الكون الروائي الخاص بالقرية التي ينتمي إليها الأبكم، بما فيه من نماذج يشكل سلوكها تأطيرا لأنماط جاهزة في كل قرية، بداية من أنماط السلطة مثل الشيخ والعاقل والفقيه والعسكري جابي الزكاة، ومرورا بالجيران والشخصيات العادية التي يبصرها أثناء سيره، وانتهاء بالنماذج التي تمتلك تصورا جاهزا مثل عواد بن العم سلمان مجنون القرية، أو ناجي المعتزل بالجبل، أو مقبل الذي يحاول هتك ستر الأرملة سميرة بعد وفاة زوجها حسّان، أو نجود التي تأثرت بموت أطفالها المتكرّر، فتتواصل مع العالم الآخر للالتقاء بهم ومعرفة الغيب والطالع، أو ظليم الأعمى وبنته قبول، أو زكية الجارة صاحبة الرحى التي يتجاوب صوت رحاها المستمر مع الأصوات المحتبسة داخل الأبكم، فكأن هناك مساحة من التداخل أو وهم التداخل بينهما.
فالذات المهمشة التي تحس بانعزالها وإهمال وجودها من الجميع، لا تعدم أن تجد طريقة تفك بها دائرة الحصار، فهي في مقاربتها للحياة تبتكر سبلا للاندماج وللتواصل، حتى لو كان الإطار المرشح للتواصل أو الاندماج لا يرتبط بالوجود البشري، فالذات تعقد اتصالا مع البئر في بداية الرواية، أي في قمة انعزالها وتهميشها.
وتتمثل آلية التواصل التالية في إعطاء قيمة للمتخيل أو للتوهم الذي تصنعه الذات لنفسها خروجا من الأزمة، وهي بهذا التوجه تغضّ الطرف عن الواقعي الطبيعي، وتعلن انتماءها إلى المتخيل الموهوم، وتوجه حياتها انطلاقا من هذا المتخيل. فالوجود الفردي في ظلّ التهميش يقابله بالضرورة منطلقات تهدهد من شدّة الشعور بالتهميش، ومن حدة الاغتراب. ما يريده الأبكم بكل آليات الاتصال – نتيجة لحالة العزلة والتهميش – تشييد كون خاص، كون يستطيع في إطاره أن يكون البطل والمتحكم في تمثيله للآخرين، والحكم عليهم، وعلى سلوكهم. ما يريده أو يبغيه ليس سوى ترك أثر، أو صناعة سردية تبقى، ويظل لها حضور دوري، (فالأخرس أو الأبكم – في منطق النص الروائي- يمر على الحياة ولا يبقى له أثر سوى عظام مهترئة بلا قصة).
الصراعات المتوهمة القائمة على اندياح المتخيل، هي في الأساس أداة من أدوات الاستقواء التي تستخدمها الذات، للحفاظ على منطلقاتها، فالصراعات المتوهمة توسيع لأفق ضيق تمرّ به الشخصية، ثرثرة الذات التي يغيب صوتها داخلها، فتحاول أن تؤسس من خلال هذه الصراعات المتوهمة أو الأحداث المتخيلة العجائبية استكمالا لوجودها، وتنتصر لحضورها المسجون بالصمت، فكأنه محاولة من محاولات التعويض العديدة التي تقوم بها الذات خروجا من أزمة الصوت أو الأصوات المختزنة، حيث تحدث دويا قريبا من الأذن.
باستحضار كل الآليات التي استخدمتها الذات المتحكمة في حركة السرد لصناعة كون يجعلها شبيهة بالآخرين، يمكن الإشارة إلى أن الرواية-بعيدا عن الدلالات السياسية التي يمكن أن تكون حاضرة- تمثل مسارا للحركة من الإهمال والتهميش إلى القبول والانسجام، من اكتساب المعرفة المرتبطة بالوعي بالسياق والأسرار التي يدركها ويختزنها لحظة الحاجة إليها، خاصة بعد حادثة العسكري مع والدته، إلى المشابهة مع الكل المهيمن، فقد أصبح له سرّ مثلهم، فهي رواية البحث عن طريق أو طرق، للوصول إلى المشابهة والاندماج.
نور ناجي: «سرّ يونس»
مؤسسة أروقة، القاهرة 2024
200 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية