شهدت إسبانيا يوم الأحد 23 يوليو انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، لم تمنح اليمين الأغلبية المطلقة، وحافظ اليسار على قوته. ويبقى الأساسي والجوهري في هذه الانتخابات، أنها مرحلة جديدة من بناء الديمقراطية، وإدماج جميع الفاعلين بمن فيهم من كان يؤمن حتى الأمس القريب بالعنف والإرهاب مثل، الجناح السياسي لمنظمة إيتا، أو اليمين المتطرف الذي يريد العودة إلى فكر العصور الوسطى.
وأسفرت هذه الانتخابات عن تقدم لليمين الكلاسيكي الممثل في الحزب الشعبي، الذي حصل على 136 مقعدا متقدما بـ47 مقعدا عن انتخابات 2019، متبوعا بالحزب الاشتراكي الحاكم الذي تقدم فقط بمقعدين ليحصل على 122، ثم حزب فوكس القومي المتطرف بـ33 مقعدا وحزب اليسار الراديكالي بـ31 مقعدا. وتوزعت باقي المقاعد على الأحزاب القومية الإقليمية في بلد الباسك وكتالونيا وجزر الكناري، ولعل النقطة الإيجابية هو تراجع اليمين القومي المتطرف بـ19 مقعدا مقارنة مع الانتخابات الأخيرة.
وعمليا، يمكن لليمين الحكم، كما يمكن لليسار تشكيل الحكومة مجددا والبقاء في السلطة. ومن باب المقارنة مع الانتخابات التشريعية التي جرت منذ الانتقال الديمقراطي بعد موت الجنرال فرانكو سنة 1975، كان السؤال العريض هو هل سيحصل اليمين بشقيه المحافظ والمتطرف على الأغلبية المطلقة، وبالتالي تشكيل أول حكومة ائتلافية يشارك فيها اليمين المتطرف؟ ولم يحصل هذا اليمين على الأغلبية المطلقة، وبالتالي يبقى تشكيل الحكومة معلقا ورهينا بالمشاورات بين الأحزاب، دون استبعاد إجراء انتخابات جديدة. وشهدت إسبانيا سنة 2019 تشكيل أول حكومة ائتلافية منذ الانتقال الديمقراطي، لكنها كانت بين الحزب الاشتراكي وبمشاركة حزب بوديموس اليساري الراديكالي القادم من حركة 15 مايو.
تتميز الانتخابات الإسبانية مثل مثيلاتها في الدول الديمقراطية بمنح البلاد جرعات الأمل الجديدة من خلال وصول أفواج جديدة لمناصب المسؤولية
ويبقى الجديد في الانتخابات الإسبانية، التي تخضع لمقاييس الشفافية المعمول بها في الدول الديمقراطية هو، مستوى إدماجها لمختلف الفاعلين السياسيين، ثم القدرة على منح البلاد أفواجا جديدة من المسؤولين في مختلف القطاعات ومناصب المسؤولية. وتعتبر التجربة الديمقراطية في إسبانيا نموذجية وليست بالضرورة مكتملة، فقد نجحت في الانتقال من حكم عسكري بقيادة الجنرال فرانكو الذي سيطر على البلاد من سنة 1939، تاريخ انتهاء الحرب الأهلية الدموية إلى سنة 1975، تاريخ رحيله. ونجح الفرقاء السياسيون في إصدار دستور يضمن حقوق الجميع. وتدريجيا جرى منح الأقاليم خاصة التاريخية مثل، كتالونيا وبلد الباسك وغاليسيا مستويات متقدمة من الحكم الذاتي، ما أرجأ عمليات الانفصال أو الاستقلال. وهذا الدستور هو الذي نجح في تشكيل برلمان إسباني يضم أنصار الجمهورية والملكية، ويضم أنصار استقلال الأقاليم مع المؤمنين بوحدة البلاد. هذا الدستور هو الذي يضمن لليساري الراديكالي واليميني المتطرف الحق في الوجود في المؤسسات التشريعية والتسيير. هذا الدستور هو الذي يحتوي ويستوعب التحديات الكبرى عندما تقع، فقد كان سيفا في وجه انفصال كتالونيا سنة 2017 عندما نظم أنصار الاستقلال استفتاء تقرير المصير، وكان جسرا لعودتهم إلى الحياة السياسية، بل وفروا النصاب القانوني للحكومة الحالية بزعامة بيدرو سانشيز، وهذا الدستور هو الذي سمح بتقليل الأحكام في حق منظمي استفتاء تقرير المصير في كتالونيا والإفراج عنهم حتى لا تقع البلاد في دوامة التوتر الدائم، فهو دستور بروح تسامحية وليس انتقامية. هذا الدستور علاوة على الليونة السياسية هما الكفيلان بإدماج اليمين المتطرف المتمثل في حزب فوكس إذا نجح اليمين في تشكيل الحكومة المقبلة. وقتها سنرى حزبا أقل تطرفا لأنه سيكون مطالبا بنهج البراغماتية لحل المشاكل مثل الهجرة، فالشعارات النارية تنفع في المعارضة، والحملة الانتخابية وليس لممارسة الحكم. وهذه هي تجربة الأحزاب المتطرفة في أوروبا، بمجرد وصولها إلى الحكم تنقص من جرعات التطرف. في هذا الصدد، يكفي تأمل رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، التي كانت متطرفة، والآن تبحث عن اتفاقيات في ملف الهجرة مع دول الجنوب، خاصة المغرب العربي، ثم كيف أنها لم تقم بالطرد الجماعي للمهاجرين غير النظاميين، عكس ما كانت تهدد به عندما كانت في المعارضة. وإضافة الى إدماج الفاعلين السياسيين، تتميز الانتخابات الإسبانية مثل مثيلاتها في الدول الديمقراطية بمنح البلاد جرعات الأمل الجديدة من خلال وصول أفواج جديدة لمناصب المسؤولية. إذ بعد كل انتخابات سواء كانت بلدية أو الحكم الذاتي أو وطنية، يصل إلى مناصب المسؤولية والتسيير فوج جديد من المسيرين، ولهذا نرى تغييرا في مناصب الوزراء ومديري أهم القطاعات الحيوية مثل الدبلوماسية والاستخبارات والجيش والأمن والنقل والثقافة و… يتم الحفاظ على ثوابت الوطن ويجري التغيير في مناهج التسيير وحرية التفكير، وفق رؤية الفاعلين السياسيين. وهذا هو سر التقدم في الدول الديمقراطية. هذا هو سر التقدم الذي حققته إسبانيا من دولة في أسفل السلم الأوروبي في الستينيات إلى الدولة الرابعة اقتصاديا في أوروبا تحتضن ملايين المهاجرين، وكذلك ضمن العشرين اقتصاديات الأولى عالميا. يجري كل هذا بعيدا عن الشعارات الشوفينية مثل استخدام الوطنية والخيانة، هذه التصورات التي يتم تركها للأنظمة غير الديمقراطية، للأنظمة التي يحتل فيها «مسؤولون» مناصب التسيير وكأنها جزء من الإرث الأبدي، وللأنظمة التي لا تهتم بالتجارب السياسية الديمقراطية في الغرب.
كاتب مغربي