سطر الذكريات… ذاكرة الرماد

حجم الخط
0

تعطي الرسائل بين محمد شكري ومحمد برادة في رائعة لا يتجاوزها العقل من التذكر «ورد ورماد» مدداً من الأسفار والحكايات، داخل غزة، تقفز الصورة إلى الذهن يتحرك باحثاً عن أمكنة وأصوات ومساحات من ذاكرة يمنحها الوقت المتبقي، هناك السيرة لا تزال حيّة، أصحابها على أطراف التراسل والحكايات اليومية، لا شيء في ذلك الوقت يعود إلى الوراء، غير الوراء يتعجل في مخيلة الناس، راسمين أمنياتهم للمستقبل، رغم الحصار وسياج الاحتلال، أُقلب في الذاكرة والصور ومقاطع مُسجلة تعود لماضٍ ليس بالبعيد، وأناس في قلب الوطن، ووجدان غزة تأكلها النيران وجحيم الإبادة، أرى والعين تتفتح كزهرة بريّة بداية الصباح، وطن يعمل ويسكّنه الحُلم، وواقع الاحتلال لا ينفك، الصورة تمشي بلا ذاكرة على أجنحة تعرف الطيران وقوفاً، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول للعام الراحل دق الوطن جدران الخزان، ووضع يداه بعد مسافات السياج، ليفتح الطريق ممهداً لأحلام العبور الأكبر إلى ضفاف الوطن المُحتل، وكيف لا؟ أليس من حق المرء العيش في وطنه، دون احتلال دون خوف وحصار، أليس من حقه بناء الذكريات والاحتفاء بها، أليس من حق البشر امتلاك الهوية الوطنية ليسجل عليها بطاقة استقلاله، وتكثر الأسئلة، في السابع من أكتوبر شاهد العالم، ووقف على الجانب الآخر، ليشاهد الفلسطيني فاتحاً طريقه المسكونة بمستوطنات الغرباء، وجنسيات متعددة تم اختطافها إلى بطاقة التصهين في احتلال آخر لديموغرافية المستعمرة، قد يكون الحديث عن ذلك اليوم كل الأمكنة، والتفاصيل فيه روائية حقيقية لا تحتاج للتوضيح، غير الحاجة إلى استنطاق الذاكرة بين حاضرها وماضيها، بين ما كان ويكون، ماسكاً قلبه في الرحلة «ورحلة الفلسطيني لا تنتهي» حتى الفداء يحقق خلاصه من سطوة الغرباء، وهجين يمسك يومه وأرضه وبحره وسماءه.
توضح تفسيرات علوم النفس والنظريات الفلسفية، أن الذاكرة هي السيرة الذاتية للفرد والكون، بلا ذاكرة يفقد ضلعه، وقد فقد الفلسطيني في حرب الإبادة الواقعة عليه ضلوعه، لكنه لم يفقد قلبه، ولم يدخل التيه كما دخلها الاحتلال الغريب بنزيف التاريخ والواقع الفلسطيني والعربي.. يكتب الإنسان في قلب الصورة أشياء تتنوع ويختار، ويقع الإنسان بين المدن المطحونة المحطمة بفواعل الاحتلال، في صورة مفقودة من الواقع ساكنة كيانه، فكيف يكتب؟ والصورة صارت تحت الركام والرماد، هي غزة في سطور أراد حسين البرغوثي، سلام إلى غزة «ستبقى دون أختي، ويبقى دوني أهلي، ويبقى دوني جزئي، ويبقى دوني كلِّي». في رحلة السطور لا تقف الكتابة والنداء صوتاً.. وعليها يكمل الجسد نشيده وإن فقد ضلوعه وساعديه.. في غزة كل شيء صار يشبه المفقود إلا فلسطين الباقية الحيّة، تأتي كل صباح تتفتح بين الشهداء، ويمسك بها الأطفال، تنام ليلاً إذا ما حاصر الطيران السماء هناك، في غزة المستحيل يصنع السلام، إلا سلاما مع الاحتلال لا يكون.

أكتب هذه السطور الآن وأفتح حديثاً جانبياً مع الذكريات هناك، وأُسجل آخر زيارة عام 2022. النقطة في نهاية السطر قد تعني خاتمة، وفي ذاكرة محتلة تعني الوقوف للتذكر، داخل المكان في طبيعة الحياة وجغرافيات الموت إساءة الوقت للوقت الفلسطيني، وسوء الرسم في خرائط الهدم الاستعمارية الواقعة في غزة حتى الضفة الغربية والقدس المحتلة، والإبادة المثقلة بالفقد الكبير الشامل للمسح العائلي. فكيف يكون موتا طبيعياً؟ ويكون احتلالاً يبرهن على جرائمه بالأدلة، طالباً غفران العالم في الشاشات والمحكمة مثلما وضعته جنوب افريقيا بين مقصلة أفعاله وضمير القانون. بعدما أسقطت شريط الاستعمار بين النظم، وصارت فلسطين المحتلة على حجر وقمر وشهيد يقول «أخي يا أخي انتظرني» وزيتون يأتي في موعده، وطفل يرثي آخر عائلته يكتب «وجهك شاطى» الضوء الأزرق لم يأتِ بعد، حين يفُقد من الذاكرة شريطها الحيّ، ‏يأتي الخجل من الفهم في طبيعة البشر، أو هكذا يفترض، من يفهّم أفعال الصهيونية في فلسطين، يستطيع الخجل ويستطيع النظر بالكتابة وهي التي يحاول الاحتلال وقوى الشر مسحها.. فالكتابة إن توقفا سلك مسارها، الجدران تنهض في النصّ، وما يفتق وعي الإنسان حين يكتب عن ذاكرته بين الرماد، والورد في قصيدة شعريّة على مرمى حجر، السؤال الأعمق، ما هو الإنسان؟ صار الإنسان الذي يعيش تحت الإبادة الجماعية منذ أكثر من 120 يوما، يسأل، ما الحقيقة؟ الحقيقة واضحة كالفلسطيني ولحمه وروحه، فيما يتضح حقيقة الأنظمة والكون الذي جعل الحقيقة في هامش المستثنى لتعريف تختاره الأنظمة وفق مصالحها السيئة، وتفشل، حيث الحق الشهيد ذاكرة بين المطاردة المتواصلة والثبات على الموقف، فلا يحتمي أحد في وجه فهارس الحقيقة والذاكرة الأولى، يتبعها الفلسطيني في وطنه وفي غزة حيث الركام والصور المجروحة.

خاتمة بلا نهاية

قدر الفلسطيني من النكبة الأولى ليس اختيار المنفى واللجوء، وإن كان حتمياً يكرّسه الاحتلال في الأرض حتى لا نبقى، وقدره في النكبة الجديدة في غزة أن يحمل الخيمة داخل وطنه من خيمة إلى خيمة، هذا القدر دليل يقوده إلى فلسطين بالتحرر أصل وجوده وحضارته والعودة. وعودة الشهداء من ثلاجات العدو في موت متوقف غير طبيعي، وإعادة بناء الذاكرة المهدومة، والحديث يأتي من صُلب ذاكرة صارت مفقودة من الواقع ومن تخيّل المساحات الزمنية، لينظر الفلسطيني في غزة وخارجها، من ملمس البحر، وعطر الأرض، ونام بين الأصدقاء، ورافق المدينة والمباني والشوارع، من صعد جهة الميناء، وحتى تناول الأطعمة متنقلاً بين الأماكن، صار كل ذلك تحت الركام وخلفه، إلى أن نال الفقد بطاقة دون ورق «مسح السجل العائلي» ومعه ذاكرة يقلبها يتفقد اليوميات الذاهبة الرحالة بفعل الإبادة، الآمال المعلقة على البحث بين الأصوات والصور المسجلة، الآثار المتبقية في روحه وجسده من اليوميات والرفاق والزهور في زمن الاندثار، حتى المقابر شهيدة التجريف والهدم، فيخرج جسد الموتى والشهداء بصوت العائد وصورته إلى جغرافيات سلبها الاحتلال وقتل هويتها ومحولات تغير ملامحها الوطنية إلى مستعمرات خاضعة في كنف الإرث الاستعماري، الذي يسعي إلى تكوينات أيديولوجية رديئة في الوعي الحديث، الذي يربط الوهم بالتغير من فكرة العدو إلى الصديق في معنى بلا معنى يراد منه سرقة نضال الشعوب وكفاحها، بالخطب ذات «الأسلوب المتأخر» في الفهم والحقيقة.. والاحتلال الذي سرق من الفلسطيني حتى الكلام الهواء ولغته ومنازله والأطعمة، وكل إرث فلسطيني تم اختطافه مثلما يتم اختطاف الأسرى من بيوتهم إلى معتقلات التعذيب والتجويع، يسير الفلسطيني بكل ذلك ومعه ذاكرته الواقعة تحت السرقة والاختطاف والهدم بفواعل الاحتلال الملوث المتلوث بكل مركزيات الاستعمار وغير المركزية، تنهض في الذاكرة أسماء، تستدعي ما كان ولم يعد يكّن، تذهب شرقاً في مدارات ما يعيش لأجله المرء، الوطن النقي المستقل ببيته وحدوده دون الأسلاك والأسيجة وجدران الإسمنت الرهيبة، ينسج الفلسطيني حكايته من لحمه الحيّ العابر من الطوفان إلى فلسطين التاريخية المحتلة، يكتب في الخيام ويتذكر أيام من كانوا معه وبيته وعمله وذكريات داخل المكان لم تغادره، فكيف لمن فقد كل ذلك وصار عابراً في لحظة التحرير والحرية والسلام، الذي كتبته يد الفدائي ويد كل من تشارك الحُلم يقظته الواعية! أن يكتب سطر الذاكرة وذاكرة الحقيقة الفلسطينية في زمن المستحيل، والمستحيل لغة تواجه كل الألفاظ المحتلة التي صنعها الاحتلال في زمن استعماره.. والفلسطيني يتذكر ويكتب يوميات العائد بعد قصيدة الشاعر إلى كل حيّ في المكان يكتب مسيرته وسيرته الفلسطينية.

صحافي فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية