سعيد بنكراد. ..العالم واللغة وعقدة السيميائيات الطاردة

لا أحدَ رأى العالم عاريا. ..هذا ما قاله سعيد بن كراد وهو يقترح عتبة لقراءة العالم وفهمه، إذ تكسوه اللغة بالمعنى، وتصطنع له لحما، وزيا، وهوية، مثلما تورطه في صراعات وحروب وسرديات مجبولة على العنف والتهوّي، وليكون التمثيل الثقافي – فيها – عنصرا لإعادة الكشف عن كثير من سمات ذلك العالم، وإحالة موجوداته إلى التداول والأنسنة، وإلى التبادل النفعي، وأخيرا إلى التأويل، حيث تصنع منصاته الصورة والاستعارة، والسوق والمكتبة، مثلما يصنع التأويل الخديعة، والسيميائيات الطاردة، وغوايات قبوله بالجمال أو بالقبح، أو بالرفض أو بالولاء، أو بالاقتناء أو بالنبذ، ليبدو التأويل في هذا السياق، وكأنه الوظيفة والأداة التي تجعل النص والخطاب والسلعة والصورة الأكثر صلاحية في الاستهلاك، وفي البحث عن المعنى، مثلما تجعلهم أكثر تمثيلا لـ»الهوية» وأكثر تعبيرا عن الصيانة التي تحتاجها هذه الجهة، أو تلك، في الدفاع عن وجودها إزاء كراهية الآخر والقمع النصوصي.
قراءة بن كراد للثقافي، تهب الخطاب قوة خلاقة، مثلما تموضعه في نسق لا يهمل المضمر، ولا يفضح الظاهر، حيث تكتسب البنية الثقافية للفكرة، أو النص أو الخطاب، ذات الوجوه المتعددة، دلالات وحمولات تلامس الفكر والواقع في آن معا، إذ تحمل معها «قيم المسرة والمحبة والتصالح والطمأنينة والذكاء» كما يقول، وهي حمولات لا تكتفي بالتأويل، بل إنها تقترب من التمثيل الذي قد يخصّ اقتراح أقنعة وطقوس متعددة، ومنصات متعددة، وربما يقترح نصوصا موازية تدخل في العناوين والهوامش واللواحق، وقد يخصّ في سياقٍ آخر ما تصنعه الأيديولوجيا، أو ما يصنعه السرد، وباتجاه طرد التاريخ، وعزل النص المُؤوَل عن السلطة، بتعدد مستوياتها، إذ سيكون النص في السيمياء وفي الإشهار خؤونا، وقائما على إخضاع اللغة إلى فعل المراقبة، وإلى سلطة حارس البوابة، كما في الخطاب الإعلامي.
النص المقروء الذي يضعه بن كراد يتحول إلى نص إغواء ومواجهة، حيث الطابع الإجرائي للنقد، والطابع التعليمي للدرس، والطابع المعارض للخطاب السياسي، والطابع الإشهاري للخطاب التجاري، وكذلك الطابع التمثيلي للمعنى الذي ينتجه التأويل، إذ يتحول هذا التأويل إلى طاقة نافذة عبر القارئ، لكن ليس بوصفه مؤلفا آخر فقط، بل بوصفه منتجا لأفق مفتوح، يتسع للمغايرة والاختلاف، ولوضع العلامات، بوصفها مجالا لغويا وبصريا في سياق تداولي، يمكن أن يستخدمه شرطي المرور، مثلما يمكن أن يستخدمه الأيديولوجي والسلطوي والعلماني والسلفي.
أحسب أن القارئ المتخيّل عند بن كراد، هو القارئ الاستعمالي، أي القارئ الذي يملك أدوات القراءة، ويدرك خطورة ما تحمله النصوص، بدءا من النص الأدبي، والنص الإعلاني والنص التعليمي والنص الطقوسي، وصولا إلى النص الديني، إذ يمكن أن تكون هذه النصوص فخاخا، وأنماطاً للأدلجة، وبيانات للعنف، أو للانقلابات العسكرية وغيرها. كلَّ ما في هذه النصوص يقع في سياق الحيازة اللغوية، لكنه يخضع إلى سلطة مرجعياتها التأويلية، تلك التي ترتبط بالمتعة، والاقتناء والاستهلاك، مثلما ترتبط بالنسقية المضمرة، كالجماعة والحزب والفرقة الناجية، فضلا عن ارتباطها بالمفهوم التداولي للصراع والسلطة/ الحاكمية والجماعة، لاسيما النص الديني، حيث يتكّرس النص بوصفه قرينة المقدّس، والتأويل في هذا السياق لا يعني تقويض ذلك المقدس، بل بتوسيع تداوله حسب المرجعيات الثقافية والطائفية.

الهوية والسياسة وسيمياء الإشهار

كلّ الأشياء والموجودات تتطلب وجود مستهلك ما، يقوم بالشراء، أو التداول والإشباع والتهديد، أو الحصول على المتعة أو السلطة، وهذا ما يجعل الآليات التي تعزز من فاعلية الاستهلاك مرهونة بعناصر لها حيازة مهنية وعلمية وإعلانية وأيديولوجية وعصابية، حيث تستدعي تلك الحيازة الأساليب والتقانات، التي تنعكس على فعل الترويج والدعاية والإغواء والإشهار والإقناع والسيطرة على إرادة الجمهور. فهل يمكن للنص السياسي، أو النص الأيديولوجي، أو الانتخابي أن يتحول إلى مجال سيميائي، أو أن يتحول إلى سلعة؟ وهل يمكن أن نضع لهذه السيمياء، والسلعة المتخيلة سياقا إشهاريا، وأن نعدد مزاياها، لكي يكون تسلل رسالتها إلى الوجدان ناعما ومؤثرا؟ هذه الاسئلة ليست بعيدة عن القراءة، ولا عن التداول، لاسيما في مجال التعاطي مع صورة إشهارية وتمثيلية فاضحة وضاغطة للخطاب السياسي، والحزبي، أو حتى الخطاب التظاهري، فإنتاج الأفكار والرسائل، وبثّها إلى الجمهور تتطلب وجود المرسل والواسطة، وكلا الأمرين يتطلبان وجودهما في نسق ما، له فاعليته في التحفيز والإثارة، وفي منح العلامة قوة الفهم والتقبل والتأثير، وصولا إلى تأويلها، واستعمالها كممارسات وعبر مستويات خطابية متعددة.. هذه الممارسات باتت جزءا من واقعية خطابنا العربي، فالفعل السياسي والحزبي والثوري والإرهابي تحوّل إلى «أنظمة خطاب» مثلما صارت أكثر استغراقا بالتأويل، إذ كثيرا ما تجرّنا إلى سياق وصلتها الإشهارية، حيث عرض الصورة، والخطبة، والخطاب والزي، عبر علامات تدخل في سياق «سيميائيات الصورة» فالسياسي يلجأ إلى الذاكرة الوطنية والأيديولوجية، لايجاد فعل التهييج، والإرهابي يلجأ إلى الذاكرة الدينية، كما في الصور التي عرضها الدواعش، أو في خطبة الإرهابي البغدادي، أو في قراءة بياناتهم القائمة على استدعاء فكرة السلف والخلافة، وعلى تهديد الآخر بوصفه ذميا أو كافرا أو مرتدا. وكذلك الأيديولوجي يلجأ إلى خطاب الكراهية، والحزبي إلى الصراع والتنافس، والثوري إلى استثارة النزق الطبقي والوطني والتماهي مع القيم الكبرى.

خطورة أطروحات بن كراد تكمن في طابعها التمثيلي، فبما أننا كائنات لغوية، وأن العالم يدور حولنا بواسطة اللغة، فإن تمثيل هذه اللغة بصريا وأداتيا، يكتسب مدلولا أيديولوجيا، له استعمالاته العامة والخاصة، مثلما له انحرافاته، وبراديغماته في التعبير عن السلطة، وعن التسويق والسيطرة والمراقبة.

هذه التمثيلات المُهدِدة، والمُهدَدة، تقوم على فكرة الإيقاظ، حيث الأنساق المضمرة، والاستعارات المتعالية، وحيث الفكرة الخبيئة التي تحمل معها طاقات دلالية صادمة ومفارقة، ولها احالاتها ومعطياتها، فضلا عن ما يملكه من دوافع تكشف في جوهرها عن إشكاليات البناء السلعي/ الأيديولوجي للنص، وعن طبيعة فهم الجمهور المستهدف، وعن مدى علاقة ذلك بخلق بيئة سلعية/ سياسية/ أيديولوجية تصلح لتداول قيم وطنية أو أخلاقية، أو جمالية لها تأثيرها في صياغة عقد سياسي أو اجتماعي، أو في صناعة رأي عام ضاغط له تأثيره في الشارع، وفي التداول السياسي، حيث يتحول إلى نصٍ مواز، لنص «الصورة الإشهارية» الذي تحدث عنه سعيد بن كراد، فالصورة الإشهارية في السوق، تفترض نظيرا لها في الشارع العمومي، وحتى في الشارع الاحتجاجي، حيث وجود الجمهور الذي يحتاج إلى الإثارة والإقناع والصدمة، وحيث صياغة الخطاب الذي يحتاج إلى محفزات لها قابلية التأثير والاغواء، للدفع باتجاه باتجاه الخروج إلى الشارع رفضا للسلطة، أو للنظام، أو للهيمنة، أو للاستبداد السياسي، وكلّ هذه الممارسات تدخل في سياق علاماتي، ينطلق من الحاجة إلى الحرية، والإشباع والتمكين..

السيمياء وتشكيل الصورة الأيديولوجية

خطورة أطروحات بن كراد تكمن في طابعها التمثيلي، فبما أننا كائنات لغوية، وأن العالم يدور حولنا بواسطة اللغة، فإن تمثيل هذه اللغة بصريا وأداتيا، يكتسب مدلولا أيديولوجيا، له استعمالاته العامة والخاصة، مثلما له انحرافاته، وبراديغماته في التعبير عن السلطة، وعن التسويق والسيطرة والمراقبة، حيث يدخل في ترسيم الهوية، والاجتماع، وبناء المعنى، وكذلك في تأطير مفهوم الاستهلاك، مهما كان نوعه – استهلاكا سلعيا أو ثقافيا أو جنسيا أو سياسيا – وحتى في تشكيل بؤر حاكمة لتلك السلطة، ولما تنتجه مؤسساتها وأنماطها، وأن يكون مفهوم الاستهلاك قائما على أساس فرضيات تجوّز هيمنة علامات على علامات أخرى، مثل الأبيض على الأسود، الغربي على الشرقي، المسيحي على المسلم، وهي هيمنة نسقية لها محظورتها ومضمراتها المرعبة التي يتضخم معها الرعب والقمع والاضطهاد العرقي والجندي، فضلا عن تضخم الظاهرة الإرهابية للجماعات الأصولية في العالم اليوم. إن ما تصنعه السيمياء لا يعني طردا للواقع، بل إن فعله النسقي يظل خفيا، ومتواريا إزاء ما تصنعه الأيديولوجيا، فبقدر ما تملك تلك السيمياء من قوة تداولية بين بعض الجماعات، فإن اختفاءها تحت اقنعة السلطة، والقوة والتاريخ والدين والايديولوجيا هو ما يجعلها تواجه رعبا عند أي إشهار يقوم على الفضح أو التعرية، والإغواء بهيمنة النمط، والتحريض باستهلاك ماينتجه العقل الغربي، سواء كان طعاما أو جنسا أو أزياء أو أسلحة، ولعل مؤشر شراء الأسلحة في العالم يقول، إن الدول العربية هي أكثر الدول شراء للأسلحة، وهو مؤشر يخضع للمعالجة السيميائية التي تستند إلى التاريخ والخطاب والمقدس، ونمط السلطات، وتغول العنف الديني والأهلي والطائفي، فضلا عن تشوه الصورة الأيديولوجية التي تتضخم في سيميائياتنا التداولية في المعيش وفي صناعة السلطة وفي علاقتنا الملتبسة مع الآخر…

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية