هذا ما يكرره العديد من الناس أمام العنف ومهازل الحياة اليومية من عنفٍ وتفجيراتٍ وأزمات كهرباء ووقود إلخ. إلا أنه في الواقع لم يسكت. فقط يبطئه انعدام الفهم وتلجمه الدهشة العميقة. ففي زمننا الفرجة هذا وفي السيرك القومي المعروف اصطلاحاً بالوطن العربي، لم يعد للعديد من الاستعراضات والألعاب البهلوانية الخارقة للعادة من معنى ناهيك عن الجدوى. إنقلاب تام في المسيرة والمصائر، وبعد أن كان لا أحدٌ يتجرأ على نقد الثورة والهجوم عليها ورقص الناس في الشوارع ابتهاجا بدهشة العالم على ذلك الإعجاز رافعين الثوار على الأعناق، ها هم يلعنون الثورة على الذي أشار بها. رجال مبارك يخرجون من الحبس خروج الأبطال والثوار(أياً كانت خلافاتنا معهم) تغيبهم السجون، أحكام إعدام هزلية بالجملة، وليس أكثر العجب أن مصر وسائر بلدان ‘الربيع العربي’ التي بدت لوهلةٍ في غمرة التفاؤل أنها عادت إلى التاريخ من الباب الواسع، الباب الملكي، ها هي تتسلل فارةً من سلم الخدم كاللصوص وبنات الليل، بل وأعجبه أن قطاعاتٍ واسعة من الجمهور تصفق وتهلل متخيلةً أننا نعلم العالم كيفية بناء الأوطان بهذه المهازل وصناعة الآلهة وخلق الأساطير.
لم ينتهِ الكلام، وإنما يبحث عن الاتزان، فنحن على أعتاب مرحلةٍ جديدة شديدة الخطورة تتضح معالمها يوماً بعد يوم، كئيبةً بليدةً ، دامية، وإني أرى أن الكثيرين للأسف يخطئون في قراءتها، ربما لتشبثهم بأحلام التحقق واستعادة أمجاد الماضي الذي ليس ببعيدٍ تماماً ككسر احتكار السلاح وتأميم قناة السويس والوصول إلى مصر التي ستصير ‘قد الدنيا’ وربما انطلاقاً من الحنين إلى ما قبل 25 يناير، إلى زمن مبارك بثوابته ويقينياته التي خبروها وتمرسوا في التحايل على المعايش في ظلها. لكن الواقع على الأرض، بعيداً عن الأوهام المُسقطة قسراً على الواقع والأكذوبة الكبيرة، ذلك العالم الوهمي الموازي الذي يخلقه إعلامٌ منفلت، عالي الصوت وصفيق، ذلك الواقع شيءٌ آخر تماماً…واقعٌ رث، عنيف..والمشكلة في رأيي أن عنفه إلى ازديادٍ في الأيام والشهور وربما السنين المقبلة.
لم تنجح الثورة المصرية بعد، لم توصل طبقة محل طبقة، وفي ظل المجلس العسكري والإخوان وإلى الآن، لم يقترب أولئك الذين صنعوا الثورة، كل من انتقص ونهب مبارك وحاشيته وانحيازات نظامه حقوقهم، من السلطة وصنع القرار، غاية ما هنالك أن مصر كانت تشهد صراعاً بين شرائح من ذات الطبقة (بغض النظر عن شخصٍ ما بعينه هنا أو هناك) بنفس الانحياز الاجتماعي على السلطة، والجمهور، صاحب المصلحة الحقيقية في الثورة، يقف على الهامش، يشاهد وتسوء أوضاعه الاقتصادية والأمنية يوماً بعد يوم.
ليست سراً تلك العلاقة المعقدة والطويلة بين نظام مبارك وسلفه والجماعة ، كما هو بينٌ تقارب بل تطابق انحيازاتهم الاجتماعية- الاقتصادية بعيداً عن الألعاب اللفظية، وها هما يتصادمان كالأفيال…هناك عنفٌ أكيد، إرهابٌ وتفجيرات…وعلى الرغم من أن الإخوان لم ينفوها أو يشجبوها ويتبرأوا منها بشكلٍ قاطعٍ كما يتعين عليهم أن يفعلوا، فإنني لن أنسبها إليهم لأنني لا أثق في دقة أغلب(إن لم أقل كل) الاتهامات التي يكيلها لهم النظام وإعلامه، كما أنني لن أتورط في اتهام النظام بالتواطؤ في هذه التفجيرات، إلا أن الأكيد أن النظام، وإن اهتزت صورته بعض الشيء من ظهوره بمظهر عدم القادر على السيطرة على الأوضاع الأمنية، هو المستفيد الأكبر وربما الوحيد مما يحدث. فالمحصلة هي إعادة إنتاج وترميم منظومة الأمن والعنف بشكلٍ أشرس وأقبح وأكثر سفوراً من أي وقتٍ مضى مع فارق كونها هذه المرة باستدعاء واسع من جموع عريضة. من الناحية الفعلية، عدنا إلى معادلة النظام-الجماعات المسلحة، حيث يدور السجال باستخدام العنف الذي لا تستطيع أن تجاريه، مع الفارق في مداه الأوسع ودرجته الأكثر فظاظةً هذه المرة. بذا نكون فقدنا أو في سبيلنا إلى فقد إحدى أهم مكاسب يناير: عودة الشعب إلى الساحة السياسية والتاريخ مشاركا بسلاح الاعتراض والحجم مجردا النظام من أسلوبه المفضل الذي ربما لا يجيد سواه، العنف والإفساد السياسي…
الخلاصة أننا نعيش كذبةً كبيرة يروج لها إعلامٌ متجردٌ من أية معايير أخلاقية أو ضوابط مهنية يخلط كل الأوراق ويدلس ويكذب على نطاق لم تسبقنا إليه حتى الكثير من الدول الشمولية، فستالين وماو وحتى صدام حسين كانت لهم منجزات مادية على الأرض، بغض النظر عما حاق بها وآلوا هم إليه. وتحت غطاء هذه الأسطورة والوعي الزائف يجري ترميم منظومة العنف بلا ضوابط ولا رادع…أما المكاسب فمؤجلة للمرحلة المقبلة إن شاء الله وعليك خير. ولا يجب أن يفوتني هنا، بل وتلزمني الصراحة أن أؤكد على ما أبدته الطبقة الوسطى بصفة عامة من ضعف وضحالة يدفعانها إلى حض النظام وتحريضه على المزيد من العنف في محاولة يائسة للعودة إلى ما كان…وربما كان من السذاجة أن أتوقع غير ذلك.
لا أرى الأوضاع إلى استقرار، فما زال الأثقل والأخطر آتيا… وسوف نتكلم كثيراً… فالذين يستسلمون لتصور أو وهم إمكانية العودة إلى الوراء يغفلون نقاطاً فارقة: أن حدثاً ضخماً وجليلاً قد وقع في يناير 2011، وليس إلى تغيير ذلك من سبيل، كما أن الحلول الأمنية دون إصلاحات ومكاسب حياتية جوهرية مصيره إلى الفشل، فما لم يفلح من قبل على ضخامة المنظومة الأمنية لن يفلح الآن… فقد رأينا بأعيننا أن كل ما بدا صلباً تبخر في الهواء وحتى الأسطورة الجديدة التي ينفخون فيها ستسقط لأن الناس تنتظر، تراقب وتحلل وتحكم، وتتوقع هذه المكاسب.
هي أوقاتٌ لمحاولة التماسك النفسي والعقلي، فالموج المعادي للثورة، المشكك اليائس المحبط، في علوٍ كاسح… لكنه سينكسر سريعا في غيبة منجزات حقيقية. لست من السذاجة بمكان لأراهن على موجة ثورية قريبة، إلا أن الأكيد أن السجال الحقيقي لم يبدأ بعد، وحينها سنجد الكثير لنقوله.
كاتب مصري
اشكرك يا سيد يحيى كامل على تحليلك السليم وضميرك النقي بالشعور مع هذا الشعب الكادح \سامحني بعد ان انزعجت من مقالاتك بعد الانقلاب وهاجمتك على صفحات هذه الصحيفة واشكرك من جديد بعد التراجع عن تاييد الانقلاب ونا اصلي وادعوا الله ان يحفظ مصر واهلها الكرام وكفلسطيني اشعر ان الحق لن يعود لنا دون ان تكون هناك مصر عربية قوية ورائدة للعرب باذن الله