في الموضوع الأمريكي تكتظ وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي بالكلام والتحليلات والأوصاف. ويدلي كل مخلوق بدلوه. هذا في الاحوال الاعتيادية، فضلا عن غيرها. فالانتخابات الأمريكية الأخيرة فرضت على العالم متابعة فصولها منذ الإعلان عنها حتى حسم الأمر باقرار فوز جو بايدن وخسارة دونالد ترامب، وهو الأمر الذي فجّر الفصل الحالي من أسطورة ترامب التراجيدية. فعندما يضرب إعصار شديد شواطئ الجنوب الأمريكي، أو تجتاح الثلوج شرقه تتسابق وسائل الإعلام لتغطيته على أوسع نطاق. فكيف يكون الأمر عندما يحدث أمر عظيم كالذي جرى؟
لم يبق تعبير سلبي عن أمريكا إلا استخدم لوصف أكبر تحدٍّ واجهته الولايات المتحدة منذ «حريق واشنطن» وهو الاسم الذى أطلق على عملية حرق عدد من المبانى المهمة في الولايات المتحدة الأمريكية أثناء حرب 1812 من قبل القوات البريطانية. وأسفرت الغارة على واشنطن عن حرق البيت الأبيض ومبنى الكونغرس ومكتبته والعديد من المباني الحكومية الأخرى ضمن العاصمة الأمريكية. في تلك الحادثة تدخلت العناية الإلهية بشكل ملفت للنظر، فهبت عاصفة رعدية كبرى وإعصار مرا بالمنطقة بشكل مفاجئ، وأخمدا حريق المدينة، وأجبرا البريطانيين على التراجع من واشنطن، التي كان الرئيس الأمريكي وأعضاء الكونغرس قد هربوا منها.
هذه المرة انطلق التهديد من داخل المؤسسة نفسها، الأمر الذي جعل الخطر مضاعفا. فهو ليس ناجما عن احتجاجات من الأطراف المناوئة لسياسات البيت الأبيض أو المعادية للولايات المتحدة. كما أنها لم تحدث نتيجة مظاهرات نظمها ضحايا السياسات العنصرية التي تحصد أرواح السود بدون توقف، ولا عن تدخل خارجي من قبل أعداء الإدارة الأمريكية، وما أكثرهم خارج الحدود.
تم وصف ما جرى في ذلك اليوم الأمريكي الذي يعتبر الأشد سوادا في التاريخ الأمريكي الحديث، بأنه «كارثة» و «انقلاب». وقال البعض إنه «اليوم الذي ماتت فيه الديمقراطية الأمريكية» ووصفه آخرون بأنه «الساعات العشر التي هزت امريكا». وطرحت أوصاف بشكل تساؤلات: أهكذا تموت الحضارات؟، أهي نهاية التاريخ الأمريكي؟ إن كان الأمر كذلك فما أبعد نظرية فوكوياما عن الصواب. ماذا سيقول الآباء المؤسسون لو كانوا حاضرين عندما أصدر الرئيس أوامره لحثالاته باقتحام مهد الكيان الذي أسسوه؟ بينما رأى البعض أن ما حدث سيكون بداية نهاية فصل مأساوي في التاريخ الغربي صعد فيه اليمين المتطرف الى الحكم في بلدان عديدة بعد أن أصبح دونالد ترامب رمزا لذلك. كما استشرف البعض الآخر مستقبلا أقل توترا في العالم مع بداية أفول الظاهرة الشعبوية التي أثبتت أن خطرها لا ينحصر باستهداف الآخر، بل يضرب الوجود السياسي للكيانات التي يتطلعون لحكمها. هذه الظاهرة الخطيرة تزامنت مع انتشار الوباء، فشهد العالم أكبر التحديات السياسية والايديولوجية والصحية. في مثل هذه الحالات يصعب على الكاتب أو المحلل السياسي إضافة شيء جديد، تحليلا او توصيفا او استنتاجا، خصوصا مع الحالة الأمريكية التي يتابعها أغلب البشر. أهكذا تنتهي العظمة؟
لم يكن ما جرى في السادس من كانون الثاني- يناير حدثا عاديا: لم يكن مظاهرات سلمية، ولم يكن احتجاجات مشروعة، بل كان تمردا على النظام السياسي، وطعنا في مصداقية النظام الديمقراطي الأمريكي ومؤسساته
ثمة أمور رشحت بعد ما فعله ترامب، من شأنها أن تزيد تعقيد الأمور أمام جو بايدن. وفي مقدمتها تصاعد الضغوط لطرد ترامب منصبه قبل الموعد المحدد لذلك، الأمر الذي لا يبدو أنه سيحدث. ثانيها تكثف المطالبات بمحاكمته في قضايا عديدة منها دعاوى التحرش بالنساء قبل وصوله البيت الأبيض، وأخرى تتعلق بالضرائب التي تهرّب من دفعها برغم ما يمتلكه من امبراطورية تجارية ضخمة، وثالثا، التحريض على العنف الذي أدى لاستهداف مهد الديمقراطية الأمريكية. فلم يكن ما جرى في السادس من كانون الثاني- يناير حدثا عاديا: لم يكن مظاهرات سلمية، ولم يكن احتجاجات مشروعة، بل كان تمردا على النظام السياسي، وطعنا في مصداقية النظام الديمقراطي الأمريكي ومؤسساته، ومحاولة لتزوير نتائج الانتخابات بدفع حلفائه لرفض النتائج وإضافة أصوات إضافية غير موجودة لصالحه، وأخيرا، الدعوة المباشرة لاستخدام العنف الذي أدى لوفاة خمسة أشخاص، وتدمير ممتلكات عامة وبعثرة أوراق رسمية خصوصا في مكتب رئيسة مجلس النواب، والتصدي لأجهزة الأمن والشرطة المسؤولية عن حماية مباني الكونغرس، والإعراب عن ارتياحه لما حدث في تسجيل مصور.
لم تعد القضية محصورة بالخلاف على نتائج الانتخابات، او رفضه الاعتراف بخسارته وفوز منافسه جو بايدن، بل استهدافه المؤسسات الديمقراطية وتشجيع مناصريه على استخدام العنف. وهذا سيؤدي الى وضع صعب جدا للرئيس الجديد الذي وصف الاعتداءات التي حدثت بأنها «إرهاب محلي». ولا يمكن تجاوز هذا الوصف أو تجاهله من قبل أجهزة الأمن والقضاء في بلد يفترض أن يكون محكوما بالقانون. فمحاكمة رئيس منتخب بتهم جنائية ستكون سابقة خطيرة، وعدم محاكمته سيضعف حكم القانون وسيادته. وسيجد بايدن نفسه أمام تحديات هذه القضايا من اليوم الاول لاستلام منصبه.
لقد كان ما جرى ضربة موجعة للمؤسسة الأمريكية، وسيجد الحزب الجمهوري نفسه منقسما على نفسه بشكل قد يؤدي لتصدعه. وربما المشكلة تكمن في استسلام الحزب لادعاءات ترامب الخاوية غير المؤسسة على حقائق. كان على الجمهوريين أن يرتفع صوتهم ضد سياساته وتصرفاته ليس في الأسابيع الأخيرة فحسب بل منذ استلامه المنصب وتسخيفه الثوابت الإنسانية والسياسية وسعيه المتواصل لفرض نفسه بمستويات هابطة من خلال الدخول في معارك وهمية مع كل من اعترض عليه، حتى لو كان امرأة مثكولة بقتل زوجها في أفغانستان. فشل الحزب في الحفاظ على أداء سياسي يناسب موقع أمريكا كرمز لما يسمى «العالم الحر» أو اجبار ترامب على الالتزام بالبروتوكول السياسي، أو التخلي عن الاساليب المعهودة لطرح السياسات والمواقف واستخدام تويتر منصة للتعامل مع المسؤولين مثل الرد عليهم أو طردهم من مناصبهم. كان على الحزب أن يستشرف منذ سنوات أن ترامب يقود الحزب وأمريكا للهاوية بسياساته غير المتوازنة. فاذا كان الرئيس السابق، باراك أوباما، قد سعى لتحسين علاقات أمريكا بالعالم ومد الجسور مع اوروبا وفنزويلا وإيران، وانتهج سياسات تتسم بقدر من التوازن ازاء القضية الفلسطينية، وحتى الصين، فان ترامب انتهج سياسات معاكسة تماما وهدد بذلك أمن أمريكا والعالم.
الأمر شبه المحتوم أن دونالد ترامب سيواجه قضايا قانونية عديدة وسيفتح ذلك شهية جهات شتى لمحاكمته من قبل جهاتها القضائية أو أمام القضاء الأمريكي.
سيترك ترامب وراءه تركة من المشاكل والأزمات التي لن تنتهي في المستقبل المنظور. وسيبقى عهده الأسود ماثلا أمام عيون الأمريكيين قبل غيرهم، وسيشعر العقلاء منهم بخيبة الأمل ليس من انتخاب ترامب فحسب أو من الحزب الجمهوري الذي تبناه ودعمه، بل من النظام السياسي الذي سمح بمن انقلب عليه لاحقا وانقض عليه لاحقا مستخدما العنف الذي أدى لقتل خمسة أمريكيين على الاقل.
من الخاسر ومن الرابح مما جرى في «كابيتول هيل» الأسبوع الماضي؟ سيطول نقاش ذلك، ولكن المؤكد أن هناك شعورا بخيبة الأمل لدى من كان يتطلع للنموذج الأمريكي السياسي الذي أصبح مشوشا في أذهان الكثيرين الذين دهشوا لقدرة الرئيس الأمريكي على ارتكاب جرائم بحق الإنسانية بدون أن يتعرض لمساءلة قانونية.
كاتب بحريني