للغة العربية مكانة حضارية سامقة بين ثقافات العالم، بل كانت هي لغة العلم والحضارة خلال القرون الوسطى، وكانت الحواضر العربية والإسلامية مقصدا لطلاب العلم من أنحاء المعمورة، بما فيها الشعوب الأوروبية، التي تعلمت العربية، لتفهم علومها المختلفة، فأضحتْ العربية لغة وسيطة ناقلة للحضارات الإنسانية، وأيضا لغة مؤثرة حضاريا في الحضارات الأخرى. ثم مارست هذه الأدوار مجتمعةً، بشكل مباشر ودائم، في حقبة طويلة امتدت أكثر من ألف عام، تسيدت فيها الحضارةُ الإسلامية العالمَ، واستثمرت موقعها الجغرافي في التمدد الحضاري، باستيعاب الحضارات السابقة، ومن ثم التأثير في الحضارات المجاورة واللاحقة.
ففي القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) تُرجِمت كتابات نفر من العلماء مثل، الفارابي والغزالي والفرغاني وابن سينا وابن رشد إلى اللاتينية، وعرفها الغربيون واحترموها. وسرعان ما أصبحت أعمال أرسطوطاليس ذات تأثير نفّاذ في الفكر الأوروبي، إذ تُرجِمت إلى العربية مقرونة بشروح وتعليقات ابن سينا وابن رشد. وكان لهذه التعليقات والشروح أهمية المؤلفات نفسها، التي وضعها أرسطو طاليس بنفسه، لأنها شكّلت الفكر الفلسفي والعلمي في أوروبا. فالثابت تاريخيا أن الإسلام ورث حضارات الشعوب التي سبقته، والممتدة من إسبانيا إلى أواسط آسيا، وشمالي الهند، فارتقت العلوم والتقنية في هذه البقاع، بتأثير من الإسلام واللغة العربية، التي حفظت تراثها وأضافت له الكثير.
لقد كان للعربية دور بوصفها وسيطا حضاريا، ويتمثّل دورها في الترجمات التي نقلتها عن الحضارات الشرق أوسطية السابقة (مثل الحضارة اليونانية، والهندية، والرومانية، والفارسية) بالإضافة إلى كونها لغة علوم الحضارة الإسلامية الأساسية، وهو الدور الذي ساعدت الجغرافيا على حدوثه، بالنظر إلى موقع الحضارة الإسلامية في العالم القديم، بتوسطها القارات الثلاث، وحكمها لشعوب ذات حضارات عريقة.
ويرصد غوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب» تكوّن الحضارة الإسلامية وعلاقتها بالإمبراطوريات والأمم الأخرى، ذاكرا أن حضارتي الفرس وبيزنطة العظيمتين كانتا تقذفان نيرانهما الأخيرة، حينما بدأت فتوحات أتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد استوقف العالم خيالهم المضطرم، بعدما بدأت فتوح العرب، ثم أخذ العرب يدرسون الآداب والفنون والعلوم بمثل نشاطهم في فتوحهم، ولم يلبث الخلفاء، بعد أن شادوا دولتهم؛ أن أنشأوا في جميع المدن المهمة مراكز للتعليم، وجمعوا حولهم كل عالم قادر على ترجمة أشهر الكتب، ولاسيما كتب اليونان، وحَدث َ ما جَعل أمر تلك الترجمة سهلا، فقد كانت معارف اليونان والرومان العلمية القديمة منتشرةً في بلاد الفرس وسوريا منذ زمن، وبيان ذلك أن النساطرة لما نُفُوا من دولة الروم أقاموا في مدينة الرها (أورفة) العراقية مدرسةً لنشر معارف اليونان في آسيا، وأن تلك المدرسة لما هُدّمت في عهد زنُون الإيزوري احتضن أكاسرةُ بني ساسان أساتذتها. وأنه كان من نتائج هذا القبول الحسن أن قَصد علماءُ أثينا والإسكندرية بلادَ فارس عندما أغلقها جوستينيان فنقلوا إلى أكثر لغات الشرق انتشارا، كالسريانية والكلدانية إلخ، أهم كتب علماء اليونان مثل أرسطو وجالينوس وذيسقوريدس.
وَوجد العرب في بلاد فارس وسوريا – حينما استولَوا عليها – خزائن من العلوم اليونانية، وأمروا بنقل ما في اللغة السريانية منها إلى اللغة العربية، ولم يلبثوا أن أمروا بأن يُنقل إلى العربية ما لم يكن قد نُقِلَ من قبل، فأخذت دراسات العلوم والآداب تسير قدما إلى الأمام. ثم إن العرب بدأوا في تعلّم اللغة اليونانية على الخصوص؛ ليستقوا منها علوم اليونان، ثم تعلّموا اللغة اللاتينية والقشتالية في إسبانيا، ويشهد بذلك ما في مكتبة الإسكوريال من المعجمات العربية اليونانية والعربية اللاتينية والعربية الإسبانية التي ألَّفها علماء من المسلمين.
ويضيف غوستاف لوبون كانت معارف اليونان واللاتين القديمة أساسا لثقافة متعلمي العرب في الدور الأول، وكان هؤلاء كالطلاب الذين يتلقون في المدرسة ما ورثه الإنسان من علوم الأولين، وكان اليونان أساتذة العرب الأولين إذن، لكن العرب المفطورين على قوة الإبداع والنشاط؛ لم يكتفوا بحال الطلب الذي اكتفت به أوروبا في القرون الوسطى؛ فلم يلبثوا أن تحرُروا من ذلك الدور الأول. إن المرء يملكه العجب من الهمة التي أقدم بها العرب على البحث، ولن تجد أمة فاقت العرب في ما حملوه وقدموه من علوم. فقد كان العرب إذا ما استولَوا على مدينة صرفوا همّهم أولا إلى إنشاء مسجد ومدرسة فيها. وإذا ما كانت تلك المدينة كبيرةً أسسوا فيها مدارس كثيرة، ومنها المدارس العشرون التي روى بنيامين التُّطِبليّ المتوفى سنة ١١٧٣ أنه شاهدها في الإسكندرية، وهذا عدا ما حوته المدن الكبرى كبغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة، إلخ، على جامعات مشتملة على مختبرات ومراصد ومكتبات غنية، وكل ما يساعد على البحث العلمي. وكان للعرب في إسبانيا وحدها سبعون مكتبة عامة، وكان في مكتبة الخليفة الحكم الثاني في قرطبة ستمئة ألف كتاب، منها أربعةٌ وأربعون مجلدا من الفهارس، كما روى مؤرخو العرب، وقد قيل، بسبب ذلك: «إن شارل الحكيم لم يستطع، بعد أربعمئة سنة، أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثر من تسعمئة مجلد يكاد ثلثها أن يكون مقتصرا على علم اللاهوت. ولم يلبث العرب، بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان، أن أدركوا أن التجربة والترصد خيرٌ من أفضل الكتب، وعلى ما يبدو من ابتذال هذه الحقيقة، فقد جدَّ علماء القرون الوسطى في أوروبا ألف سنة قبل أن يعلموها.
ثمة ملاحظات على ما ذكره غوستاف لوبون عن الحضارة العربية الإسلامية وعلاقتها بالحضارات الأخرى، فحديثه يكاد يقتصر على العرب، وليس عن المسلمين عامة على مختلف أجناسهم وأعراقهم، وقد جمعهم الإسلام دينا وثقافة ودولةً؛ وهذا عائد إلى نظرة الاستشراق الغربي العرقية، التي لم تعِ أن الحضارة الإسلامية ساهم فيها العرب وغير العرب، وأن الكل عمل تحت مظلة الإسلام، وأن آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية حثت المسلمين على طلب العلم، وأنهم صاغوا علومهم وترجماتهم باللغة العربية. وقد تم هذا في رحاب العالم الإسلامي، الذي احتل مساحة جغرافية أهّلته للحصول على إرث الحضارات السابقة مثل الحضارات الفارسية في فارس، والهندية في بلاد الهند، واليونانية في قبرص واليونان، ناهيك عن المراكز الحضارية التي ورثها العرب والمسلمون في مصر والعراق والشام وبلاد فارس، واحتضانهم للعلماء فيها.
يلاحظ أيضا تفاخر غوستاف لوبون العلني والضمني بعلوم اليونان وفلسفاتهم، وأنهم – في منظوره- كانوا بمثابة الأساتذة للعلماء العرب، ولولا العلوم اليونانية لما تقدم العرب، أي أن الفضل كله يعود للفكر اليوناني وتأثيره في الحضارة الإسلامية، ضمن إشادته بإخلاص العلماء العرب ودأبهم، وباهتمام الخلفاء والحكام في شرقي العالم الإسلامي وفي غربه بالمكتبات والمدارس والمراصد، أي تظل مقاربته للحضارة الإسلامية من خلال النموذج الغربي.
وفي هذا الصدد، يشير فؤاد سيزكين – في موسوعته تاريخ التراث العربي- إلى بعض الأوهام المسيطرة على دوائر الاستشراق الغربي والمؤرخين الأوروبيين، حيث يقررون أن الحضارة الإسلامية في مجملها لعبت دور الوسيط الحضاري، وتحديدا بين حضارة اليونان القديمة، والغرب النصراني في العصر الحديث، ويعدّون ألا فضل للعلماء العرب على مستوى الإضافة والزيادة العلمية، والمنصفون منهم يشيرون إلى دور محدود للغاية، دون إضافات علمية حقيقية، وأن الفضل كله يعود إلى علوم اليونان، في المقام الأول، فمؤرخو الاستشراق الغربي سقطوا منذ القرن الثامن عشر في مغالطات تاريخية، تمثلت في التهوين من شأن العلماء العرب، وفي تحريف أسمائهم لتنطق باللغة اللاتينية، وذكر أخطاء مذهلة في تحديد التواريخ والأزمان لدور العلماء العرب ومؤلفاتهم التي ترجموها إلى لغاتهم الأوروبية، وقد ذكر سزكين أمثلة كثيرة تبين حجم الزيف والافتئات والتجاهل للمنجز الحضاري الإسلامي، ونسبة الفضل كله إلى اليونان، واتهام العرب أنهم لم يستوعبوا علوم اليونان في الرياضات مثلا كما يجب.
كاتب مصري