تمتاز اللغة العربية عن غيرها من اللغات بأنها مفعمة بالمفردات والتعابير التي تصف حالة الشوق والحنين والصبا و»الـُبعاد» والشجن والهجران والفراق والوصل واللقاء. وتكاد لا توجد لغة تضاهي لغتنا الجميلة في التعبير عن العواطف الإنسانية الجياشة تجاه ذوي القربى والوطن. وقد برع شعراء المهجر والأدباء العرب بشكل عام في توظيف تلك المفردات الفريدة في شعرهم العذب وانتاجهم الأدبي الإنساني، وجعلونا نردد تعابيرهم وأبياتهم الجميلة التي تقطر تشوقاً للقاء الأحباء والعودة إلى الأوطان! وكم تغنى مطربونا ومطرباتنا بالشوق والحنين إلى الأهل والأحبة عشاقاً كانوا أو خلاناً أو أقرباء! ولعل أجمل الأغنيات التي صدح بها صوت أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وفيروز ووديع الصافي وغيرهم هي تلك التي تخاطب الأحبة البعيدين عن عيوننا في ديار المهجر أو الغربة خلف البحار والمحيطات والحدود..
من منا لا يتأثر بأغنية فيروز التي تنادي «حبايبنا خلف الجبل البعيد»؟ ألا تقشعر أبداننا عندما نسمع فيروز وهي تهتف لجدتها: «ستي.. ستي يا ستي أشتقت لك يا ستي». ألم يصدح صوت صباح أيضاً في أغنيتها الشهيرة: «ألو بيروت من فضلك يا عيني، اعطيني بيروت عجـّل بالخط شويا»؟ ألا نتأثر جميعاً بالصوت الجبلي العظيم وديع الصافي وهو يطلب من «الطير الطاير» أن يسلم له على الأهل وأن يطمئن على «الزرع في موطنا وعن حال السهل»؟ ألا نذرف الدموع ونحن نستمع إلى المطرب العراقي سعدون جابر صاحب البحة الشجية وهو يناشد «الطيور الطايرة» أن تمر بديار «هلي» وأن تسلم عليهم سلاماً دامعاً؟ ألم يبرع فريد الأطرش في أغنيته الشهيرة» أحبابنا يا عين ماهم معانا» التي أعادت وردة الجزائرية إنشادها بإحساس لا يقل عذوبة ورقة؟ ألم تعاتب ميادة الحناوي الأحباب في أغنية «فاتت سنة حتى الجواب منهم ما وصل شي»، يا ترى «مستكترين فينا المراسيل»؟ ومن منا لا يتذكر أبيات الشاعر المهجري رشيد أيوب وهو يقول: «يا ثلج قد هيجت أشجاني..ذكرتني أهلي وأوطاني.. بالله قل عني لجيراني.. ما زال يرعى حرمة العهد»؟ ألا تدمع مقلتنا عندما نستمع إلى بيت محمود درويش الشهير «أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي»؟
لكن وا أسفاه، فقد أصبحت هذه الثقافة الغنائية والأدبية الحنينية الجميلة في حياتنا العربية من مخلفات الماضي، وحسبها أن تجد مكاناً لنفسها في كتب الأدب والتراث والإذاعات التي تبث أغاني أيام زمان. لقد أصبح حالنا أشبه بحال شعراء المهجر، لكن بطريقة أخرى، فكما أن الشعراء كانوا يعبرون عن توقهم للقاء الأهل والأحباب، فقد بتنا نحن إلى تلك الأيام الخوالي عندما كان للشوق والحنين إلى الأهل والأوطان معنى وقيمة عظيمة. تباً لك أيتها العولمة ووسائل التواصل الحديثة التي حرمتينا من أجمل ما في ثقافتنا العربية، ألا وهي مشاعر الشوق والحنين. لم يعد هناك معنى لـ»البُعاد» والفراق والهجران واللقاء ولم الشمل بعدما حولت العولمة هذا العالم إلى قرية صغيرة، وألغت الحدود والمسافات وسهلت الوصل والاتصال بين الناس.
لم ولن أنسى المرة الأولى التي تحدثت فيها مع والدي عبر الهاتف من قريتنا في سوريا إلى بيروت. لقد ذهبنا جميعاً إلى مركز البريد والهاتف القابع في زاوية دكان صغير لصاحبه أبي وديع، فتجمهرت عائلتنا حوله وهو يحرّك «مناويل» الهاتف اليدوي كما لو كان يطحن القهوة وهو يصرخ بأعلى صوته «ألو يا بيروت ألو.. ألو». لم أصدق وقتها أنني سأسمع صوت والدي العامل في لبنان عبر ذلك الجهاز الأسود العجيب المعلق على حائط ذلك الدكان العتيق. لكننا بقدرة قادر سمعناه وسمعنا.
آه كم كنا نسعد عندما نفتح رسالة قادمة من عمتي المهاجرة في فنزويلا أو من خالي في ليبيا! آه كم كنت أستمتع بالرسائل التي كانت تصلني من الأهل وأنا أدرس في بريطانيا! آه كم كنت أتلهف لوصولها كي أقرأها مرات ومرات! لقد كان أجمل وقت من أوقات اليوم، تلك اللحظات التي أتوجه فيها إلى الركن المخصص للرسائل في الجامعة، فكنت أرنو من بعيد إلى ما يسمونه بعش الحمام الذي يضعون فيه الرسائل الخاصة بكل طالب، لعلني ألمح ظرفاً صغيراً قادماً من ربوع الأهل والأصدقاء والأحبة. آه كم كنت أفرح بتلك «المكاتيب» الواصلة بالبريد الجوي فرحة الأطفال بألعاب وثياب العيد! آه كم كنت أرقب ساعي البريد كل صباح من خلال فتحة الباب المخصصة لرمي الرسائل. آه كم كان قلبي يخفق بسرعة البرق انتظاراً لذلك الظرف المـُزين باللونين الأزرق والأحمر! آه كم كنت أطير من الفرح عندما «يعلــّق» معي خط التليفون من بريطانيا إلى قرية «الثعلة» البعيدة! آه وألف آه! آه كم كنت استمتع بشريط الكاسيت المرسل من الأهل حيث كان كل واحد منهم يسجل سلامه بالصوت. آه كم كنت أبكي عندما استمع إلى الأغنية «السويدائية» (نسبة إلى مدينة السويداء السورية) «يا ديرتي..يا ديرتي وداعاً يا حبيبتي لوما الشقا يا زنبقه ما تطول عنك غيبتي»!
لقد ولىّ زمان الوصل بعدما قضت وسائل الاتصال الحديثة من فضائيات وهواتف متحركة وانترنت وبريد الكتروني وتوابعه على تلك الثقافة الوصلية والإنسانية الجميلة. لا أتذكر أنني كتبت رسالة للأهل والأصدقاء منذ عشر سنين. وبدورهم فقد الأهل والأحبة اهتمامهم بإرسال الرسائل. وحتى المكاتيب التي تصلني من المشاهدين لم تعد تثير في نفسي تلك اللهفة القديمة.
لقد انكسرت حدة الشوق والحنين لأحبائنا وأهلنا في المهجر أو الأوطان، وانطفأت جذوة التلاقي بعدما قربت تكنولوجيا الاتصالات الحديثة المسافات وألغت الآهات. لم نعد نتشوق ونحن لوصول رسالة بعد أن أصبح ساعي البريد الالكتروني يوصل رسائلنا إلى أبعد بقاع الأرض خلال ثوان معدودة. لم نعد نفرح بالرسائل الواردة إلينا عبر الانترنت، فهي بلا طعم ولا رائحة ومنزوعة العواطف والأشواق وملغومة بالفيروسات القبيحة التي قد تدمر الكومبيوتر وما حمل. ومما زاد الطين بلة أن الانترنت وفرت خدمة الاتصال بالصوت والصورة مما جعل الناس تتحدث وترى بعضها البعض عن بعد، فتخسر متعة اللقاء والوصال عندما تحين العودة إلى الديار بعد طول غياب. أعرف أناساً يتصلون مع أبنائهم في أمريكا وأوروبا لساعات وساعات عبر سكايب وغيره من برامج التواصل، حتى أنهم يدعون الكاميرا تصور كل زوايا المنزل على طريقة تلفزيون الواقع. لا بل إن الولد في أمريكا يعرف ماذا ستطبخ أمه اليوم في أي بلد عربي وهو يراها عبر الانترنت تقطع البصل والبطاطا في المطبخ وتقول له:»تعال تغدا معنا يا حبيبي».
ولا أبالغ إذا قلت إن البعض قد مل حتى من الاتصال والحديث إلى الأهل عبر الانترنت بالرغم من أنهم يعيشون بعيداً عنهم ألوف الأميال خلف البحار والمحيطات. وأعرف أناساً لا يفتحون برامج الاتصال كثيراً خشية أن يدخل على الخط صديق أو قريب يريد المحادثة أو الدردشة من خلف الحدود. وكم يخبرنا الماسنجر بدخول صديق أو قريب على الخط، فنتجاهله أو نكتب ملاحظة تقول إنني بعيد عن الكومبيوتر، ولا استطيع التحدث معكم الآن. آه كم تغير العالم وغيّر معه حتى عواطفنا ومشاعرنا، وأنا على يقين بأن شعراء المهجر من أمثال إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وشفيق المعلوف وغيرهم سيتقلبون في قبورهم لو علموا أن العولمة قضت على أدبهم وجعلته هباء منثوراً.
لم يعد هناك محل من الإعراب للمثل القائل: «إن البُعد يزيد القلب ولوعاً». لقد جعلتنا وسائل الاتصال الحديثة نزداد تحجراً والقلوب أقل إنسانية وشوقاً وهياماً للقاء البعيدين عن أبصارنا. لم يعد «الهوى من النوى» كما يقول المثل العربي. لقد غدا «البُعد جفاء» فعلاً كما يقول العرب مع عولمة الاتصالات.
قولوا عني «متخلف»! سقى الله زمان الوصل البدائي!
آه يا زمان الوصل!
٭ كاتب واعلامي سوري
[email protected]
د. فيصل القاسم
إيه سقى الله تلك الأيام! يوم كان الكتاب في يد والعصى في اليد الأخرى للهش بها على الأغنام! ما أجملها من أيام! أيام الربيع وأصوات العصافير وصوت الخراف وحفيف الأزهار في الحقول! ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب!
قبل سنين كنت عائدا بالطائره من أوروبا إلى عمان لقضاء أجازة الصيف مع الأهل و الأحباب و نظرت من شباك الطائره إلى ربوع الوطن و هاجت بي الذكرى و كتبت هذه الأبيات على منديل من ورق لا أزال أحتفظ به :
أنا يا بلادي طائر فوق السحابِ
أهيم في ثنا الأثير بلا حساب
و أُمنّي النفس عن بعد باقتراب
من عبير البيلسان في تلك الروابي
كلّما مسّ طرفَ الغمام جناحي
دعوت الله أن يسقي ربوع شبابي
نعم.. نحن شعب الشوق و الحنين و العاطفه الفائضه و شكرا على هذا المقال الجميل و النغمه العذبه في اتجاه “معاكس” كليا لبرنامجك المعهود !
الام رحيلي بلا منتهى متى استقر بارضي متى
وحتى م سيري اجوب البلاد بلا وطن الق فيه الرضا
الام اجوب قفار الحياة احاول ان استعيد الصبا
انادي فلا من يجيب النداءالحزين سوى همهمات الصدى
رفاقي يراعي وكتبي وشمعي وكراس شعري وصمت الدجى
وشوق الى كل من غاب عني وابقى فؤادي اسير الجوى
وحيدا يناجي قديم العهود وما كان من طيب فانطوى
وحيدا تناوشه الذكريات وتحرقه في لهيب النوى
وحيدا فلا صاحب مؤنس يزور ولا امل يرتجى
يجدد فيالنفس احلامها ويبعث فيها بريق المنى
الام انتظاري للراحلين وحتام حزني على ما مضى
وقد عشت عمري في غربة اغالب دهري اعاني الشقا
وما غربتي عن دياري واهلي وبعدي عن الصحب والمنتدى
الا كنار تهيج بصدري غريب انا بين كل الورى
رائع يا دكتور
أصبت كبد الحقيقة بكلامك هذا
ولكن .. دائما لكل شيء له إيجابياته وسلبياته
في ذلك الزمان الذي كانت وسائل الاتصال فيه شبه معدومة بين الناس -بالمقارنة مع ما هو متاح من من هذا الوسائل حاليا- كنا نرجو أن تتقدم وتتطور وسائل الاتصال حتى يمكننا أن نتواصل مع بعضنا بشكل أسرع وأسهل.
واليوم صرنا نتحسر على ذلك الزمان الجميل الذي كنا نتلهف فيه إلى الاتصال بقريب أو حبيب أو صديق بعيد عنا.
قمة الاحاسيس المفعمة
ب الانسانية
المطلقة
و حنينا
لايضاهى
لماضي عربي اصيل
وحسرة ولوعة
لفقدان الوطن
خوف و نحيب
لضياع الاوطان وفقدان كل ماهو جميل
و الاخطر
هو
الخوف العظيم
من فقدان
الهوية والذاكرة
والحنين
في اواخر سورة الكهف يقول رب العالمين ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا) قال بعض المفسرين المعاصرين ان الله سيجمع البشر ويقربهم ويجعلهم يتخالطون ويختلطون قبل يوم القيامة فيجتمع من عاش اجداده قرونا طويلة في قرى بلاد الشام مثلا مع ذلك الاوروبي الاشقر ذي العيون الزرقاء وسيحصل تزاوج ومصاهرة ولن يبقى البشر كل واحد في ضيعته او قريته وهذا ما بدأ يحصل للبشرية مع اكتشاف العالم الجديد اذ اجتمعت كل الاعراق في الامريكتين بل وفي القارة العجوز اوروبا !! بل وان هذه الامواج الالكترونية الرقمية والتي تسبح في فضاءاتنا وتحمل اصواتنا وصورنا من قارة الى اخرى فيحدّث المغترب اهله وعشيرته انما جعلت من هذا العالم قرية صغيرة تنبّأ بها ذلك المهندس الكندي عام 1962وقد غاب اسمه عن بالي اذ قال ان العالم سيصبح قرية صغيرة ستقرّبه الطائرات النفاثة ووسائل الاتصال ، وقد مات هذا العالم المهندس عام 1981 وقد شارفت نبوءته على التحقق ولكنه لم ير الحقيقة كاملة . ان هذه الثورة اللاسلكية قد غيرت سلوكيات البشر في الكتابة الورقية والتي سادت بين البشر لقرون طويلة وانني شخصيا اتذكر ان آخر رسالة مكتوبة على الورق ووضعت عليها طابعا بريديا كانت في تسعينيات القرن الماضي اي قبل عشرين عاما او اكثر . ان عصر الورقة والقلم قد شارف على النهاية وستنتهي تلك الرومانسية التي حدثنا عنها الدكتور القاسم واتحفنا بها في هذه المقالة الرائعة حقا وصدقا .
مقال شاعري معبر رائع أحبته كثيراً. ولكن امل ان لايخرج علينا شي ممانع ويقول أن اجهزة التواصل الحديثة هي مؤامرة ضد ديوان العرب :الشعر
عاشت الانامل دكتور فيصل .. انك مبدع في كل شيء في دفاعك عن الاحرار ومبدع في مهنتك كاعلامي ومبدع في كلماتك ووصفك للعولمة
أعتقد أن هذه الابيات لعمر ابو ريشه وأنت الكاتب
من منا لا يتذكر أبيات الشاعر المهجري رشيد أيوب وهو يقول: «يا ثلج قد هيجت أشجاني..ذكرتني أهلي وأوطاني.. بالله قل عني لجيراني.. ما زال يرعى حرمة العهد»؟