تأخرت كثيرا حتى أدركت أن كل ما عشته هو أكذوبة. طفولتي كانت كذبة ملونة برائحة خبز الصاج، وثمار البلوط الممزوجة بنكهة المطر. مهد خشبي تستقر فيه لعبة حِيكت ملابسها من بقايا قصاصات أقمشة متناثرة. أما الرأس، فكان غطاء حديديا لعبوة فارغة من شراب «الكراش». تعلمت كيف ألف القماش حوله بإتقان ليتماسك، فيعطي شكل وجه بملامح هادئة، لا يلبث أن تمزقه صورة جنود العدو يقتحمون المنزل، يوجهون أسلحتهم نحو رؤوسنا، فيما أحاول حشْر نفسي بين السرير الحديدي، ودرسوار خشبي تزينه مزهرية زجاجية تعج بورود اصطناعية ذات أوراق شوكية، إلى جانبها تتربع سلة شموع ملونة، يظنها البعض أصناف برتقال وحامض وإجاص وتفاح أحمر وأخضر، تختزن كل منها مبراة صغيرة. في كل مرة استخدمتُها، حرصْت على تنظيفها وترتيبها. وإن حصل وخُدِشَت إحداها، عهدْت بقطعة قطنية ناعمة أمررها على جوانبها، إلى أن تستوي، وتستقر في مكانها. لا تزال رائحتها غائرة في شراييني. تراني كلما وجدْت مجموعة متناسقة من الشموع، استجمعت ذلك العطر، وتمنيت لو أستطيع حفْظه في إحدى القوارير النائمة. لا أعلم إن كان ذلك أحد أسباب عشقي للعطور؛ هي لافتات لامرئية للكائنات، أجراس تحيلنا إلى أمكنة بيننا وبينها سنوات ضوئية، وجبال، وشجن، وحنين إلى ما قبل الولادة، إلى ما قبل الحياة.
٭ ٭ ٭
قد تكتشف ذات يوم أن حياتك كلها لم تكن لك، بل لم تدرك أن سني عمرك سُرقَت منك. وأنت تتطلع إلى مَن حولك، ترى صوتا يتدلى منه وشاح قرمزي، في طياته رصاص. السلم الذي ترتقيه، درجاته جوفاء، فارغة تماما، لعلها توازي الخيبات والسقطات التي مُنيتَ بها. تمنح نفسك كوة للعبور، لكنك تكتشف في اللحظة الخطأ أنك على حافة تنور، كيفما اتجهْت، ألسنة نيرانه تحرقك. متى حاولْت الفرار، تجد المسالك مترعة بحفر اللهيب، تنبت بينها أسلاك شائكة، صدئة…
٭ ٭ ٭
لكن، عند بلوغه أعلى السلم، لا شيء أمامه سوى رحلة من الفراغ وسط الظلام، وكأنه معلق بين الفضاء والأرض، تتقاذفه المدارات. هناك، تستيقظ روحه، تمزج أنينها بلحاء شجرة تعاند الشمس، تمسك رائحة جَنين تاهَ يبحث عن حبل سري، ثم يلتف الحبل كله حول قدميه، يعصره، يشله، ليبقى شاهدا على لعنتِه.
كاتبة لبنانية