«كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»
(محمد عبد الجبار النِّفري)
أطلق الأديب المغربي قطب الريسوني على مؤلَّفه الجديد «سلاما أيها الغيم» من حيث التجنيسُ توصيف: «كتابات شذرية». وهذا الضرب من الكتابة ــ مثلما يُجمع على ذلك العديدُ من الدارسين والنقاد ـ يقوم على عناصر عدة من بينها: الاختزال، التكثيف، الإدهاش، الإيماض (من الومضة)، المجاز، التناص، الاقتصاد في الوصف، إلخ.
والكتابة الشذرية ـ كما يرى جميل حمداوي في كتابه «الكتابة الشذرية عند النفري»، تقوم على عدم الانتظام وعدم الاكتمال والانتهاء. ومن ثم، فهي تخلو من التتابع والتسلسل والترابط والانسجام المنطقي. الكتابة الشذرية عادة قديمة تعود إلى الفلاسفة اليونانيين، ونجد لها أيضا جذورا في ثقافتنا العربية الإسلامية مع المتصوفة المسلمين أمثال: ابن عربي، والحلاج، والنفري والبسطامي.. إلا أن الشعرية العربية القديمة لم تهتم بهذه الكتابة إلا تهميشا وإقصاء ونفيا، بالإضافة إلى موقف الفقهاء من التصوف بصفة عامة، والتصوف الفلسفي بصفة خاصة، كما يذهب إلى ذلك حمداوي.
ويقسّم دارس غربي الشذرات إلى الشذرة التي ليست سوى لحظة جدلية لمجموعة شاسعة جدا، الشكل الحِكَمِيُّ، وهو عنيف يكتنفه غموض، باعتباره شذرة يكون مكتملا. الحكمة هي طبق الاشتقاق. أُفُقٌ يُقَيِّدُ ولا يفتحُ. الشذرة المرتبطة بحركية البحث، بالفكر المترَحِّلِ الذي يكتمل بواسطة توكيدات منفصلة (من مقال بعنوان موريس بلانشو والكتابة الشذرية، نُشر في مجلة الحوار المتمدن الإلكترونية). ويقترح الباحث العراقي صالح هويدي لهذا النوع من الكتابة تجنيسا تحت اسم «السرد الوامض»، مثلما يشرح في كتابه الصادر ضمن منشورات مجلة «الرافد» الإماراتية.
أسماء عديدة أبدعت في الشذرات، من أبرزها: الألماني نيتشه والروماني الأصل إميل سيوران والفرنسي رولان بارت والبرتغالي فرناندو بيسوا، وثمة من يذكر ضمن اللائحة كاتباً عربياً هو أبو حيان التوحيدي، كما جاء في مجلة «نزوى» عدد يناير/كانون الثاني 2014.
الشذرة، بتعبير الناقد الألماني فريدريك شليغل، فنّ يخاطب المستقبل والأجيال القادمة. الكتابة الشذرية كتابة التفسخ والتفكك، والاختلاف والثورة على المقاييس المنطقية الصارمة، والتحلل من قواعد النسق الفلسفي المحدد، وبالتالي الاقتضاب والتكثيف.
تفصح النصوص عن موقف محدد للكاتب من قضايا وإشكالات مختلفة، بنوع من المفارقة والسخرية
من هنا، وفي ضوء هذه الخلفية النظرية، ألاحظ أن الأديب قطب الريسوني يميل في كتابه «سلاما أيها الغيم» إلى التقاط التفاصيل الدقيقة والتركيز عليها، بلغة شفافة، هي أقرب إلى الشعر منها إلى النثر. وأكاد أجزم بأن هذا الكتابَ هو أساسا احتفاءٌ باللغة العربية المنحوتة بإتقان ودقة، وبدون حشو أو زيادة؛ حتى غَدَا أشبه ما يكون ببستان ذي زهور تتضوّع عطرًا، من خلال التعبيرات والصور البلاغية ذات النفس الشعري الآسر؛ لاسيما وأن الأديب يمتح من قاموس الطبيعة الشيء الكثير: الأشجار والطيور والحمام والبحر والمطر وغيرها. بالتوقف عند عتبة الكتاب، العنوان، نجد أن الغيم الذي يبثه الأديب قطب الريسوني سلامه وأشجانه وأشواقه هو ـ هنا ـ رديف للخصوبة والعطاء الوفير، خاصة أن ثمة موضوع مهيمن على الكتاب بشكل ظاهر أحيانا ومضمر أحيانا أخرى، هو موضوع الأمل؛ رغم بعض لحظات الانكسار والتشاؤم المبثوثة هنا وهناك. وعموما، يمكن تصنيف خطابات نصوص هذا الكتاب استنادا إلى الوحدات السردية التالية:
أولا: الكتابة موضوع للتأمل والتفكير
ضمن هذه البنية، ندنو في أحد النصوص من مكابدة شاعر مع القصيدة، ومشكلة بحور الخليل، ونعيش في نص آخر مع أديب يحلم بحرية الخيال والإبداع، ونتتبع في ومضة سردية أخرى مشهد ميلاد الديوان البكر، ونصغي في مقطع شذري إلى حوار بين شاعر حالم بالمطر، وقصيدته التي تقول إن أعذب الشعر أكذبه. وتكشف لنا باقي النصوص عن أسرارها، ففي أحدها تصير امرأة جميلة قصيدة شعرية، وفي نص آخر، يبث الحالم أميرة من ورق أمانيه وأحلامه بالحب والسلام وشجرة الزيتون. وفي نص ثالث يحوّل النغم والشعر إلى رابية والسرير إلى أرجوحة خضراء.
ثانيا: نقد الواقع والمجتمع
تفصح النصوص عن موقف محدد للكاتب من قضايا وإشكالات مختلفة، بنوع من المفارقة والسخرية:
ـ متقاعد يعيش وحدته القاسية، بينما كان في الماضي موضع اهتمام من طرف المحيطين به الذين ينثرون عليه عبارات المديح.
ـ مراكب الموت تلفظ الحالمين بالهجرة نحو ضفاف أخرى وراء البحر.
ـ الحلم بالأبناء الذكور وتفضيلهم على الإناث، لكن الأنثى التي تأتي بعد اقتصار الحلم على الابن الذكر/ تكون أحيانا كثيرة معطاء وحاملة بالبشرى.
ـ طفل الشوارع الذي تحجرت الدمعة في عينيه، فصار بلا أحلام.
ـ مصادرة الحق في الحلم، فبطل أحد النصوص يُساق إلى مخفر الشرطة حين حَلمَ بشجرة الياسمين، فتسربت رائحتها إلى الجيران وعساكر الحي.
ـ التناقض بين القول والفعل لدى بعض الدعاة، فهذا أحدهم يلقي دروسا رمضانية في التلفزيون عن أمراض القلوب، وحين يتسلم عشرة آلاف دولار عن الحلقات يتساءل أين حرمة العلم: عشرة آلاف دولار فقط؟
ـ نقد قبة البرلمان التي صارت أشبه ما تكون بمسرح.
ـ هجوم العلب الإسمنتية على المناطق الريفية، فوداعة قرية هادئة مسالمة تجابه بهجوم من طرف غيلان المدينة التي تتوعد أنوثتها البضة.
ـ مصادرة الحق في الحلم والإبداع، حيث يتحول رسم عفوي لطفلة بريئة إلى حالة استنفار أمنية وإلصاق تهمة الشغب بالطفلة.
ـ مصادرة الحق في المعتقد والعبادة، حيث يُسلَّط الرصاص القاتل على مصلين وهم سجود في أحد المساجد.
ـ تحوّل المكان والزمان، فبعد أربعين سنة من الغربة يعود بطل أحد القصص إلى مدينته، فيجد المدرسة العتيقة صارت عمارة شاهقة، والناس الطيبين قد ماتوا.
ـ الحق في العيش الكريم، فطبق السمك مجرد حلم يراود شخصا كادحا.
ثمة نصوص يكشف فيها المؤلف عن انشغاله بقضايا محلية ووطنية وقومية، روائح الوطن الجميلة: الخبز، العافية، الفرح؛ تطوان المعروفة ببياضها وبحمامها؛ التهامي الوزاني؛ المسيرة الخضراء؛ حال العراق اليوم
ثالثا: البعد المحلي والوطني والقومي
ثمة نصوص يكشف فيها المؤلف عن انشغاله بقضايا محلية ووطنية وقومية، روائح الوطن الجميلة: الخبز، العافية، الفرح؛ تطوان المعروفة ببياضها وبحمامها؛ التهامي الوزاني؛ المسيرة الخضراء؛ حال العراق اليوم؛ العرس الفلسطيني الذي لا ينتهي؛ نزيف بيروت؛ بابل الخراب؛ حمائم المسجد الأموي في دمشق.
بجانب ما سبق، يلاحظ أن بنية الكتاب تتأرجح بين يأس الواقع الكائن وقتامته وقسوته وبصيص الممكن وبُشراه، فمن جهة يتساءل المؤلف ـ في نص «أضغاث اليقظة»: أهي «كوابيس مزعجة أم أضغاث واقع؟ دموع ودماء وجنازة مائية للزوارق وريح صرصر عاتية تطفئ قناديل المدينة». وفي نص «مواعيد»، يلامس انكسار الحلم، حيث أسقط الخريف كل المواعيد والأحلام والأفراح، وفي نص «ترقب»، يكتب عن خيبة الأمل. لكنه في نصوص أخرى، يكشف عن انتظار «ربيع النفوس»، وبشرى النور واخضرار الأمل بالغيم والرخاء، وفرحة الكبار والصغار بعودة المطر.
نقرأ في نص «رؤيا»: (سنبلة تزهو بضفائرها الشقراء.. وتصلي للغيمة التي أطعمتها… والمدينة قاب قوسين أو أدنى من موسم يغاث فيه الناس وتحبل الخوابي.. رؤيا تداعب منامه كل ليلة، وما زال يبحث عن معبّر لها، يزرع في نفسه أملا أخضر).
على مستوى أسلوب الكتابة، يلاحظ أن المؤلف يوظف العديد من العبارات ذات الإحالة على القرآن الكريم، ففي نص إلى «خيال قزم»، يكتب «يمشي مكبا على وجهه» وهو تعبير مستعار من سورة المُلك التي يقول فيها الله تعالى: «أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». في نص «إلى خيال قزم»، ورد ما يلي «منسوجات القلم وما يسطرون»، وهي عبارة مستلهمة من سورة القلم «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ». في نص «رؤيا»، نقرأ: «والمدينة قاب قوسين أو أدنى من موسم يغاث فيه الناس». الاقتباس الأول من سورة النجم «فكان قاب قوسين أو أدنى» والاقتباس الثاني من «سورة يوسف»: «ثم يأتي من بعد ذلك عام يُغاث الناس وفيه يَعصِرون».
في نص «قصيدة البحر»، نقرأ «انتبذ الشاعر مكانا ظليلا»، وهنا استعمل فعل انتبذ مثلما ورد في سورة مريم: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا». كما نجد في نص آخر «أخدان الحرف الشذي»، و«أخدان» كلمة نصادفها في سورة النساء: «وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان».
وشيء طبيعي أن ينهل الكاتب (وهو المتمكن من فقه اللغة وأصول الفقه) من مَعين لغة القرآن، ذي الإعجاز اللغوي الذي أبهر فطاحل اللغة على امتداد العصور. ولا يقتصر النهل على القرآن الكريم، بل يشمل أيضا لغة الحديث النبوي الشريف مثلما جاء في نص «الغسق: «كما تأكل النار الحطب»، والعبارة مستوحاة من الحديث الشريف: «إياكم والحسد، فإنَّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحطبَ».
واستلهاما للتراث الأدبي العربي، يتحدث الكاتب عن الغيمة التي «أنّى هرولت فخراجها إلى بيت الرغد»، إحالة على التعبير الشهير المنسوب إلى الخليفة هارون الرشيد وهو يخاطب الغيمة: «أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك».
تبقى الإشارة إلى أن كتاب «سلاما أيها الغيم» الصادر عن جامعة المبدعين المغاربة، يقع في 69 صفحة من القطع المتوسط، وتزين غلافه لوحة للفنان محمد سعود.
٭كاتب صحافي من المغرب