دمشق ـ الناصرة ـ «القدس العربي»: عند منتصف ظهيرة الثلاثاء الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2018، غيّب الموت أحد أبرز الكتاب العرب. إنه سلامة كيلة، المناضل الفلسطيني الذي أمضى سنوات حياته الثلاث والستين في مقارعة الاستبداد في كافة أشكاله وصنوفه، ليس فقط في فلسطين وإنما في العديد من الدول العربية.
وإثر إعلان نبأ رحيله بعد صراع طويل مع مرض السرطان، تتالت بيانات ومنشورات التعازي بوفاته، من أدباء وكتاب ومفكرين فلسطينيين وعرب، وكان على رأسها نعي وزارة الثقافة الفلسطينية الذي جاء فيه: «برحيل كيلة فقدت فلسطين إحدى قاماتها الفكرية، وفقدت الثقافة العربية واحداً من أبرز المنظرين على أكثر من مستوى، هو الذي ولد في بيرزيت عام 1955، وأبعد عنها بسبب نشاطاته ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما أن له تجربة في النضال السياسي داخل صفوف المقاومة الفلسطينية. كيلة كان مناضلاً سياسياً له وزنه، ومفكراً على قدر عالٍ من الأهمية. كان واحداً من أبرز المنظرين العرب في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا والتاريخ والفكر، لاسيما ما يتعلق بالماركسية واليسار وتحولاته، والحركة القومية والواقع العربي والرأسمالية والحركات الإسلاموية وغيرها».
إذن، رحل سلامة كيلة، وسيغيب إلى الأبد ذلك الوجه الذي نال من قسماته المرض وحفر عميقاً في تجاعيده، بدون أن يسمح لرحلة العذاب في السجون والمنافي بأن توهن عزيمة نضاله ضد الظلم والطغيان، وأكبر شاهد على ذلك العشرات من مؤلفاته التي لم تقتصر عند نمط أو موضوع معين، أو حتى وسيلة نشر ورقية كانت أم إلكترونية، ولم تتوقف رغم سنوات السجن والملاحقة والاضطرار للتنقل من بلد إلى آخر هرباً من الاستبداد والقمع.
«أنا مواطن عربي. مواطن في هذا الوطن من المحيط إلى الخليج. أنا مواطن سوري، فلسطيني، مصري، أردني.. بالتالي أنا معني بتغيير هذه النظم، التي لا يمكن أن تتحرر فلسطين بوجودها. فلسطين لن تتخلص من الاحتلال إلا بتغيير مجمل النظم العربية. من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط هذه الأنظمة»، كانت كلمات كيلة في واحدة من مقابلاته العام الفائت، التي تبرز التصاقه وروابطه الوثيقة بالقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، والقضايا العربية بشكل عام، وأيضاً الهموم الإنسانية بشكلها ومداها الأوسع.
كان واحداً من أبرز المنظرين العرب في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا والتاريخ والفكر، لاسيما ما يتعلق بالماركسية واليسار وتحولاته، والحركة القومية والواقع العربي والرأسمالية والحركات الإسلاموية.
وقد عبر مثقفون فلسطينيون وسوريون عن أساهم بسماع نبأ رحيل المثقف المناضل سلامة كيلة في عمان بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز الـ 63 عاما وقالوا لـ «القدس العربي» إن مورثه الزاخر ربما يقدم بعض العزاء. واعتبر الأديب يحيى يخلف رحيل المفكر الفلسطيني سلامة كيلو خبرا صادما. واستذكر يحيى يخلف بعض سيرة ومسيرة الراحل بالقول إنه مفكر فلسطيني وناشط سياسي في تيارات اليسار العربي والنضال الفلسطيني. غادر الأراضي الفلسطينية إلى عمان في السبعينيات ومنعته السلطات الإسرائيلية من العودة بسبب نشاطه السياسي. وأصدر كيلة ما يقارب 30 كتاباً في السياسة والاقتصاد والنظرية الماركسية بينها «مشكلات الماركسية في الوطن العربي» و«الإمبريالية ونهب العالم». وقال الأمين العام الاسبق لحزب التجمع الوطني الديمقراطي داخل أراضي 48 عوض عبد الفتاح إن صداقة شخصية ربطته بالراحل سلامة وإنه لا يصدق ان قلبه الكبير الذي اتسع لهموم كل الناس لم يستطع ان يحمله وتوقف عن النبض. وتابع عبد الفتاح «احاول ان لا اصدق انني لن التقيك بعد الان ولن امضي اليك وانا احمل شغفي واسابق نفسي للوصول اليك، اعذرني لاني مصاب برهبة غيابك الطارئ الى اللا عودة وتعز علي الكلمات في مقامك المهيب هذا». كما قال إن منذ الآن يغالب نفسه المرهقة بوزر موت سلامة الموجع ويتذكر حين التقاه للمرة الاولى في عمان امام مكتبة الشروق وكان بطلته البهية يعاتبه بلطف على تخلفه عن موعد سابق قد الغاه. ويضيف «ما لا تعرفه يا سلامة ولن تعرفه اني الغيت اول موعد لاني شعرت بجزع من لقاء مفكر بقامتك الممشوقه وحين التقينا وذهبنا الى بيتك وتحدثنا ساعات طويله كنت اتحسس بنظري تفاصيل بيتك العادية واقول من هنا تخرج النبوءة للعالم، وبعدها التقينا عدة مرات وتحدثنا طويلا وتواصلنا كثيرا، اخ يا صديقي الذي اثقل قلبي الحزن على رحيله المباغت: رايتك منصوبه والذهب ميزانك». وقال المحاضر في جامعة حيفا البروفيسور أسعد غان إن نبأ رحيل سلامة قد أصابه بصدمة معتبرا أن بعض العزاء يكمن في موروثه الغني وفي ذخيرته الفكرية الكبيرة للأجيال. ومضى يقول «عاش حرا، متمسكا ببوصلة اخلاقية، ومات وقوفا كالأشجار. المجد للأحرار. ورحمة الله عليه».
سنوات النضال والتنظير الفكري
عُرف عن كيلة، ومنذ سنوات شبابه الأولى ومن ثم تخرجه في كلية العلوم السياسية في جامعة بغداد عام 1979، نشاطه الفكري ومؤلفاته في مجال السياسة والاقتصاد والنظريات اليسارية والماركسية، وأيضاً مناهضته للاحتلال الإسرائيلي ونشاطه في المقاومة الفلسطينية واليسار العربي. عاش كيلة في فلسطين حتى خروجه إلى العراق للدراسة، وحينها شارك في الثورة الفلسطينية، وكان منتمياً لحركة فتح. حين حاول العودة إلى فلسطين أثناء سنوات الدراسة، لم يتمكن من ذلك، إذ كان قد اسمه قد أدرج ضمن قوائم المطلوبين للسلطات الإسرائيلية نتيجة انتمائه للحركة. وبذلك أنهى دراسته وقرر الانتقال للحياة في دمشق منذ عام 1981، وتابع منها نضاله وأعماله.
من أهم المحاور الفكرية لأعمال سلامة كيلة في تلك الفترة نقد تجارب الأنظمة العربية بشكل عام، التي يعتقد بأنها استطاعت تقديم بعض الإنجازات داخل بلدانها وعلى الصعيد المحلي، أدت لسنوات من الاستقرار، وعدم بروز حالات من العداء بين الشعوب وأنظمتها الحاكمة، حيث اقتصرت معاداة السلطات الحاكمة على النخب فقط. لكن تلك الأنظمة، وعلى التوازي، حاولت الهيمنة على المجتمع والتأسيس لعقود من السيطرة وأيضاً لنهب مجتمعي دفع لتحول معظم المجتمعات العربية إلى مجتمعات فقيرة وعلى حافة الانفجار، وهو ما حصل فعلاً منذ نهاية عام 2010.
من المحاور الأخرى في فكر وأعمال سلامة كيلة التنظير لتجربة اليسار العربي، وأيضاً نقدها. وصل هذا النقد حد مطالبة كيلة الأحزاب الشيوعية العربية عام 2010 بدفن تجاربها السابقة وبناء تجارب جديدة، مرجعاً دورها المتواضع في الحياة السياسية العربية إلى نبذها مبدأ التغيير وإحلال استراتيجية الحفاظ على البقاء محله، وافتقادها للشجاعة الضرورية لكي تكون قائدة للتغيير في بلدانها.
مواقف أدت خلال فترة حياته في دمشق إلى اعتقاله عام 1992 وإصدار حكم عليه بالسجن ثماني سنوات بتهمة مناهضة أهداف ثورة حزب البعث العربي الاشتراكي والعمل مع أحد الأحزاب الشيوعية. ورغم ذلك خرج كيلة من السجن وتابع أعماله وكتاباته من العاصمة السورية.
بعد الربيع العربي
منذ انطلاق الربيع العربي وحتى اللحظات الأخيرة، وقف سلامة كيلة إلى جانب ثورات الشعوب التي نادت بالحرية والكرامة، وسعت لإسقاط أنظمتها المستبدة، وأشار في أكثر من مناسبة لأحقية هذه الثورات، التي اندلعت لأسباب عديدة منها، الفوارق الطبقية الهائلة التي باتت تسود المجتمعات العربية، والانهيارات المتتالية التي أصابت المناطق الريفية، وظهور طبقات من رجال الأعمال المتحكمين في اقتصاد تلك البلاد مقارنة مع أغلبية ساحقة تعيش بأدنى الأجور وأقل مقومات الحياة. هي جميعها كانت بالنسبة لكيلة مؤشرات لا خلاف عليها على دخول البلدان العربية عصر الثورات. وجاء ارتباطه بثورات الربيع العربي بشكل عام والثورة في سوريا بشكل خاص نتيجة إيمانه بأن فلسطين لا يمكن أن تتحرر إلا بتغيير مجمل الأنظمة العربية، وعلى رأسها النظام السوري، الذي ساهم بآلته العسكرية في تدمير العديد من المخيمات الفلسطينية في سوريا، وأكبرها مخيم اليرموك في العاصمة دمشق وكذلك مخيمات درعا واللاذقية وحمص وهو ما شكل في رأي كيلة «خدمة لإسرائيل». ونتيجة هذا الإيمان رفع كيلة منذ الأشهر الأولى للثورة في سوريا شعار «من أجل تحرير فلسطين من الكيان الصهيوني نريد إسقاط النظام».
واستمر انتقاد كيلة لليسار العربي بعد عام 2011 وازدادت حدته، حيث رأى أن هذا اليسار بات بمثابة «التراجيديا التي تسكن العالم»، وهي تراجيديا مركبة المستويات، فاليسار الذي يدافع عن التحرر وعن الإنسان، الذي هو بتعبير ماركس «أثمن رأس مال»، يقف داعماً لسلطة النظام السوري التي تمارس كماً كبيراً من الأعمال الوحشية، حيث يتخيل هذا اليسار أنه بذلك يدافع عن انتهاكات حقوق الإنسان ويحارب الإمبريالية، وهو بذلك يجعل من شعار «معاداة الإمبريالية» غطاء سميكاً، يحول دون رؤية حال سلطة تعيد إنتاج التخلف وتمارس مختلف أنواع القتل والتدمير ضد الشعب السوري، وليس ضد قوى الإمبريالية أو قوى الاحتلال.
مواقفه الداعمة للثورات العربية والمناهضة لنظام الحكم في سوريا ورفعه لهذا الشعار تسببت في اعتقاله مرة ثانية في دمشق عام 2012، ومن ثم إجباره على مغادرة سوريا بشكل نهائي، فتوجه منها إلى الأردن وقضى سنواته الأخيرة متنقلاً بين الأردن ومصر. وقد وصف كيلة رحيله عن دمشق في واحدة من المقابلات بأنه «خسارة كبيرة لا تقدر بثمن»، لكنه أصرّ رغم هذه الخسارة على الاستمرار في الصراع «سعياً لتغيير الأوضاع وللوصول إلى وطن مختلف هو الوطن الذي نحلم به».
شهادات حية
«القدس العربي» تحدثت إلى عدد من أصدقاء المفكر الراحل، فكانت لهم شهادات تبرز مكانته الكبيرة في العالم العربي، والخسارة الفادحة التي سيشكلها غيابه.
وائل السواح وهو رئيس تحرير موقع The Syrian Observer وصف كيلة بأنه «مناضل ومفكر فلسطيني سوري من النوع العنيد، وكان من القلة الذين ربطوا الفكر بالنضال». وأشار إلى أن كيلة كان يعطي الأولوية للسياسة في كل مناحي حياته، ويبدي على الدوام تفاعلاً حياً مع المضطهدين مهما كانت انتماءاتهم. وأضاف: «لم يفتّ السجن ولا الملاحقة من عضده، ورغم مرضه كان قوياً وعنيداً ومتفائلاً كعادته. حين التقيته قبل نحو سنة في إسطنبول كان يشدّ من عزيمتي أكثر مما كنت أشد من عزيمته».
وكشخص عرفه عن قرب، تحدث عمر سوركلي الذي التقى سلامة كيلة في سوريا عام 2011 واصفاً إياه بالأب الحقيقي الذي كان يمضي الساعات في نقاش الشباب السوريين المنخرطين في الحراك، وذلك من خلال جلسات فكرية وثقافية وسياسية اعتادوا عقدها قبل اعتقال كيلة عام 2011. واستمرت معرفة سوركلي بكيلة حتى بعد الخروج من سوريا، حيث استقر الشاب في مصر وتتالت اللقاءات في منزل كيلة هناك، والذي كان منزلاً متواضعاً مليئاً بالكتب، حيث كان يستقبل عشرات الشباب السوريين، وأيضاً المصريين للحديث حول مختلف القضايا الراهنة. «لم يكن يتدخل بآرائنا لكنه كان ينصحنا ويناقشنا على الدوام. كان بمثابة الأب الروحي لنا بروحه الشابة التي تحملتنا وتعلمنا منها الكثير».
الكاتب والصحافي السوري فرحان مطر تحدث عن جوهر شخصية سلامة كيلة، التي تعرف إليها عن كثب خلال لقاءات متتالية في الأعوام الفائتة، فوصفه بأنه «إنسان غاية في البساطة والتواضع والذوق الجم في تعامله مع الآخرين، لا يمكن لأحد أن يلمس لديه غرور بعض المثقفين الذين يظنون أنهم يملكون أسرار الكون. يتمتع بقدرة مدهشة على الإصغاء بدون مقاطعة لمن يحدثه، وعندما يأخذ دوره بالرد فقد كان صاحب قدرة على إيصال أفكاره بلغة شديدة الوضوح وبمنتهى البساطة بعد إعادة القضايا إلى أساسياتها المعرفية التي لا بد من ذكرها، وبدون الحاجة إلى استعراض عضلاته المعرفية».
أما على الصعيد الفكري، يقول مطر بأن كيلة «هو الكاتب والباحث العميق المعرفة والاطلاع، والماركسي الأصيل بدون جمود، الذي يعنى بتشريح الواقع بناء على خصوصيته وليس نقلاً عن عالم الكتب الافتراضي، وقد ظل أميناً لهذا الفكر حتى آخر لحظة في حياته. وفي الوقت ذاته هو الشجاع الذي لا يخشى أي عواقب محتملة لمواقفه. كان كيلة يحب بصدق ويضحك من القلب كطفل. هو من الحالات التي لا تتكرر كل يوم».