من بين أهم مقومات التواصل، استناده إلى شبكة التوافقات المشتركة، التي تحكمها القضايا الملحة، والمؤهلة لاستقطاب اهتمام أغلب شرائح المجتمع. والمقصود بالشبكة هنا، مجموع الفضاءات المستثمرة من قبل الأفراد والجماعات، في سياق تبادلهم للإشارات والترميزات المحيلة، على غايات وأهداف محددة. وهو سياق يستدعي توافر شرط العقلانية المعززة بعفويتها وسلاستها، والكفيلة بإضفاء الحد الأدنى من التوازن المطلوب في حركية المعيش، علما بأن تحقق هذا الحد، يناط بالأجهزة المتحكمة في زمام ما يصطخب به الواقع من توترات وتجاذبات مجتمعية، تتباين من حيث طبيعتها، وأيضا من حيث بساطتها أو تعقيداتها.
من هنا سيكون استفحال الاختلالات السياسية والاقتصادية، دليلا على تسارع وتيرة الأعطاب التي يحدث أن تتعرض لها آليات اشتغال النسيج التواصلي، ما يؤدي إلى سيادة حالة اللاتوازن، المؤشرة بدورها إلى تنامي ما يتخلله من ثغرات وتمزقات.
وعلى العموم، يمكن القول إن استفحال حالة اللاتوازن، الناتجة عن توسع مساحات الاختلالات، يعود إلى حدة الالتباس الدلالي الذي تصطدم به الحركية التواصلية، في سياق تمثلها لغزارة المعلومات التي تكتظ بها فضاءات التفاعل، ببعديها الطبيعي والافتراضي. ونخص هنا بالذكر المعلومة المحملة بشحنة عالية من الخلاف، والمؤثرة في تمزيق النسيج التواصلي، ما يدعو للقول إن الدور المطلوب من المعلومة المتضمنة في الكلام /الخطاب، هو إغناء خصوصية حقل التواصل، بمجموع ما يتميز به من تنوع إيجابي وخلاق، بوصفه قيمة مضافة واجبة الحضور. علما بأن المعلومة في حد ذاتها، لا تتميز بأي توجه عقلاني، أو أخلاقي مسبق وجاهز، بالنظر لزئبقيتها القابلة للانحياز العشوائي إلى هذا الطرف، أو ذاك كي تتحول تبعا لذلك إلى مصدر تشويش يؤثر سلبا على آلية التعرف والفهم. بمعنى أن التباس المعلومة، يعود إلى سوء فهم وتفسير ما يروج في المشهد المجتمعي، الحاضن لراهن المعيش والمفكر فيه، والمؤطر عمليا بإجرائية الـ»هنا والآن». هذه المعادلة التي تعتبر بمثابة كلمة السر المعتمدة من قبل الرؤية البراغماتية، في فض التناقضات الطارئة والعالقة، بفعل ما تتمتع به من سلطة إجرائية، تخول للمعني بها إمكانية الحسم في ما يصطدم به من إشكاليات، وفق الشروط المتاحة، دون أن يكون بالضرورة مكرها على الخضوع إلى مأزق الانتظار، بما يولده من قلق وحيرة وتيه.
فمعادلة الـ«هنا والآن» بما تتمتع به من جاذبية ذرائعية، هي الإطار العملي والبديل، لمجموع تلك الإغراءات التسويفية التي تعد صاحبها بنعيم مؤجل، في زمن ومكان آخر، قد لا يكون له وجود هناك، أو حتى ما بعد الـ«هناك». كما أنها تفيد القطع مع الرؤية الاستشرافية للواقع، بوصفها ترياقا، ينسي المعني بها ولو مؤقتا ما يكتنفه من إكراهات. مع العلم أن الأخذ بها على عواهنها، لا يمكن في نهاية المطاف، إلا أن يزج بالذات الفردية أو الجماعية في دوامة الإكراهات اليومية، التي تصرفها عن إعمال النظر والفكر وفق رؤية مستقبلية، تنتزعها من إجبارية الراهن. وبتعبير آخر، إنها تحبس تفاعلاته في بؤرة دلالية ضيقة، خالية من غواية الهوامش، التي يطمح فيها الكائن إلى تجديد بحثه وتنقيبه، عما غاب عنه من أسئلة.
والجدير بالذكر أن تفعيل مسطرة التواصل التي يستدعيها منطق الـ«هنا والآن» المطعم بحربائية المعلومة، غالبا ما يكون مشروطا بتوخي البساطة المجردة من أي مجهود فكري بوصفها اللغة المشتركة، التي يحرص المكر التقني والافتراضي على تعميمها، بالحق كما بالباطل. علاوة على أن منجز التحديث التقني والرقمي في بعده الكوني، يوهم برفع جميع العوائق والحواجز الدلالية التي من شأنها إرباك حركية العالم. كما يوهم في إمكانية تسريع إيقاعه تلافيا للاصطدام بشراسته. فالكفايات الرقمية على سبيل المثال لا الحصر، وفي ظل ما تقترحه تباعا من حلول للإشكاليات المتمركزة في الـ»هنا والآن» استطاعت أن تختلق تصورات هجينة للفضاءات العامة، بما تمتلكه من أبعاد مكانية وزمانية ودلالية.
إن الشروط التي ورط فيها زمن الحداثة حياة الكائن، بلغت من الشراسة، ما جعلها مأهولة بتلك التجاذبات الصاعقة، التي يسعى كل منها إلى تخطف أجساده وأرواحه، تخطف يأخذ شكل نهش مغلف بجمالية التقاسم. الشيء الذي فاقم من حيرته، ومن مكابداته، كما لو أنه على أهبة فقدان أوصاله في معركة حقيقية أو مجازية، يمكن أن تتأجج نيرانها في أي لحظة ممكنة.
إنها تبعا لذلك تحول دون إنجاز أي تفاعل حياتي أو فكري، لا تتوافر فيه شروط الاستهلاك السلس، لأن الخطاب والحالة هذه، سيبدو مصابا بخلل تقني في مقوماته البنائية، حيث سيكون مدعوا لتداركها بالتصويب والصيانة، حتى يتمكن من استعادة قابليته للتداول السلس والعفوي. وبصرف النظر عما يتصف به هذا الرأي ظاهريا من وجاهة، إلا أنه سيصبح موضوع مساءلة، حال مقاربته من منطلقات رؤية مغايرة. ذلك أن الارتقاء بالتفاعلات المجتمعية إلى المستوى المطلوب، من حيث سلاستها ومرونتها، يحتاج قبل ذلك، إلى عمليات تدبيرية على درجة عالية من التعقيد، كما هو الشأن بالنسبة لمجمل الاختصاصات التقنية التي نقوم بتسخيرها في حياتنا اليومية بشكل آلي، دون أن نكون بالضرورة ملمين، ولو بالحد الأدنى من أسرار تصنيعها. وأيضا كما هو الشأن بالنسبة للظواهر الطبيعية، التي يتعامل معها الإنسان ككل، بعفوية مطلقة، فيما هي مثقلة بحمولتها المعرفية، والميتافيزيقية، إذ ثمة ما يمكن توصيفه «بنسيان العلة» سواء تعلق الأمر بأسئلة الطبيعة أو بأسئلة التقنية. والشيء ذاته قابل للتعميم على النصوص الإبداعية والفكرية الكبيرة، والتي يتم استهلاكها من لدن القارئ البسيط، دون إجهاد عقله، أو انشغاله «الممل!» بهاجس الكشف عن أسرار جماليتها.
إن الشروط التي ورط فيها زمن الحداثة حياة الكائن، بلغت من الشراسة، ما جعلها مأهولة بتلك التجاذبات الصاعقة، التي يسعى كل منها إلى تخطف أجساده وأرواحه، تخطف يأخذ شكل نهش مغلف بجمالية التقاسم. الشيء الذي فاقم من حيرته، ومن مكابداته، كما لو أنه على أهبة فقدان أوصاله في معركة حقيقية أو مجازية، يمكن أن تتأجج نيرانها في أي لحظة ممكنة.
إن شراسة هذه التجاذبات المملاة من قبل سلطة الـ»هنا والآن» تلزمه بتفقد أوصاله السيكولوجية باستمرار، كي يتأكد من تملكه الفعلي لها. وهي الحالة التي لا تسمح له ولو بالحد الادنى من السهو والغفلة. إنه بهذا المعنى، ملزم بتوخي اليقظة، وفي الوقت نفسه ملزم بتوخي الاستجابة لكل المحفزات الطارئة والثابتة. وتلك هي المفارقة العظمى، بما هي حالة مزمنة من التشنج المكتوم، التي لا تسمح للذات بالتغلغل في البحث عن أجوبة شافية، وناجعة للإشكاليات ذات الخصوصية التقنية، الفكرية، أو الجمالية، التي قد تصرفه تعقيداتها عن درء أذى التجاذبات الحياتية المتربصة بجلده وبمزاجه.
وإذا ما نحن اعتبرنا أن مفهوم الأهمية يقترن أساسا بشرط «الجدوى» فإن هذا الأخير لا يؤكد حضوره وفعاليته في الـ«هنا والآن» إلا من خلال إخضاعه لمسطرة التبسيط، أو بالأحرى لمسطرة التسطيح التواصلي، كي يستجيب لمقتضيات الاستهلاك السلس والسريع، التي يتحقق خلالها مطلب رصد ما يحدث في الهوامش القريبة، وهي تمارس زحفها في اتجاهه، أي هوامش الإكراهات التي لا يني اليومي يحرضها عليه، كي يحبط لديه كل محاولة لممارسة فعل التفكير التأملي والعميق.
إن «الجدوى» ضمن هذا السياق التسطيحي، يكمن أساسا في المردودية السريعة التي يمكن أن تعدك الأشياء بها، والذي قد يعبر عن إيجابية تموضعه في نسق ما، وفي صيغة ذبذبات خفية، يحدث أن تدغدغ برعشتها أديم الجسد في لحظة انتشاء عابر، أو بصيغة صرخة فرح مكتومة أو مدوية، احتفاء بأضواء بروق، شعشعت أنوارها في ظلمة الـ»هنا والآن» والواعدة ربما، بانفتاح أفق، قد يؤذن ببداية حية خارج سلطتها.
شاعر وكاتب من المغرب