أنْ تكتب الرواية، وأن تنشرها عن دار نشر راقية، ومعروفة بإصداراتها المتمّيزة، شيءٌ، وأن يرضى القراء عما تنشره شيءٌ آخر. وقد لا يهمك الرضا بمقدار اهتمامك برؤية ما كتبته منشورا بورق رائع، وغلاف أنيق، ولكن.. في المحصلة النهائية للكاتب أن يتوقع، أو لا يتوقع، ما يُقال في ما ينشرهُ، رضي بذلك أم لمْ يرْضَ. و«سماءان» (الأهلية، 2016) هي الرواية السابعة للكاتب، لا الأولى، ولا الثانية. ولو كانت الأولى لحظي من القارئ ببعض المجاملات، فعذْره ـ عندئذٍ ـ عذر من يخطو أولى خطواته المتعثرة شأنه في هذا شأن الذين يخوضون صعوبات البدايات. والحال أنه مع الرواية السادسة أو السابعة يتوقع القراء أن يكون قد ألمَّ بأساسيات الصنعة الروائية، وتجاوز عثرات (القرْزَمَة) بالتعبير العربي القديم، الذي أكل عليه الدهر وشرب.
رواية «سماءان» إنْ صح أن توصف بهذا الوصف، مثلما جاءَ على رأس الغلاف، فوق اسم المؤلف، تروي حكاية زوجين هما غسان وهند، الرجل قدَّمه الكاتب بصفته ثريا صاحب مؤسسات تدرُّ عليه دخلا وفيراً، وكبيراً. ولذا لا يحسب للإنفاق أي حساب. ويستخدم في ذهابه وإيابه وجولاته، سيارته المرسيدس(الكومبروسر) التي فات المؤلف أنْ يذكر سنة صنعها، على أساس أنَّ «الموديل» له دلالاته في هذا المقام، فإذا لم يُذكر قد يذهب الظنُّ بالقارئ مذهباً آخر، لا يرتضيه الوصف، ولا يقبل به تحليل الشخوص. أما هند، فقد ذكر عنها أنها سيدة غير مِنْجاب، تأخَّر حمْلُها، وانتظر الزوجان سنوات تبلغ خمساً، وأخيراً رزقا مولوداً ذكراً سمياه (هاشم) وقد فرحا بميلاده فرحاً كبيرا، على الرغم من آلام الولادة الشديدة التي تفنن الكاتب في وصفها، وتصويرها، سواء أكان ذلك في البيت، أم في السيارة، أم في غرفة التوليد في المستشفى.
ترهات
بيد أن الأمور لا تسير على خير ما يرام، فما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركه، إذ تجري رياح غسان، وهند، بغير ما يشتهيان. كبُر الطِفْل، وبلغ الثالثة من عمره، وما عليه من الأمارات، والعلامات، لا يبشِّرُ بخير، بل ينمُّ على أنه طفل غير طبيعي، يعاني من اختلال غامِضٍ، وقد يكون هذا الاختلال له علاقة بالدماغ، أو بالأعصاب، أو بأي شيء آخر. فنظراته غريبة، وتأخُّره في النطق زمنًا طويلا شيءٌ مُقلق، وتصرُّفاته لا تنمُّ عن أنه سويّ. حذَّرت إحدى الصديقات (هندًا) من اللامبالاة بالموضوع، وحثَّتْها على عرض الطفل على أطباء متمرّسين قبل أنْ تقع الفاس في الراس. لكنَّ (غسّان) يأبى ذلك بشدة، فهو لا يريد لابنه الأول، والوحيد، أن تُخْدش صورته النقية بمثل هذه الفكرة. ويصرُّ إصرارا شديدًا على أن وحيدهُ طبيعيٌ تمامًا، وأنَّ ما يقال عن اعتلاله ترَّهات. ولكنه ـ في نهاية المطاف ـ ونظرًا لتفاقم الأمر، ينصاع لرغبات زوجته، على الرغم من التوترات الشديدة التي بلغت حَدًّا غير معقول بينهما حين أهوى بيده في صفعة قوية على وجْهها، اضطرَّ للاعتذار عنها لاحقًا، وبكلّ طيبة.
تستمرُّ حكاية هاشم، والزوجين، وفقا للإيقاع الرتيب الآتي: من طبيب إلى آخر، والآخر يصف لهما طبيبًا ثالثا. ومن مركز يهتم بالمعاقين إلى آخر، والآخر يصفُ لهما مركزاً ثالثا، وهكذا.. ومع استمرار المحكيات السردية بهذه الطريقة الرتيبة، المُملَّة، يلجأ المؤلف لكَسْر هذه الرتابة بذكره الشيخ زكي، الذي وُصف لهما، وَوُصفت طريقة علاجه بالقرآن وبالشعوذة. وَعَرَضا هاشم عليه، فأعادهما كرَّة أخرى لما كانا قد دأبا عليه من زياراتٍ متكرِّرة للأطباء تارةً، ولمراكز العناية، والتربية الخاصَّة، تاراتٍ أُخَر.
أما عن كتابة المؤلف السردية فهي توغل في التفاصيل، حدًّا يُغرق المشهد بالرتابة، ويشعر القارئ بالملل، وهي تفاصيلُ لا وظيفة لها فنيًا، إلا زيادة حجم الرواية.
ممّا استنزف منهما نقودًا كثيرة جدًا، فبعضهم – على سبيل المثال – يتقاضى 500 دينار، أيْ: ما يعادل 700 دولار عن الجلسة الواحدة التي لا تزيد عن 60 دقيقة بلا فائدة. صفوةُ الحديث أنَّ حكاية غسان وهند وهشام هذه، وهي حكاية ليسَتْ روائية أساساً، بدأت بهذه الصورة وانتهَتْ بما بدأت به. أيْ بدون أن تسفر عن شيء ذي قيمة، أو عن خاتمة دراماتيكية يمهّد لها الكاتب فتبدو نهايةً معقولةً، ومقبولَة، ومتوقَّعة من لدُن القارئ. ويبدو أنَّ المؤلِّف يفتقرُ أساسًا لتصوُّر معيَّن حول حكاية هاشم هذه، ولعلَّهُ اقتبسها من أحد الملفات الطبيّة، التي تنطوي عليها مراكز التربية الخاصة التي تُعنى بالمعاقين عقلياً، أو بمن يعانون من التوحُّد. وبما أنَّ الحكاية لم تصل لنهاية سعيدة، أو تعيسة، فإنَّ حكايته في الرواية بقيتْ هي الأخرى حكاية بلا خاتمة، وإنْ حاول التغطية على ذلك بعقده فصلا بعنوان «لا بدَّ من خاتمة» ولو أنه لم يُضفْ هذه الخاتمة، لكانَ أكثر سَداداً، وأبعد عن الخَطَأ، لأنه لم يزد على أنْ أوضح للقارئ ما خَفيَ عليه من فنّ الصنعة الروائية، وأنَّ الخاتمة ينبغي لها أنْ تكون ممّا يترتَّب على المُجْريات، لا أنْ تُفْرض على الحبكة بطريقة قسْريَّة فِجّة، لا تُصدَّق، ولا تُتَوقَّع.
في المقابل، ثمَّة وقائعُ أخرى لا صِلة لها بحكاية غسان، وهاشم، والسيدة هند. وهي فصولٌ تقع بين فصول الحكاية، وتروي لقاءاتٍ بين ساردٍ يتردَّدُ على مركز علاجي، وآخرين، لا تحمل شخصياتهُم أيَّ مسمّى، ولا دوْرَ لها في تلك الحكاية، نعْني حكاية هاشم، ووالديه، وجدته، وعمَّتيْه؛ عبير وغدير. ويستطيع القارئ المهتم بحكاية الطفل هاشم أنْ يقرأ الفصول الخاصة بها، متجاوزاً الفصول الأخرى التي تقع في المركز العلاجي. بمعنى أنّ القارئ يقرأ فصلا ثم يتجاوز الذي يليه، وقد يتجاوزُ فصلين ليعود إلى حكاية هاشم وغسان. وعلى القارئ أن يقرأ الأسطر الأولى ليتبيَّن أينَ هو، ثم يقرِّرُ إن كان سينتقل للفصل التالي، أم يظل حتى يُنْهي الفصل الذي قرأ أوَّله، فالفصول تتوالى بهذه الآلية المُفسدة لنسيج الحِكايَة، المجَسِّدة لتفكيك البناءِ الفني. على أَّنَّ الفصول التي تجري في المركز العِلاجيّ خليطٌ من الحوار، والوصف، والسرد، الذي يتخذ أشكالا متباينة، لا تنسجم قطعًا مع حكاية الطفل الذي يُعاني من متلازمة أسْبرجر(صعوبة التفاعل مع المحيط الاجتماعي) فهو في الفَصْل الرابع، مثلا، يبدأ بعبارة «المسرح يصعَدُ قادمًا من أعماق الجحيم» يليها وصفٌ لأعضاء الجوْقة. ثم أبيات غير منضبطة الوزن، ولا الإيقاع، يردّدونَها، وكأنَّ الكاتب عدَلَ عن كتابة الرواية إلى شيءٍ من مسرح الفرْجَة، على الرغم مما بين النوعين من تباعُد. وفي الفصل الخامس نجد أنفسنا في مسرح يتضمَّن راوياً وجمهوراً.
وفي الذي يليه يعود بنا إلى الفرح الذي عمَّ أسرة غسان بولادة هاشم. بعد ذلك، وفي الفصل السابع، يعود بنا إلى المركز العلاجي المتكرر، الذي يضمّ ما بين 50 و60 نزيلا، وجلُّ ما في هذا الفصل من حواراتٍ تدور بين الشخوص لا علاقة لها، ولا صلة، بحكاية الطفل المُعاق. ثم يعود في الفصل الذي يتْبَعُهُ لأسْرة غسان، وشقيقتيه عبير وغدير، وأغاني الراحلة فايزة أحمد (ستّ الحبايب يا حبيبة) و«يا ربّ خليكِ يا أمي « وفي التاسع يعود للمركز العلاجي، ولنعيم، وأبو عبده وحسين، والسكن الداخلي. إلخ.. وحتى في هذا المشهد، بين الأنين والأنين ثمة جوقة تُنشِدُ بصوتٍ عالٍ: «حضر. حضر. حضر.. الغائب».
صفوةُ القول إنَّ هذا النوْعَ من الكتابة مُمْكن أن يقتصر على حكاية غسان، وهند، والطفل هاشم، مع ما فيها من ملفاتٍ طبيَّة، بدون هذا الخليط من فصول تجري هنا، وأخرى تجري هناك. أما عن كتابة المؤلف السردية فهي توغل في التفاصيل، حدًّا يُغرق المشهد بالرتابة، ويشعر القارئ بالملل، وهي تفاصيلُ لا وظيفة لها فنيًا، إلا زيادة حجم الرواية، يقول ذاكرًا مغادرة الأسْرة للمستشفى بُعيْدَ الولادة: «بدأ يجمع حاجياتهم تأهبًا للمغادرة.. تحاملت هند على أوجاعها. تعكَّزتْ على كتف زوجها. ركبوا المِصْعد. هبطوا للباب الرئيسي. فتح الباب الخلفي لهند، وهاشم. جلست أمه في المقعد الأمامي. ساهمَةً.. شاردة الذهن. وضع الحاجيات في الصندوق. أدار المُحرِّك، وسط محاولات الشمس الكانونية المباعدةَ بين قضبان الشتاء الصلبة. وكانَ حريًا بالكاتب أنْ يعبر عن مغادرة المستشفى بعبارة واحدة، فهذه التفاصيل لا قيمة لها من حيث الفنُّ.
«لا بدَّ من خاتمة»
ومما زاد الطين بِلَّة أنَّ الكاتب يمهّد لكل فصل من الفصول الـ 47 بعتبة لا علاقة لها، ولا صلة، بالفَحْوى. وقد اكتشفنا في الفِصْلة التي سَمّاها «لا بدَّ من خاتمة» أنَّ (عبير) شقيقة غسان، وعمَّة الطفل هاشم، أصبحت كاتبة روائية، هكذا.. وبقدْرة قادر، وفازتْ روايتها «أحلام التوَحُّدي» ـ في إشارة للطفل ـ بجائزة أفضل كاتب عربي. واكتشفنا، بقدرة قادر أيضا، أن هشام الذي أعيا الأطباء، والمراكز العلاجية، لا يعاني من إعاقة عقليّة، ولا عصبية، ولا من توحُّد، وإنما يعاني من ملازمة أسبرجر، ومن قدراتٍ عقلية عالية ـ فائض ذكاء – وأنه تعرض لصدمات متتالية بسبب العلاجات الخاطئة. ومثل هذه الإشارات، في نهاية الكتاب، تقعُ على القارئ وقوع الصدْمَة، لأنه – ببساطة – لا يجد في المُجريات ما يوحي، ولو من بعيد، بهذه النهايات. ُيذكر أن للمؤلّف عددًا من المحاولات هي «حين يلتقيان» و«دنيا» و«قطار باريس» و«الورّاقون» و «الأولمبوس» و«إبادة» وعلى ذلك تصبح «سماءان» هي السابعة للمؤلف.
ناقد من الأردن