سوف يسجل التاريخ العام 2023 كأحد أسوأ الأعوام في تاريخ منطقة عربية شهدت من المآسي في السنوات الأخيرة ما يجعل من هذا القرن حتى الآن أحد أسوأ القرون في تاريخها. وبالطبع، سوف يبقى العام المنصرم في الذاكرة الجماعية الإقليمية، في المقام الأول، عام نكبة فلسطين الثانية، التي فاقت فظاعة النكبة الأولى حيث إن العدوان الصهيوني على غزة قد جرى حتى الآن، باعتراف صحيفة «واشنطن بوست» ذاتها يوم السبت الماضي، «بوتيرة ومستوى من الدمار يفوقان على الأرجح أي نزاع حديث».
وبالفعل فإن ما نفّذه الجيش الصهيوني من قتل وتدمير في قطاع غزة خلال عشرة أسابيع فقط – وهو، إلى يومنا، قتل ما يزيد عن واحد في المئة من السكان، إن لم يكن أكثر من ذلك نظراً لاستحالة إحصاء كافة القتلى تحت الأنقاض، وجرح ضعفي هذا العدد بما يصل بعدد الضحايا الإجمالي من قتلى وجرحى إلى ما يفوق الثلاثة في المئة، وتدمير ثلاثة أرباع مباني شطر القطاع الشمالي وأكثر من ثلث مباني خان يونس، وتهجير غالبية السكان الساحقة مع حشدهم في رفح (التي تتعرض هي ذاتها للقصف وقد جرى تدمير 15 في المئة من مبانيها) في شروط تفوق بشاعة ما شهدته العقود الأخيرة من تهجير جماعي، إذ إن إسرائيل تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى ضحايا «التطهير العرقي» الجديد الذي ترتكبه – كل هذا، إنما يشكّل مستوىً قياسياً من الوحشية في التاريخ الحديث. وبالطبع لا بدّ من أن نضيف إلى هذه الصورة القاتمة ما يجري من قتل وتهجير في الضفة الغربية حيث تسعى عصابات المستوطنات الصهيونية بمؤازرة جيش الاحتلال لتستكمل فيها النكبة الثانية بثالثة.
النظام العربي قد بلغ الدرك، أو بالأحرى محطة جديدة في هبوطه إلى الحضيض، إذ يفاجئنا دائماً بقدرته على الانحطاط إلى أعمق مما وصل إليه
هذا وللنكبة الثانية الراهنة ميزتان رئيسيتان عن نكبة 1948. الميزة الأولى هي أن الحرب الصهيونية الجارية على غزة هي أول حرب تخوضها الدولة الصهيونية بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية وتأييدها غير المشروط، فضلاً عن بعض حليفاتها كألمانيا وبريطانيا. صحيح أن أمريكا مدّت إسرائيل بجسر جوي من التسليح في عام 1973، لكن الأمر كان لمساعدة هذه الأخيرة على صدّ الهجوم العربي عليها والحؤول دون هزيمتها، وقد ترافق بالضغط على الحكومة الصهيونية كي توقف الحرب بعد حين، عندما كاد «العبور» يتحوّل إلى «نكسة» جديدة أسوأ من الأولى (يجب ألا تُنسينا الدعاية العربية الرسمية أن حرب «العبور» شهدت في الحقيقة عبورين لقناة السويس: أولهما عبور الجيش المصري إلى سيناء وثانيهما عبور الجيش الصهيوني اللاحق في الاتجاه المعاكس وصولاً إلى مسافة مئة كيلومتر فقط عن القاهرة). ولم تؤيد الولايات المتحدة رسمياً الاجتياح الصهيوني للبنان في عام 1982 ولا العدوان اللاحق في عام 2006. أما هذه المرة فإن واشنطن مساهِمة بصورة مباشرة في العدوان ومنذ لحظته الأولى، والحال أن إسرائيل ما كانت لتستطيع خوض حرب الإبادة الجماعية التي تخوضها الآن لولا الجسر الجوي الأمريكي الذي مدّها بما يلزم من العتاد الفتّاك، بما فيه قنابل العيار الثقيل جداً التي تسببت بقسم كبير مما جرى وصفه أعلاه. هذا وناهيك من تدخل الأساطيل الأمريكية لتوفير الغطاء لإسرائيل كي تستطيع أن تقتل وتفتك وتدمّر بلا خوف من مباغتة خارجية.
أما الميزة الثانية، فهي أن نكبة ما قبل ثلاثة أرباع القرن ترافقت بهزيمة للجيوش العربية في الحرب التي خاضتها من أجل نجدة شعب فلسطين، أما النكبة الحالية فتجري بلا أن تحرّك أية من الدول العربية الكبرى ساكناً على أرض المعركة، بل بلا حتى أن تشهر سلاح النفط الذي لا يكلّفها شيئاً، بل يدرّ عليها ربحاً، إذ إن استخدامه يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار مثلما جرى لدى المقاطعة النفطية العربية خلال حرب عام 1973 التي كانت مدخلاً إلى إثراء عظيم للدول العربية المصدّرة للنفط. بل إن الحقيقة التي لا بدّ من قولها هي أن بعض الدول العربية يتعدّى كونه شاهداً سلبياً على الجريمة إلى التواطؤ معها بصورة شبه مكشوفة.
ذلك أن النظام العربي قد بلغ الدرك، أو بالأحرى محطة جديدة في هبوطه إلى الحضيض، إذ يفاجئنا دائماً بقدرته على الانحطاط إلى أعمق مما وصل إليه. فإن الحدث العظيم الثاني الذي شهدته المنطقة في عام 2023 إنما هو اندلاع الحرب بين جناحي نظام عمر البشير في السودان، بما تسبّب بكارثة إنسانية هائلة هي الأخرى وبتوجّه البلاد نحو تقسيم جديد، ليس على أساس قومي مشروع هذه المرة، بل على أساس قبَلي يترافق بالإبادة الجماعية و«التطهير العرقي» كما في غزة. وقد بات المشهد السياسي في المشرق العربي برمّته شبيهاً بساحة حرب مدمّرة على غرار الصور التي تصلنا من غزة اليوم، أو مشاهد حلب في عام 2016 أو الموصل في عام 2017، على سبيل المثال لا الحصر.
هذا الانحطاط العميق إنما هو نتاج للأزمة البنيوية الخطيرة التي ألمّت بالنظام العربي، كما هو وبصورة ملازِمة نتاج لإخفاق السيرورة الثورية التي شبّت في وجه هذا النظام، لكنّ موجتيها حتى الآن، اللتين بلغتا ذروتيهما في عامي 2011 و2019، قد أخفقتا بما أدّى إلى ردّة هي أسوأ مما ثارتا عليه. ولن تنهض المنطقة من كبوتها ونكبتها سوى إذا ظهرت في كافة ساحاتها حركة تغيير ثوري بقيادات جديدة تختلف جذرياً عما ساد في محطات النضال السابقة وتكون مخلصة لمصلحة الشعب العامل ولغاية التغيير الثوري العميق للمجتمع، وليست ساعية وراء إحلال استبدادها محل الاستبداد القائم، ليس إلّا، ولا منخرطة في النظام العربي والإقليمي من حيث الارتهان بأحد أطرافه أو ببعضها، كما هي حال القوى التي ادّعت رفع راية التحرّر أو التحرير تحت شتى التسميات حتى الآن.
كاتب وأكاديمي من لبنان