الكلمة الشائعة هذه الأيام في سوريا بعد التخلص من نظام آل الأسد الدموي هي كلمة «تكويع» التي لن تجد لها تفسيرا لو بحثت عنه كما تبحث عن أي مفردة أخرى.
أحد المواقع الإلكترونية تطوّع مشكورا بشرح هذه المفردة حديثة العهد والتداول قائلا: «التكويع يشير إلى من كان في موقف ما، فانتقل مباشرة إلى موقف معاكس دون أي مقدّمات، أي انتقل من زاوية إلى أخرى بشكل مفاجئ وصادم ورهيب وسريع (..) وقد بدأ السوريون في تداول هذا المصطلح بين الجد والهزل، واصفين من أصبحوا فجأة مع الثورة وضد الأسد بـالمكوّعين».
وقد كانت «القدس العربي» وتحت مقال بعنوان «ثورة جديدة في أوساط الفنانين السوريين… انتصار المعارضين و «تكويع» المؤيدين لبشار» قد استعرضت في عددها الصادر قبل ثلاثة أيام بالتفصيل وبالأسماء أبرز من قاموا بتلك الاستدارة المشهدية من النقيض إلى النقيض، ومن قام بها بحذر شديد، ومن لم يستطع إلى حد الآن أن يجد توازنه بعد سقوط النظام.
الحقيقة أن ما حصل في سوريا لم يكن استثناء في المشهد العربي العام حين يتغير النظام في أي بلد عربي لا سيما في تلك التي عرفت تغييرا مفاجئا بعد موجة غضب وتمرد طالت أو قصرت. عرفنا هذا في تونس ومصر وليبيا واليمن وأخيرا سوريا، عدا تلك الدول التي عرفت تغييرا سياسيا من نمط آخر على غرار ما وقع في العراق مثلا.
في تونس، كانوا يسمون من غيّر ولاءه سواء من بورقيبة إلى بن علي أو من بن علي إلى الثورة ضده بأنهم «قلبوا الفيستة» أي قلبوا الجاكيت فجعلوا داخلها السابق هو وجهها الجديد. عادة ما كان يقال عن هؤلاء أنهم غيروا البندقية من كتف إلى آخر.. وطالما أن لا بندقية، ولله الحمد، في ثورات كثيرة مثل تونس أو مصر فقد اكتفى التونسيون بمثل الجاكيت فيما لم يعرف عن المصريين سوى استعمال مفردة «المتحوّلين» أو القول إن فلانا «غيّر جلده».
لم يكن مستغربا أن يفعل كل ما سبق سياسيون، في هذا البلد أو ذاك، فقد عُهد عن هؤلاء مثل ذلك في كثير من دول العالم، وليس فقط في البلاد العربية، حتى اقترنت السياسة تقريبا بهذا التلوّن الانتهازي البعيد عن أي مبدئية ولو في حدودها الدنيا. هؤلاء، ومعهم أغلب رجال الأعمال وأصحاب المشاريع الاقتصادية والمالية الكبرى، غالبا ما يبحثون عن الأمان والسلامة مع أي سلطة مهما كانت للحفاظ على مصالحهم وشبكة علاقاتهم المتشعبة.
تعوّد الناس عموما على بهلوانيات السياسيين وتقلباتهم، ولا في الأناس العاديين الذين غالبا ما يبحثون عن الأمن والأمان مع أي سلطة جديدة
شاهدنا الكثير من هؤلاء في تونس ومصر ممّن كانوا مع نظامي بن علي ومبارك، ثم أصبحوا بقدرة قادر من أنصار الثورة والتغيير، وحين انتكست التجربتان وعادت القبضة الأمنية لتسود من جديد في كلا البلدين لم يريا أي حرج في تغيير جلودهم من جديد دون أدنى حياء.
المشكل ليس في هؤلاء فقط، فقد تعوّد الناس عموما على بهلوانيات السياسيين وتقلباتهم، ولا في الأناس العاديين الذين غالبا ما يبحثون عن الأمن والأمان مع أي سلطة جديدة، لكن المشكل يبدو بارزا وأحيانا مستفزا عندما يتعلق الأمر بوجوه بارزة في المجتمع من فنانين أو صحافيين أو غيرهم. وفي أيامنا هذه لم يعد ممكنا التستر على أي شيء فالمواقف التي سبق أن أعلنها هؤلاء لنصرة النظام وتشويه معارضيه على مختلف مواقع التواصل لا تختفي ولا يمكن التنصل منها، وحتى محوها لا يجعلها تختفي بالكامل لأنها تعود سريعا إلى التداول من جديد.
حتى الفنانون، يمكن أن يوجد لهم جدلا بعض الأعذار، ولو نسبيا، لأنهم بالأساس في الغالب متوسطو الوعي السياسي وأقحموا أنفسهم في مجال لم يقدّروا عواقبه الحقيقية، في وقت نرى فيه أن الفنانين الذين اختاروا المعارضة ووقفوا مع الثورة في سوريا قد دفعوا ثمنا باهظا لخيارهم هذا، أقله سنوات من المنفى الإجباري خارج وطنهم، وهم لكل ذلك وغيره كثير جديرون بكل احترام وتقدير. أما أولئك الذين اصطفوا مع نظام مجرم ودافعوا عنه وشتموا زملاءهم المعارضين فالأرجح أن غباءهم وعمى بصيرتهم هو ما حال دون إدراكهم أنهم اختاروا الجانب الخطأ من التاريخ وأن اعتقادهم بأن السلطة التي احتموا بها لن تدوم وسيأتي اليوم الذي يصبحون فيه «عراة» بدونها.
كل من سبق ذكرهم لا يستحقون أكثر من ذكرهم كعبرة للجميع، أو للتندّر، إذ لا شيء يجرّم في نهاية المطاف تغيير المواقف حتى وإن كانت بمثل هذه الحدة. أما ما لا يمكن التسامح معهم فهم بلا شك أولئك «الصحافيون» الذين لم يكتفوا بالاصطفاف مع نظام الأسد بل واصطحبوا جيشه في تنكيله بشعبه، وأبدوا حماسة وشماتة في ذلك، ومنهم من التقط الصور مع جثث الضحايا ضاحكا، أو أطلق الرصاص من رشاشات جنود النظام، أو جلس مزهوا في مقعد قائد طائرة البراميل المتفجرة قبل إقلاعها. هؤلاء عليهم أن يحاسبوا على أعمالهم بكل شفافية حتى يكونوا عبرة لغيرهم.
كاتب وإعلامي تونسي