تغيرت خرائط السيطرة في سوريا، لصالح النظام وحلفائه، مقابل انحسار وتراجع لصالح المعارضة السورية. وجاء التغيير على الأرض بعد تفاهمات بين القوى الإقليمية والدولية بعضها غير معلنة وأخرى معلنة وواضحة.
بدأ عام 2018 مع انتزاع قوات النظام والميليشيات الإيرانية لمنطقة شرق السكة وهي منطقة تقاطع بين أرياف حلب الجنوبي وإدلب الشرقي وحماة الشرقي. وظلت خريطة “تخفيض التصعيد” المتفق عليها في مسار أستانة غامضة، ولم تنشر أي من الأطراف الضامنة للمسار ما تم التفاهم عليه وحدود ترسيم مناطق “خفض التصعيد” واللافت أن فصائل المعارضة لم تبذل جهدا واضحا لصد هجوم النظام، وبقيت في انتظار الأوامر التركية كي تتحرك وتقدمت قواته خلال ثلاثة أشهر لتسيطر على قرابة 300 قرية في أرياف المحافظات المذكورة أعلاه، ولم تنته عملية السيطرة عند تصريحات النظام والروس على سكة “قطار الحجاز” بل تواصل التقدم غربها بعمق يتراوح بين 7-12 كم، أوشك في مناطق متعددة أن يرصد طريق حلب – دمشق (ام 5). مع استمرار التقدم توجست تركيا من السيطرة على الطريق الدولي وأوعزت لفصائل المعارضة بالتحرك، لتدفع الأخيرة بالآليات الثقيلة ومدافع الميدان وراجمات الصواريخ ونشرت كذلك قواعد الصواريخ المضادة للدروع، لتثبت حدود منطقة شرق السكة وتستكمل تركيا نشر نقاط مراقبتها في تل العيس جنوبي حلب، وتل الطوقان والصرمان في ريف إدلب الشرقي. وما أن توقفت عملية السيطرة على منطقة شرق السكة (سكة قطار الحجاز) حتى بدأت تركيا رسميا معركة عفرين.
وأعلنت رئاسة الأركان التركية في20 كانون الثاني/يناير إطلاق معركة السيطرة على منطقة عفرين تحت مسمى عملية “غصن الزيتون” بهدف طرد وحدات “حماية الشعب الكردية” التي تسيطر على المنطقة، ونالت العملية مباركة إيرانية وروسية، بعد فشل المفاوضات بين الوحدات وموسكو التي طلبت خروج المقاتلين الأكراد وحلفائهم المنضوين في قوات سوريا الديمقراطية “قسد” من المدينة. وبعد أقل من شهرين (18 اذار/مارس تمكن الجيش التركي من السيطرة على عفرين بعد ان زج فيلق الشام وأحرار الشام وحركة نور الدين الزنكي في المحور الجنوبي انطلاقا من إدلب، وجاء الهجوم على مدينة عفرين بعد السيطرة على كامل النواحي الإدارية التابعة لعفرين والتي تعتبر جنديرس أهمها.
الغوطة مقابل عفرين؟
بعد أيام من بدء العملية التركية في عفرين بمشاركة من فصائل المعارضة في منطقة “درع الفرات” بدأت الاستعدادات الروسية والحرب الكلامية للهجوم على غوطة دمشق الشرقية، بذريعة القضاء على جبهة النصرة رغم ان عددها لا يتجاوز 200 مقاتل في أحسن الأحوال في قطاع “فيلق الرحمن”. ولم يسلم من الهجوم “جيش الإسلام” الذي خاض حربا طويلة مع “جبهة النصرة” وقضى عليها في قطاع دوما.
ولاقت العملية العسكرية انتقادا خجولا من أنقرة التي كانت مشغولة بمعركة عفرين، ولم تدافع عنها بوصفها الضامن من جهة المعارضة، بل وجهت انتقادات إلى كل من جيش الإسلام الذي اتهم بالتوقيع على منطقة خفض التصعيد في القاهرة برعاية مصرية، وطالت الانتقادات أيضا “فيلق الرحمن” الأقرب نسبياً إلى تركيا بسبب توقيعه التزاما خاصاً بمنطقة “خفض التصعيد” في جنيف مع الروس.
ومع شطر الغوطة إلى قسمين بين دوما والقطاع الأوسط، وعدم نجاح الروس في فرض شروط الاستسلام على جيش الإسلام رغم انحسار سيطرته إلى مدينة دوما وأجزاء صغيرة من منطقة المزارع المجاورة، قام النظام ليلة فجر 6 نيسان/ابريل بقصف مدينة دوما بالسلاح الكيميائي ليسقط 60 قتيلا أغلبهم من الأطفال ويصاب قرابة ألف آخرين حسب احصائية الدفاع المدني السوري المعروف بـ”الخوذ البيضاء”. وهو ما أثار الذعر في قلب المدينة التي تعرضت سابقا إلى أكبر هجوم كيميائي عام 2013. بدأت تتشكل على إثره حالة تمرد وخروج عن السيطرة أجبرت “جيش الإسلام” على الموافقة على الشروط الروسية وخرج مهزوما ليلحق “فيلق الرحمن” الذي سبقه بأيام. وشكل الانهيار السريع للغوطة صدمة كبيرة كونه أخرج المعارضة من آخر الجيوب المحيطة بالعاصمة دمشق.
وبعد الانتهاء من السيطرة على الغوطة وقبل ان ينتهي إجلاء الخارجين إلى إدلب وريف حلب الشمالي، هدد النظام فصائل المعارضة المهادنة له منذ سنوات، وأجبرها على الاستسلام والمصالحة، وسلم من فضل الخروج شمالا سلاحه الثقيل، فيما التحق آخرون بالفيلق الخامس أو حصلوا على أوراق “تسوية وضع” لمدة ستة أشهر على غرار ما تم الاتفاق في الغوطة الشرقية، وبسطت قوات النظام سيطرتها الكاملة على القلمون الشرقي في نيسان/أبريل الماضي.
ريف حمص الشمالي
شكل انهيار الغوطة حجرة الدومينو التي سقطت بعدها المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فبعد انتهاء تسليم المعارضة سلاحها في القلمون، انقسمت الفصائل في ريف حمص الشمالي على نفسها بين موافق على التسوية وبين رافض. ومثل جيش التوحيد التيار الموافق، فيما رفض الفيلق الرابع التبع للجيش الوطني المدعوم من تركيا المبادرة الروسية في الأول من أيار/مايو في محاولة شراء الوقت عسى ان تستطيع أنقرة نجدته، لكن سرعان ما وافق الجميع على الشروط الروسية وفضلوا تجنب معركة خاسرة في نهاية الأمر، ناهيك عن الانقسام داخل الفصائل الذي لن يساعد على الصمود مع نقص الامكانيات العسكرية والإنسانية، وبقي الموافقون على التسوية فيما خرج عدد كبير من مقاتلي الفيلق الرابع، وترافقت اجتماعات أستانة 9 مع إعلان وزارة الدفاع النظام سيطرتها على كامل ريف حمص الشمالي في 16 أيار/مايو.
وبعد أيام من اخطار أمريكا لفصائل الجبهة الجنوبية التي كانت تدعمها مع أصدقاء العشب السوري، بدأت قوات النظام والميليشيات الإيرانية هجوما واسعا على محافظة درعا، تمكنت خلاله من السيطرة على الريف الشرقي للمحافظة، أجبر فصائل الجبهة الجنوبية على قبول المفاوضات التي اعتبر قائد “شباب السنة” أحمد العودة عرابها، ووافقت الفصائل على الاستسلام بعد قصف عنيف من الطيران الحربي الروسي الذي تزامن مع المفاوضات في بصرى الشام شرقي المحافظة. وتقاذف القادة العسكريون الاتهامات حول الموافقة على التسليم والقبول بالشروط الروسية، ووجد الرافضون انفسهم أمام هجوم عنيف طال مناطق سيطرتهم كما حصل مع فصائل المنطقة الغربية والقنيطرة والتي شكلت “جبهة ثوار سوريا” عمودها الرئيسي، حيث وافقت على الاستسلام والتوجه شمالاً. ولاقى “الدفاع المدني” حملة هجوم كبيرة بسبب إجلاء بعض عناصره عن طريق الجولان السوري المحتل بواسطة الصليب الأحمر الدولي.
يعتبر العام المنصرم، عام الهزائم الكبيرة بالنسبة للمعارضة السورية على الصعيد السياسي، وحصر دورها في منطقة “خفض التصعيد” الرابعة، تنتظر ان تستطيع أنقرة إقرار اتفاق هش وآني في إدلب، يرتبط بتفاهمات مع روسيا التي تسعى جاهدة إلى القضاء على الفصائل المتطرفة فيها، ولكن بالوقت نفسه تراعي الحساسية التركية، وتفضل دعمها في التوتر الحاصل في منطقة شرق الفرات مع أمريكا، حيث من المرجح أن ينعكس التوتر هناك ايجابيا على غض الطرف عن إدلب حاليا، ويؤجل مطالب موسكو قليلا خصوصا في البند المتعلق بمحاربة الجماعات المتطرفة.