إن صحّ تعبير «النكبة» لوصف ما حلّ بفلسطين منذ إنشاء دولة إسرائيل على أرضها في عام 1948، فإن ما أصاب سوريا، لاسيما منذ بدء اتساع الحرب فيها في عام 2012، إنما يستحق تسمية «الكارثة». وهي إحدى أكبر كارثتين عرفهما التاريخ العربي الحديث والمعاصر، أكبر بكثير من نكبة فلسطين إذا ما قسناها بعدد الضحايا. فإن عدد قتلى المعارك والقمع في سوريا وحدها خلال السنوات الإحدى عشرة المنصرمة يبلغ حوالي عشرة أضعاف عدد الفلسطينيين الذين سقطوا ضحايا الصهيونية منذ بدء غزوها لفلسطين. أما عدد السوريين اللاجئين إلى خارج بلادهم زائد المشرّدين داخل حدودها، فيبلغ ما يعادل مجمل عدد الفلسطينيين القاطنين في الوطن والشتات. فإن الكارثة الوحيدة التي تضاهي حجم الكارثة السورية في منطقتنا، إنما هي تلك التي أصابت العراق منذ أن استأثر صدّام حسين بحكمه وزجّه في حروبه الحمقاء، وصولاً إلى الاحتلال الأمريكي وبعده غزوة داعش وما تبع.
لم نذكر النسب الواردة أعلاه كي نقلل من شأن المأساة الفلسطينية، وهي قضية وطن مسلوب، بل لنشدّد على الحجم المهول للمأساة السورية، الذي يزيد من هوله أن البلاد واقعة تحت خمسة احتلالات: صهيوني في الجولان منذ عام 1967، وإيراني وتركي وروسي وأمريكي قامت خلال العقد الأخير ولا تزال قائمة. وها أن الدهر يضرب شعب سوريا من جديد، فيصدف أن أسوأ زلزال تشهده تركيا منذ عام 1939 وجد مركزه في مدينة غازي عنتاب، وهي بشكل ما عاصمة اللاجئين السوريين في تركيا، كما أن أولى الخضّتين اللتين ضربتا المنطقة قبل فجر يوم الإثنين، وأقواهما، شملت مساحة واسعة من الشمال الغربي السوري، تتوسطها حلب وتطال إدلب إلى غربها.
كارثة سوريا الكبرى هي هذا النظام، ولمّا بلغت سوريا حالة الغليان الاجتماعي والسياسي على غرار سائر بلدان المنطقة العربية في عام 2011، لم يبحث الأسد عن حلّ للأزمة يحفظ سلامة البلاد وأهلها، بل كان شغله الشاغل الوحيد، هو والزمرة العائلية التي تشاركه استغلال منافع الحكم المُطلَق
طبعاً، فإن الداخل التركي بشعبيه، التركي والكُردي، القاطنين في المنطقة التي ضربها الزلزال، هو الذي أصابه القدر الأكبر من مفعول الخضّة. لكنّ الأراضي السورية أضعف بكثير من الأراضي التركية في وجه الكارثة، إذ تقوم في قسم منها دولة باتت قدرتها على القتل والتدمير تفوق بكثير قدرتها على الإسعاف ورفع الأنقاض، في حين أن الأقسام الأخرى بلا دولة، بل تقع خارج دائرة تدخّل معظم منظمات الإغاثة الدولية. كما أن اللاجئين السوريين في جنوب تركيا الشرقي كانوا مكتظين في العديد من الأبنية الهشّة التي جرى بناؤها بدون مراعاة القواعد الخاصة بالمناطق الزلزالية، طمعاً بزيادة الربح، والتي انهارت بصورة رهيبة. فيعني ما سبق أن نسبة السوريين من ضحايا الزلزال، الذين يبلغ مجموعهم عشرات الآلاف بكل تأكيد، ستكون مرتفعة بصورة غير متناسبة مع الحجم السكاني.
مسكينٌ حقاً شعب سوريا، فأي لعنة أصابته مع اعتلاء بشّار الأسد سدة الحكم وارثاً رئاسة «الجملوكية» من أبيه؟ بعد أن فرض حافظ الأسد دكتاتوريته الرئاسية على سوريا لمدة ثلاثين عاماً، بلغ عدد السنين التي قضاها ابنه في المنصب ذاته ما يناهز ثلاثة وعشرين عاماً، أي أن مدة رئاسته ستعادل مدة رئاسة والده بعد سبع سنوات فقط! والحال أن سنوات الابن أسوأ بعد بكثير من سنوات الأب، إذ إن أكثر من نصف مدة رئاسة بشّار هي سنوات خراب سوريا، والحبل على الجرار كما يُقال.
في الحقيقة، فإن كارثة سوريا الكبرى هي هذا النظام الذي ورث فيه شابٌ لم يبلغ بعد سنّ الخامسة والثلاثين وليس لديه أدنى خبرة في الحكم، ورث زعامة أحد أعرق المجتمعات وأعقدها وسَكِر من ممارسة السلطة وغَوِي. ولمّا بلغت سوريا حالة الغليان الاجتماعي والسياسي على غرار سائر بلدان المنطقة العربية في عام 2011، لم يبحث عن حلّ للأزمة يحفظ سلامة البلاد وأهلها، بل كان شغله الشاغل الوحيد، هو والزمرة العائلية التي تشاركه استغلال منافع الحكم المُطلَق في سوريا، كان همّهم الوحيد أن يتشبّثوا بالسلطة حتى ولو كان ثمن ذلك حرق البلد، كما في شعارهم المَقيت: «الأسد أو نحرق البلد». والحقيقة أن الزلزال الهائل الذي أصاب سوريا وشعبها لم يفعل سوى أن زاد الطين بلّة، وقد ترك خراب سوريا في عهد بشّار الأسد، تركها على أسوأ الأحوال في مواجهة الزلزال الطبيعي بعد كل ما أصابها من زلازل ومآسي بشرية الصنع.
كاتب وأكاديمي من لبنان
إشارة إلى «نكبة» فلسطين عام 1948، نزح على إثرها أكثر من تسعين ألفا منها إلى سوريا، في مخيمات أقامتها وكالة الغوث الأممية في معظم المدن السورية، وبلغ عدد سكانها حتى عام 2011 حوالى 580000 لاجئ/ة فلسطيني/ة. وقد تعاقبت على هذه المخيمات منذ قيامها بُعيد العام 1948 حتى منتصف آذار عام 2011، الذي شهد قيام الثورة السورية ثلاثة أجيالٍ، تناقلت فيها ذكرى «النكبة» والمآسي التي تعرض لها الشعب الفلسطيني بسببها، وما تعرّضت له من انتكاساتٍ انعكست على تطور مفهوم «النكبة»، أدى إلى اختلاف مفهومها في الذاكرة الفلسطينية. تعرّض المفهوم لتطور جذري، بعد المأساة الكبيرة التي حلت بالمخيمات، بعد قيام النظام السوري بحربه الهمجية على شعبه الثائر المطالب بحريته وكرامته، امتدّت تلك الحرب، لتصبح بالنسبة لهذا الشعب السوري الثائر ما يؤهل تسميتها بـ «الكارثة» التي حلت بهم، والمستمرة منذ نحو ست سنوات، يعانون خلالها الويلات.
شكرا للأخ جلبير الأشقر على التقرير الذي يضع القضية السورية في محلها الصحيح ولو متأخرا
شكرا للأخ خالد أبو عيسى قرأت كلاما مماثلا في مقالك «من النكبة إلى الكارثة» قبل سبع سنوات
أنا ممتن لقراءة تعليقك الأسبوعي على هذه الصفحات فإن تقييماتك وتحليلك دقيقة تمامًا ومفيدة جدًا لأي شخص يحاول فهم تأثير الاستبداد الإقليمي والتدخلات الأجنبية. قصة الرعب في سوريا في ظل الزلزال الضخم تهمل ربطا بين الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتغير المناخ والجفاف والهجرة الريفية الحضرية والفقر المتصاعد في البلاد الهلال الخصيب وسوريا على وجه الخصوص وبداية نظام بشار الأسد اشتداد الفساد والاستبداد لعقود من حكم والده ، كما أنه يتجاهل تأثيرات المحتملة للغاية لتغير المناخ والظروف البيئية المتدهورة التي يعززها الاستغلال المتفشي وتأثيرالتنمية غير المستدامة globalized rampant development على الطبقات الجيولوجية الجوفية ، وكذلك الموارد المائية ومساهمتها في الشيف التكتوني نهاية الخبر فالانفجارات البركانية / التكتونية بما في ذلك الزلازل. تمتد احتمالية حدوث المزيد من الزلازل غير المسبوقة جنوبًا من طرف إلى آخر في الصدع العظيم ، من الأناضول جنوبًا عبر الشرق العربي والبحر الأحمر ، ووادي نهر النيل وصولًا إلى الكونغو – قارة بأكملها لديها دمار بيئي وحرب داخلية واضطرابات سياسية وتدخل أجنبي على قدم المساواة مع ما عانته سوريا. نحن نعيش في عالم واحد ، وسوريا إلى حد ما هي طائر الكناري في منجم الفحم
بالمناسبة يا أخ مايكل سكوت،
ثمة قليلون ممن يعرفون أن مصطلح «الهلال الخصيب» له مدلولات استعمارية وإمبريالية، في الجوهر، ومن ترويج الباحث الأمريكي جيمس هنري برستيد، كما بيَّنت الناقدة الصحافية والإعلامية آصال أبسال على النحو التالي:
{واسم الكاتب هنا، [..] «عالمُ الآثار و«المؤرِّخ» الأمريكي جيمس هنري برستيد (1865-1935)»، هذا العالمُ الذي قد ركَّز تركيزا خاصًّا، من خلال جهد تأريخي علمي تخصُّصي مديد (يربو عن العقد من الزمن)، قد ركَّز على ما يُعرف بـ«علم الآثار المصرية» Egyptology، والذي بسَّط، أو بالحريِّ أشاع، ذلك المصطلحَ الجغرافي-السياسي المعروف الآن بـ«الهلال الخصيب» Fertile Crescent، لكي يشملَ بالتوصيف أجزاءً معيَّنة مما يُعرف الآن كذاك من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن وتركيا وإسرائيل (بحسب المدلولات الاستعمارية والإمبريالية التي أُضفيت على هذا المصطلح، على مرِّ الزمان، هذا إن كانت لدى القائل المقرِّر الجاهل أية فكرة عن هكذا إضفاء دلالي بأية هيئة كانت)..} انتهى
/ عن مقال الدكتورة آصال أبسال:
«مَاهِيَّةُ الإِنْبَاءِ الكَوْنِيِّ: سُفُولُ الغَمِيرِ عِلْمًا أَمْ أُفُولُ الضَّمِيرِ غَلْمًا؟» (2)
كالعادة مقال رائع اختصر مءسات سوريا في عهد الأسد لكن يا سيد جلبير لماذا لم تحض سوريا بقدر من التوافق بالنسبة لرؤية العرب لمؤساتهم بمعنى عندما ننظر إلى الإحصائيات المهولة التي أوردتها من خسائر في الأرواح والممتلكات والبنية التحتية التي دمرت فالمصيبة كبيرةلكن هناك من يرا أن النظام هو من يتحمل المسؤولية بينما هناك فريق آخر يقول ان هناك مؤامرة أمريكية صهيونية وخليجية للنيل من سوريا لانها لا تطبع مع المحتل
أحسنت أستاذنا
شكرًا أخي جلبير الأشقر. من الصعب جدًا إيجاد كلمات مناسبة لهذا الواقع المرير وهذه المأساة المتواصلة. حسنًا ذكرت ماحصل في العراق أو للعراق لأن المأساة برأيي واحدة من فلسطين إلى العراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا …! مأساتنا هي الدكتاتوريات والإستبداد وفقط، هذه الأنظمة هي الكارثة كما الإحتلال في فلسطين هو الكارثة، وبرايي لاحل إلا بزروالها. أما الزلازل والكوارث الطبيعية فهي أشبه بالإمتحان الذي يفضح الحكومات واستعدادها. وبالطبع هذا الحال المأساوي يفضح أيضًا نفاق السياسة العالمية.