يسألني البعض لماذا مصر وليست سورية؟ لماذا تكتب في هذه ولا تأبه بتلك؟ الحق أنه سؤال وجيه لطالما حاولت الهروب من الإجابة عليه. أتذكر سورية السوريين – ولن أقول سورية المجرم بشار الأسد- قبل الثورة، وأتذكر كيف كانت سورية بلداً آمناً – ولو نسبياً على الأقل. في الوقت ذاته أتذكر سورية التي استشرى فيها الفساد والفقر، سورية التي استأثرت فئةٌ قليلةٌ فيها بالحكم ومفاصل الدولة. أتذكر هذا وأسأل نفسي ألا يستحق الشعب السوري أن يقطف هو الآخر ثمار الربيع العربي، من مساواة وعدالة اجتماعية وديمقراطية حقيقية، فأقول: بلى! ثم أراجع نفسي: لكن هذه ليست أي بلد وأي شعب، هذه سورية، سورية التي اجتمع فيها كل شيء، الشرق والغرب، المسلم والمسيحي والدرزي، العربي والأرمني والكردي والشركسي والتركماني والشيشاني والآشوري. سورية جارة العراق الجريح وجارة لبنان المنقسم على نفسه. سورية حليف روسيا الأخير في المنطقة العربية، وممر إيران الوحيد لتسليح حزب الله، والحلقة الأخيرة المتبقية كي يكتمل عقد الهلال الشيعي – وأنا ضد أي تحالفات على أساس طائفي على أي حال سنيةً كانت أم شيعيةً. أراجع نفسي وأقول: إن كانت هذه سورية بكل مكوناتها وتعقيداتها فهل من العقل أن تبدأ فيها ثورة؟ ثم أصارح نفسي: فات وقت هذه التساؤلات، فسورية اليوم في حالة ثورة، ثورة خرج فيها ملايين السوريين بمطالب عادلة ومشروعة، ثورة بدأت مدنية وتتابعت فيها لاحقاً الانشقاقات العسكرية عن نظام الأسد. ثورة بدأت سلمية ثم استحالت مسلحة، سواء بسلاح المنشقين أو السلاح المستورد. ثورة دفع فيها الشعب السوري ثمناً باهظاً دماً وخراباً. ثورة تجرأ فيها الأسد ومن يقاتل إلى جانبه على استخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين العزّل. أصارح نفسي وأتساءل: أبعد ما كان رجعةٌ عن الثورة؟ فأقول: محال. ثم أحاول أن أفهم: إذا كان مسار الثورة لا رجوع عنه، فعلى أي دربٍ تسير الثورة اليوم؟ سورية باتت ساحةً لصراعٍ شرسٍ بين قوى دوليةٍ عدّة: روسيا والصين وإيران التي انحازت للأسد، والغرب وحلفائهم الذين وجدوا أنفسهم راغبين أو مضطرين، أنصاراً للثوار أو على الأقل لفئة منهم، وبين هؤلاء وهؤلاء دول ثعلبية تقتنص الاحتراب المسلح لتحقيق مآرب أنانية لا يهمّها في ذلك أيّ الطرفين، وعلى رأسها إسرائيل. سورية تحترق اليوم بفتنة طائفية لا يمكن إنكارها بين السنة والشيعة، ولم تكن على أجندة الثورة، فتنة يذكي نارها دخلاء على جبهات الثورة من الطرفين: مقاتلو حزب الله والحرس الثوري الإيراني من جهة، والسلفيون الجهاديون وأعضاء أو أنصار القاعدة من جهة أخرى. ثم أحاول أن أتنبأ: إذا كان هذا هو مسار الثورة، فأين يمكن أن تلقي الثورة مراسيها؟ أدقّق في تفاصيل اليوم علّها تنبئ بالمستقبل فأرى جبهة النصرة تصرّح بطموحات إقامة ‘الإمارة الإسلامية’ في سورية، وأسمع تهديدات أكراد العراق بالتدخل لصالح أكراد سورية إذا استمر استهدافهم، وأقرأ تحليلاتٍ حول إمكانية انزواء العلويين ومعهم أركان نظام الأسد – ولا أتهم كل أبناء الطائفة العلويّة بالوقوف في صفّ الأسد- في دولة منفصلة في مناطق تركّز العلويين على الساحل، وأتابع التوقعات بضربةٍ عسكريةٍ أمريكيةٍ لبعض أهداف نظام الأسد مذكّراً نفسي على الدوام بأن الولايات المتحدة ليست مؤسسة خيرية تقّدم بلا ثمن وأن الطرف الآخر سيتخذ أي ضربة ذريعةً لمزيد من القتل. أدقق في كلّ هذا وأحاول أن أتنبّأ: كيف ستكون سورية الغد بعد الثورة؟ المرعب أني لا أبصر في الغد سورية واحدة، أرى إمارة إسلامية ودويلة علوية وجولاناً تحكم إسرائيل قبضتها عليه وإقليماً كردياً سرعان ما سيفتح شهية الأكراد لحلم كردستان المستقلة ويعيد معها فتح جبهة قتال جديدة مع تركيا، لضم أكراد تركيا للدولة الحلم. أما ما تبقى من سورية التي أثخنها القتل فلن يكون أكثر من دويلة جريحة سيحاول من تبقى فيها من الشعب السوري إعادة بناء مقومات الدولة يصارعون في سبيل ذلك أطرافاً كثيرة كان لها يدٌ زمن الثورة وسيكون لها مطالب وتصورات لسورية ما بعد الثورة. أرى كل هذاô فأصمت.