سوريتان… ثلاث… وأكثر!

ما بين عامي 168-274 قبل الميلاد، قامت «الحروب السورية»؛ كما تُسمّى من قبل المختصين؛ ما بين ورثة الاسكندر الأكبر بعد موته. كانت ست حروب طويلة، فتحت المنطقة للرومان بأبواب عريضة. وكان اسم العلم «سوريا» شائعاً، يفرض شخصيته بقوة آنذاك، ضمن تسميات متفرقة بتوزعها الزمني والجغرافي ظهرت في تلك الأزمنة، مثل «سوريا الجوفاء» كما ترجم البعض تسمية هي في الأصل الآرامي «كلّ سوريا»، وكانت تغطي المنطقة ما بين العريش وكيليكيا وبلاد ما بين النهرين أحياناً، أو نصف سوريا الجنوبي في أحيان أخرى، مع احتفاظ الشمال بالتسمية المجردة. في أوقاتٍ أخرى كانت تُسمّى «سوريا وفينيقيا» أو «سوريا وفلسطين».
لم تحصل سوريا على وحدتها وحدودها الحديثة إلا في عام 1936، حين تمّ توحيد دولة جبل الدروز ودولة العلويين في إطارها الوطني، على خلفية المعاهدة مع حكومة الوحدة الشعبية في فرنسا، مع أن هنالك دعوات استقلال ذاتي أقلّ تأثيراً، ظلت ظاهرة خلال العامين التاليين، في الجزيرة – مثلاً- مع بعض قوى آشورية – كردية- وبعض عشائر عربية، وحتى في الجولان مع دعوات مشابهة من بعض الشركس، ولكن ذلك تلاشى بسرعة، لتظهر البنية الوطنية بقوة غير مسبوقة، صمدت حتى عام 1958، لتتقدم بخطوة عريضة نحو الوحدة مع مصر، لمدة ثلاثة أعوامٍ ونصف العام، ثم لتتراجع هشةً وقابلةً للوقوع في قبضة استبدادٍ طويل، جاءت شرعيته من العنف الظاهر أو المستبطن، والاستقرار الطويل الذي يهواه النظام الدولي القائم آنذاك، في عصر الحرب الباردة.
لماذا كل هذا الحديث الآن؟ لأن هنالك حالة ضعف وتمزق قد حدثت، نتج عنها بالمستوى المادي، تشتتُ عناصر الدولة المختلفة كلّها، واختلّت المستويات السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية- الاجتماعية، خللاً لن يكون ترميمه سهلاً على الإطلاق. وأصبحت سوريا السابقة الآن سوريتين أو ثلاثاً، وربما أكثر حين ندقق النظر عن قرب، فتلك المناطق التي ما زالت تحت سلطة النظام، أو أنه استعادها، تقوم على عناصر غريبة وبعيدة عن مفهوم الدولة، من حيث عناصره الأربعة الأكثر أهمية، في السكان والأرض والحكم والسيادة. وكل عنصر منها أصبح أثراً بعد عين، خصوصاً أولئك السكان، الذين يعطون للدولة استقرارها بمقدار ما يتشاركون توافقاً اجتماعياً سياسياً على المبادى الأساسية، غير المتوفر حالياً أبداً، رغم تفاخر بشار الأسد بتجانس ما بقي تحت سلطته من البلاد.
وإذا رحنا إلى الأرض نراها مهتزة غير مستقرة، مختلفة في خصائص حياتها بين بعضها وبعضها الآخر. كما تخترق حكم الحكومة أطرافٌ أخرى، بين الروس والإيرانيين، والميليشيات والعصابات، التي تلعب حرة على الأرض، من دمشق وما حولها، إلى القرداحة وما حولها أيضاً. في محافظة درعا يكاد النظام يكون خيالاً بالمقارنة مع الوجود الروسي وتنظيماته، وفي السويداء يغلب عليه حذره من الغضب الدرزي، وفي حماة يعتمد على عقد ضمني بالتعايش، ومثل ذلك، أقل في الجزيرة، وأكثر في طرطوس واللاذقية وحمص، من دون قدرة حقيقية على إرهاب الناس وتخويفهم كما اعتاد طويلاً.

دعوة للنخب السورية الأكثر قدرة على الإمساك بالأساسي، لتعيد بناء الجسور وتنتفض على حالة الانقسام، بغير ذلك ينتصر النظام

ولكنه ما زال يدفع رواتب ومعاشاتٍ تزداد هزالة، مع تقلص قيمة العملة بشكل دراماتيكي، وما انفكّ يلاحق الشباب لتجنيدهم أو لدفع «المعلوم»، ويراهن على عملية إعادة إعمار على قياسه، وعلى قدر أطماع الطبقة المتوحشة – المتغيرة الأشخاص بوتائر سريعة – في نهبها واتجارها بالسكان والأرض والحكم والسيادة. أصبح مصرف البلاد المركزي أداة لتبييض الأموال، وصار احتكار العنف نهباً لقطاعٍ خاص يمارس عنفه الخاص. إن لهموم السوريين في تلك المناطق «المتجانسة»، ألواناً غير متجانسة، تجعلهم فريسة «اكتئابٍ وطني»، لم يتبلور وينتج إرادة وطنية فاعلة، بعد. على أن هنالك دينامية وحرارة مختلفة في المناطق «المحررة»، التي أصبحت وتسميتها هذه مهزلة مكتملة العناصر. المهم هنا، في إدلب وريف حلب، هو هيمنة التهديد بالموت والتشريد اليومي، على كلّ الصعد والأشكال. يعيش في تلك المناطق ما يمكن أن يقارب الملايين الثلاثة، الأكثر تجانساً بلغة بشار الأسد، تسود فيهم على الأرض قوتان رئيستان، أولاهما تركيا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وثانيتهما هيئة تحرير الشام المصنفة كقوة إرهابية.. مع قوى أخرى عريضة تدور في فلك يختلف من وقت إلى آخر. غير ذلك هنالك اعتماد على القوة الذاتية في كل قرية وحي ومزرعة وعائلة، وعلى اقتصادٍ ذاتي، تختلف عناصره بين التقليدي والمستحدث أو «الطيّار» في كل مكان. وأهم ما هنالك هو خفة الكائن وضعف علاقته بالمكان، حسب الأخطار وكثافة النيران.
هنالك غرباء؛ كما في مناطق النظام، وهنالك اعتماد متزايد على الأفكار الأكثر تطرفاً ونفعاً، وهنالك دماء تسفك وبشر، ونزوح وعودة بين فينة وأخرى، وقصف وقصف آخر.
تعيش تلك المناطق على اقتصادها الذاتي، والحركة البينية والاستثمار البدائي، وعلى تحويلات بسيطة من الخارج، وعلى منظمات متنوعة للمجتمع المدني أحياناً. وبسبب التركيز فيها لقوى وتيارات إسلامية مختلفة أقواها هو أكثرها تشدداً، تغيب أو تضعف الحياة السياسية – الاجتماعية، كما هو ضعف الحياة الإنتاجية نفسها. ونتيجة للجوء والنزيف المتواصل في النخب المختلفة، أصبحت تلك المناطق أكثر هشاشة وعرضة لكل المصائب التي تتعرض لها. ولكن هنالك منطقة ثالثة مختلفة المعالم، في الجزيرة السورية، شرق الفرات، أو الشمال الشرقي. تسود فيها قوات سوريا الديمقراطية بنواتها الضاربة من قوات حماية الشعب (ذات الخيوط مع حزب العمال الكردستاني التركي)، مع مربعات أمنية للنظام وفروع مخابرات ووحدات عسكرية محدودة وإدارات حكومية، بتنسيق وتناسق عجيب لا يترك للحرب «مطرح» مع الطرف المهيمن.
هنالك إدارة ذاتية و»كومينات» وخدمات وضرائب من جهة مستقلة نسبياً بحماية أمريكية، وإدارة وجباية رسوم ومتابعة للحد الأدنى من وفود «الدولة»، في هارموني متميز بين المصلحتين. والظاهرة الخاصة هنا هي قدرة السوريين، الذين يعيشون هناك على التعايش مع تلك الظروف، لمدة طويلة مع شروط عابرة بالأساس. في مدينتي الحسكة والقامشلي خصوصاً، يوجد هذا التعايش، بل التداخل. قوة العادة والمصلحة بالتواجد من دون إنفاق طاقة كبيرة من قبل النظام، وسيادة فعلية لقوات سوريا الديمقراطية. وأتاح هذا الوضع شكلاً هجيناً للاقتصاد والمعيشة، ربما فيه استرخاء أكبر من المناطق التي يسيطر فيها النظام مباشرة أو بشكل كامل. وقد تغير هذا الوضع واهتز بعد الاجتياح التركي للمنطقة، والاتفاقات الثنائية اللاحقة له، ربما مع مزيد من الفوضى الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والتفكك العام.
خلاف ذلك، هنالك مناطق تتواجد فيها فلول «داعش»، ومناطق تسود فيها أطراف وميليشيات غريبة أو محلية، ومناطق انتقالية وتتغير السيطرة فيها بين حين وآخر. وفي تلك المناطق يمكن تصور طريقة حياة السكان العجيبة، أو لا يمكن تصورها أبداً.
ما ورد أعلاه مقدمة موجزة من الضروري التوسع فيها تدقيقاً وتفصيلاً، عن الحالة السورية الراهنة، التي توزعت فيها سوريا إلى سوريات، تُضاف إليها تنويعات أخرى مهمة تستقل نسبياً بين السوريين، في تركيا (أربعة ملايين غالباً)، وفي لبنان ثم الأردن وغيرها. فرغم كل ما يجمع السوريين، تنشأ في أماكن اللجوء تلك علاقات إنتاج وحياة وثقافة ومصالح بشكل مستقل، وتصبح معها عودة سوريا ودولتها أكثر صعوبة. لم يعد لازماً- مثلا- للسعودية حتى تضمن ألا يوجد مؤيد للسياسة التركية بين المدعوين لاجتماع سوري عام في الرياض مؤخراً، إلا أن تتجنب أولئك السوريين الذين يعيشون الآن في تركيا.
هذه المقدمة تستبطن دعوةً للنخب السورية الأكثر قدرة على الإمساك بالأساسي، لتعيد بناء الجسور وتنتفض على حالة الانقسام هذه. بغير ذلك ينتصر النظام، مع أنه انتهى أو يتناهى، ويتعذر إعادة تأسيس دولة حديثة ومجتمع حيٍّ وحر ومنتج. تلك الجسور ممكنة، بتحرير جزء من الطاقة، وتخصيصه لما هو مشترك. يقول خبر حول قتل قاسم سليماني وصاحبه: «حزن في مناطق النظام، وفرح في المناطق المحررة».. وهذا نسق في الفكر ليس صحيحاً ولا عقلانياً في مفاهيمه وبنيته إطلاقاً، وهو خطير. فهنالك شعب سوري هنا وهناك، وهو واحد رغم الثورة والنظام، والحرب الطويلة، أو هكذا ينبغي أن يكون.. حتى لا تستمر الحروب السورية مئة عامٍ كتلك التي جاءت في التاريخ، وحتى لا يتأخر الانتصار النهائي على القتلة واللصوص من عصابة الأسد وما يشبهها، وعلى النفس أيضاً!
كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية