مدينة عريقة صغيرة تختبئ بين مرتفعات الجبل الأخضر وسواحل البحر الأبيض المتوسط، سوسة الليبية الهادئة تقبع في الشرق الليبي بمينائها الصغير وعدد سكانها الذي لا يتجاوز 7 آلاف نسمة، لكن لهذه المدينة قصة طويلة تعود جذورها إلى نحو 3 آلاف عام. وتتمتع المدينة بموقع سياحي جذاب من الناحية الطبيعية فهناك البحر والجبال إضافة إلى المدينة الأثرية.
ويُطلق على سوسة لقب المدينة الأثرية، وإنّه لأمر غير مبالغ به لما تحويه من كنوز أثريّة تحكي قصّة تاريخها وعراقتها، وليس بغريب عليها أيضاً أنّ يُطلق الرومان على منطقة الجبل الأخضر ككل تسمية منطقة المدن الخمس، إذ إنّها تحوي على مدينة قورينا، وأبولونيا، وطلميثه، ويوهيسبرديس برنيقى، وتوكره، والتي تمثّل أهمّ المراكز العمرانيّة الخمسة في ذاك العصر.
أهم موانئ جنوب المتوسط
سوسة هي مدينة تعود بداياتها إلى القرن السابع قبل الميلاد عندما قام الإغريق بتأسيسها وأطلقوا عليها اسم أبولونيا، تيمناً بإله الجمال والموسيقى، وحتى تكون ميناء تجاريا مخصصا لقورينا المعروفة باسم شحات، وتطورت المدينة عبر مراحل تاريخيّة متعاقبة لتصبح من أهم موانئ جنوب المتوسط، وعاصمة إقليم المدن الخمس في شرق ليبيا خلال العصر البيزنطي في القرن الخامس الميلادي.
واشتهرت سوسة منذ القرن السابع قبل الميلاد على انها ميناء لمدينة قوريني حيث كانت أول أمرها ميناء بسيطاً لقلة عدد السكان وضعف النشاط الاقتصادي في المنطقة، لكن مع مرور الوقت وتزايد عدد السكان ازدهرت الحركة التجارية ما دفعها إلى الاهتمام بمينائها أبولونيا -سوسة- كي تستغله في تصدير بعض محاصيلها واستيراد البعض من حاجياتها.
وخلال مدة زمنية الطويلة امتدت ما بين العصر الروماني والفتح الإسلامي، عاشت سوسة أحداثا تاريخية كثيرة بدءا بالاستيطان الإغريقي ثمّ الروماني فالبيزنطي، وحتى مجيء الفتح الإسلامي، وقد تركت كل هذه الفترات بصماتها على المدينة لتجعل منها متحفاً مفتوحاً، كما يصفها مؤرخون.
وقد كشفت هذه المراحل عن الكثير من المعالم الأثرية التي تعبر عن تاريخ هذه المدينة فمن أهم معالمها: أسوار المدينة وأبراجها، والمقابر، والكنائس الشرقية والغربية والوسطى وكنيسة خارج الأسوار، وقصر الدوق، والحمامات الرومانية والحمامات البيزنطية، والمسرح الإغريقي الروماني وغيرها من المعالم الأخرى.
سُميّت مدينة سوسة على مر العصور بمسميات عدّة ومن هذه الأسماء؛ أبولونيا عندما حصل عليها الرومان في القرن الأول قبل الميلاد وفي فترة العصر الروماني ازدهر اقتصاد المدينة بشكل كبير، ومن ثم تم تغيير اسمها إلى ميناء أبولونيا، وفي القرن الخامس ازدهرت المدينة بشكل تدريجي وأصبحت عاصمة للمقاطعة وتم تغيير اسمها إلى سوزوسا، وظلّ هذا الاسم يطلق على المدينة في الفتح الإسلامي، ومن بعد الفتح الإسلامي تم تغيير اسم المدينة إلى سوسة.
نالت هذه المدينة شهرتها بعد أن أصبحت عاصمة للإقليم في القرن الخامس الميلادي واستمرت في ذلك حتى الفتح الإسلامي، وقد كانت تعرف خلال هذه الفترة باسم سوزوسا.
كنائس مزدانة بالرخام
ولكونها عاصمة الإقليم فقد صارت مقرا للحكام البيزنطيين الذين حكموا الإقليم ومن بينهم دانييلوس الذي وجه إليه الإمبراطور اناستاسيوس عام 501 م مرسوما لتنظيم أحوال الإقليم العسكرية وجد جزء منه منقوشا على الرخام، وكان آخر الحكام البيزنطيين المدعو ابوليانوس الذي هرب أمام الزحف الإسلامي إلى مدينة تاوخيرا (توكرة) عام 642.
ومن الطبيعي أن تشهد المدينة حركة معمارية ضخمة بسبب كونها مركزا للإقليم ومقرا لحكامه لذا فقد كشفت المعاول الأثرية عن عدة كنائس مزدانة بالرخام والفسيفساء يؤومها المسيحيون بالمدينة، وهناك قصر للحاكم عرف باسم قصر الدوق، إضافة لأحياء سكنية لاستقرار الأهالي والوافدين على المدينة. ويبدو أن المدينة لم تنتهِ بعد الفتح الإسلامي حيث استقر بها بعض المسلمين لفترة من الزمن وقد عثر على نقش عربي في صالة قرب الكنيسة الوسطى، وعلى الرغم من هذا فإنه لا يعرف التاريخ الذي هجرت فيه المدينة وبقائها خالية من السكان، وقد أدى هجرانها إلى تدمير مبانيها بسبب تضافر العوامل الطبيعية والبشرية التي أدت إلى اختفاء الكثير منها وصارت أطلالا عبر الزمن.
الحضارة الإغريقية
مناخ المدينة متوسطي، معتدل حار صيفا وبارد شتاء مع ميل إلى الاعتدال في الفصلين، وتتراوح درجات الحرارة خلال فصل الشتاء في المدينة ما بين 9 و20 درجة، فيما ترتفع صيفا لتفوق الأربعين درجة. ويبلغ معدل هطول الأمطار السنوي فيها حوالي 600 مم وهو معدل معتبر يمكن من تغدية المائدة المائية بكميات هامة تنعكس على منابع الماء العذبة والجداول التي يشكلها سيلان هذه المياه.
خلافا للغرب الليبي المنتمي حضاريا وتاريخيا إلى المغرب العربي وكان ضمن دائرة نفوذ جمهورية قرطاج ولاحقا ضمن مقاطعة أفريكا الرومانية التي تضم تونس الحالية وغرب ليبيا وشرق الجزائر، فإن الشرق الليبي كان ضمن دائرة نفوذ الحضارة الإغريقية ومن ذلك مدينة سوسة.
واعتنق سكان سوسة الإسلام منذ القرن الأول للهجرة مع قدوم العرب إلى إقليم برقة فتحا وهجرة، لتكون المنطلق لفتح المنطقة المغاربية وتأسيس حاضرة إسلامية هي مدينة القيروان التونسية تكون قاعدة الارتكاز لحكم بلاد المغرب الكبير والانطلاق نحو الأندلس. فأصبحت سوسة وكذا محيطها مناطق نفوذ للدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنورة ولاحقا في الكوفة في عهد علي بن أبي طالب. ثم خضعت للأمويين في دمشق والعباسيين في بغداد والفاطميين في المهدية والقيروان في تونس قبل انتقال هذه الدولة إلى القاهرة للاقتراب من بغداد حيث الخلافة العباسية لإنهائها والحلول مكانها.
ومر بنو هلال وبنو سليم في غزوهم وتخريبهم للقيروان من مدينة سوسة بعد أن حرضهم الخليفة الفاطمي في القاهرة على الصنهاجيين في القيروان الذين استقلوا بحكم أفريقيا (تونس شرق الجزائر وغرب ليبيا). واستقر عدد كبير من بني هلال في محيط سوسة ومناطق هامة من ليبيا اليوم وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والقبلي في البلدان المغاربية جميعا ومن دون استثناء.
الأكروبوليس من أهم معالمها الأثرية
يوجد في سوسة العديد من المعالم الأثرية والتي ما زالت شاهدة حتّى اليوم على الحضارات المتعاقبة في البلاد، ويُعتبر الأكروبوليس من أهم الأجزاء الحصينة الباقية من المدينة الأثرية القديمة، وكذلك الكنيسة الأثرية الموجودة خارج سور المدينة، والتي تشتهر في تصميمها ذي الحنية الثلاثيّة.
وتشتهر المدينة بحماماتها الأثرية والتي تعود للقرن السّادس الميلادي أيّام الحكم البيزنطي، وهي موجودة بجوار القصر، ويُعتبر متحف سوسة من أهمّ المتاحف الموجودة في البلاد، إذ أنّه يضمّ العديد من الآثار التي عُثر عليها أثناء عمليّات التنقيب والحفر، ناهيك عن اللُّقى، حيث يضمّ العديد من التماثيل، إضافة إلى اللوحات الفسيفسائيّة، وهناك العديد من النقوش المكتوبة، ويُذكر بأنّه يضمّ قاعدة لتمثالٍ منقوش عليها قصيدة يُرجّح بأنّها للشاعر كاليماخوس وهو يُبجّل الملك ماجاس ملك قورينائية، وتعود هذه القطعة إلى القرن الثالث لما قبل الميلاد.
وللمدينة سور خارجي تم بناؤه في العصر الهليني وأعيد ترميمه في العصر الروماني. ومن المعالم الباقية، الجزء الحصين من المدينة أي الأكروبوليس والكنيسة ذات الحنية الثلاثية التصميم القائمة خارج الأسوار، ويوجد جزء من آثار أبولونيا تحت مياه البحر، ويعلل خبراء الآثار ذلك أنه نتيجة للهبوط المستمر للطبقات الأرضية عن مستوى سطح البحر ما أدى إلى غمرها بمياهه.
وقد لفتت آثار سوسة انتباه الكثير من الرحالة والمهتمين بالآثار، وبدأت أعمال الحفر والتنقيب فيها منذ مدة ليست بالقريبة وأسفرت تلك الحفريات والتنقيبات عن ظهور الكثير من معالمها فضلاً عن اللقى الأثرية ما دعا إلى تخصيص متحف تعرض بداخله القطع التي وجدت بالمدينة.
متحف سوسة
يحتوي متحف مدينة سوسة على الكثير من القطع الأثرية واللقى التي وجدت أثناء أعمال الحفر والتنقيب في المدينة أو التي عثر عليها في المنطقة المجاورة مثل بعض التماثيل والنقوش الكتابية واللوحات الفسيفسائية. حيث يوجد من بين معروضات هذا المتحف قاعدة تمثال تعود إلى القرن الثالث قبل التاريخ الميلاد، نقشت عليه قصيدة شعرية بأسلوب الشاعـر كاليماخوس حوالي 305-204 ق.م تبجل ملك قورينائية ماجاس 300-250 ق.م.
ويوجد كذلك نقش جنائزي يعود إلى الفترة الرومانية ونصب تحديد أرض عليه كتابة منقوشة باللغة الإغريقية يعود إلى القرن الميلاد الأول، وجزء من غطاء قبر عليه رموز إغريقية. ومن بين التماثيل المعروضة في هذا المتحف تمثال للآلهة أثينا آلهة الحكمة، وهناك تمثالان لامرأتين ثريتين من أبولونيا- سوسة قامتا بأعمال جليلة للمدينة.
ومن المعروضات كذلك نحت لسيدة وقد همت بفتح صندوق ملابسها يعود تاريخه إلى نهاية القرن الخامس ق.م. كما يحتوي المتحف بعض اللوحات الفسيفسائية التي عثر عليها في عدة مواقع من المدينة، من بينها لوحة فسيفسائية وجدت بأرضية الكنيسة الشرقية بالمدينة وهي تعود إلى القرن الخامس أو السادس الميلاد، وبها صورة لشخص يدعى كوموس. ونُسيت هذه المدينة العامرة من ذاكرة البشرية حقبة من الزمن إلى ان زارها الرحالة وتعرفوا عليها وأشاروا إلى بعض بقاياها الأثرية ولعل أقدمهم الجراح الفرنسي غرانجيه عام 1734 ثم الطبيب الإيطالي دي لا شيلا عام 1817 ثم الإخوان بيتشي عام 1822 وباشو عام 1824 ثم هاملتون عام 1852 وغيرهم، وقد بدأ الإيطاليون بالحفر في بعض بقاياها واهتموا بآثار هذه المدينة منذ عام 1915 كما اهتم الفرنسي مونتي بالتنقيب بها ما بين 1953 -1956 إضافة إلى مصلحة الآثار التي نقبت فيها برئاسة غودتشايلد ما بين 1959-1961 وبعد ذلك. إضافة إلى فريق من جامعة ميتشغان ما بين 1965-1967 تمخض عمله عن مجلد ضخم عن هذه المدينة، واخيرا عاد الفرنسيون للتنقيب في سوسة من جديد بإشراف شامو منذ 1976 ثم لاروند منذ عام 1981 وما زالت تنقيباتهم مستمرة حتى الآن.
وتأثرت سوسة الواقعة على ساحل البحر المتوسط في الجبل الأخضر بموجة الفيضانات الناجمة عن إعصار دانيال العام الماضي، حيث تركتها الفيضانات مغمورة بالمياه ودمرت جميع الطرق الواصلة إليها، كما خلّف عددا من الخسائر البشرية.
وفي ذلك الوقت أعلنت السُلطات الليبية سوسة الواقعة شرقي البلاد، مدينة منكوبة، عقب تعرضها لفيضانات وسيول عارمة؛ جراء العاصفة دانيال المتوسطية التي ضربت منطقة شرق ليبيا.
وقال عبد الحكيم الحاسي، رئيس بلدية سوسة، إن «سوسة أصبحت مدينة منكوبة والفيضانات والسيول اجتاحت المنازل والمقار والمؤسسات» مُؤكدًا أن «السيول داهمت البلدية بسبب وقوعها في منخفض بالجبل الأخضر. الوضع كارثي وخارج السيطرة، لكننا نعمل بالإمكانيات المتاحة لدينا».
واجتاحت مياه الأمطار عدة مدن ليبية بسبب قوة غزارتها ما تسبب في فيضانات وسيول وكانت قرية تاكنس الجبلية والبيضاء وشحات وبطة بمنطقة الجبل الأخضر الأكثر تضررًا من العاصفة دانيال.
ومع مرور أكثر من سنة على هذه النكبة شهدت بلدية سوسة مشاريع إعمار من بينها توسعة الطريق الرئيسي، وإنشاء بنية تحتية للأحياء المتهالكة والمتضررة جراء الاعصار.