سوط قديم

يزيدنا السفر حكمة لأنه يُطلعنا على تجارب أقوام لم نسمع بهم من قبلُ، حتى القبائل البدائية التي لم تصلها بشائر الحضارة يمكن أن تقوم بدور المعلم لنا. ما زلت أذكر صالة الطعام في الفندق الكبير في مدينة زنجبار، المناشف نظيفة ناصعة، أدوات الطعام والزجاجيات براقة، والندل بثيابهم الحريرية الحمراء تغطي بشرتهم السوداء اللامعة، والهواء يدفعه جهاز التكييف مضمخ بضوع استوائي لا يبارح ذاكرتي، رغم مرور خمس سنوات على زيارتي للمدينة، سالكا إليها طريق البحر من سلطنة عُمان.
كان البرنامج السياحي في ذلك اليوم يتضمن زيارة مدينة كوارارا، مسقط رأس النخاس وتاجر العاج الزنجباري حمد المرجبي (1840 – 1905) الذي اشتهر باسم (تيبو تيب)، كناية عن صوت إطلاق البندقية بلسان القبائل الافريقية، التي ساعد النخاس المستعمرين البلجيكيين في تأسيس وجودهم بينها في قلب قارة افريقيا، عندما جاؤوا حاملين شِعار مساعدة الأفارقة وإنقاذهم من “عبادة الشجر والحجر، ومنعهم من أكل البشر”، لكن الحقيقة أنهم كانوا يحملون أطماعا سياسية هدفها، استلاب الأرض وما في باطنها من معادن وزراعة وغير ذلك، بالإضافة إلى الغاية الأهم، وهي احتكار تجارة العاج والرقيق. استمر البلجيكيون يرفعون علم بلادهم على إقليم زنجبار لعشرات السنين، وكافأ ملكهم ليوبولد الثاني النخاسَ بأن جعله واليا تابعا براتب شهري قدره ثلاثون جنيها، وظل هذا الموقف ملاصقا للرجل حتى وفاته، باعتباره وصمة عار في جبينه.
بعد وجبة الفطور الدسمة في الفندق الكبير، انطلق الباص بنا إلى المدينة المذكورة، وكان دليلنا السياحي شابا بدينا له مشية إوزة، يروي لنا بطريقة باهتة وآلية هذه القصة، وما جرى في بلدة كورارا، والسبب الذي انقرض من أجله سكانها، وقد بقيت شواهدها حاضرة إلى الآن: “بعد وفاة تيبو تيب بزمن قصير، أنجبتْ إحدى نساء قبيلته كائنا هلاميا لا عظم في بدنه وله رأس كبير. وعندما حاولت إطعامه، انتبهت الأم إلى أن رأسه يقع في غير مكانه المعروف، ويتغير مع الوقت، مرة يكون في بطنه، أو في ساعده أو ظهره الأسفل. إن قوة السحر كبيرة في الوجود، فقد صادف في يوم ولادة هذا المسخ أن الشمس تحررت من كسوفها، ما أعطاه صفة العِصْمة التي سرعان ما ضربت في صدور الناس لمحة من المقدس، فأخذوا يتقربون إليه، مع نوع من التبجيل راح يزداد بمرور الأيام، إلى أن ظهر من نادى في الأسواق بأن أهل زنجبار انتظروا هذا المنقذ أجيالا لا يمكن تصورها في الماضي، وها هي تلاقيه في هذه السنين، فيا لفرحتها”.
السماء في الجزيرة زرقاء صافية، والشمس في بداية الرحلة لم تكن شديدة السطوع. رحتُ أتابع المشاهد التي يمر بها الباص، ويغادرني في الأثناء صوت الدليل، بسبب فظاعة ما كنت أرى. كل شيء صار أطلالا في المدينة، والشوارع تغفو في ردائها الناري بسبب الحرائق وأعمال القصف، مع آثار إطلاق نار كثيف على الجدران، وهناك بقايا رايات وأعلام تبدو كما لو أنها احترقت منذ زمن قصير. من خلال هذه المشاهد يمكن للمرء أن يرى الأخبار الخفية في المدينة، ويشعر بقصتها ونبض الحياة التي سكنتها. ثمة جذع نخلة متفحم يتصاعد منه خيط دخان أزرق تبدده الريح، وبقايا السعف والأعذاق نصف المحترقة أظهرت رمادا وردي اللون. ثم جاءني صوت الدليل السياحي، وكان منفعلا هذه المرة، وهو يقوم بتحليل الوقائع على أرض الجزيرة:
“أي مصير ينتظر قوما يكون منقذهم كائنا مسخا، تم تركيبه كأنما من مخلوقات عديدة، بَحرية وأرضية وتلك التي تسبح في الهواء؟ وبدل أن يلقى هذا الشرح تحديا، استقبله عقلاء القوم بصدور مكشوفة فسكنها مباشرة وآمنت به. وعندما بلغ الطفل مرحلة الشباب أخذت خِلْقته المشوهة تستقر على وجه سمين مدور ومخاطي فيه عينان باردتان وفم كبير جدا. بدل الكلام، كان يُطلق أصواتا مشتتة تشبه النهنهة، سرعان ما تترجم بواسطة مريديه وحاشيته وبطانته إلى تعاليم، لأنها صادرة عن فؤاد سيد مطلق الصلاحية، ويشعر الجميع نحوه بالتبعية”.
توقف الباص ونزل السياح جميعا، ورحنا نتجول بين آثار ضخمة مهيبة لمدينة مهجورة، فيها بقايا سور ذي شرفات وأبراج مراقبة. المباني مدكوكة بالمدفعية ومزروعة بالدخان الأسود، وأشجار النخيل مطلية بالغبار، كما أن هناك أماكن رُدمت بالتراب حتى نصفها، وبدت تضاريس الأرض كأنها مرسومة على أشكال الشوارع والمنازل الكبيرة الباقية، وأصابنا المشهد بإحساس عميق بالرهبة والكآبة.
– تنبهوا واحذروا العقاربَ والأفاعيَ القرناءَ المعروفة بلسعتها الصاعقة!
صاح دليلنا ونحن نتجول بين الخرائب، وكان المكان غارقا في الصمت ويمكن سماع رفرفة الطير في السماء. تابع الدليل يروي لنا تاريخَ المكان: “الحب في الديانة الوثنية يفعل الأعاجيب، فالتشوهات في هيئة الرجل المسخ، ولكونها صارت مألوفة للجميع، فإن كل تفصيل أمسى لطافة في عيون الناظرين، وهذا من أعاجيب لعبة الخيال، تقوم بها أذهان المؤمنين بالسحر، وهو شائع في هذه الجزر، لطافة ورقة ونعومة تحولت عن طريقها هيئته المشوهة، وبسبب طبيعته الهلامية، إلى فيض ضوئي كأنما هبط من السماء”.
ونحن ندور في أسواق المدينة وأزقتها وحدائقها لم نعثر على دليل للحياة، قضت الحرب على خصوبة الأرض، ولم تترك إلا الحجارة والغبار الأحمر حيث لا يمكن لشيء أن ينبت. “ثم شاعت خرافة لا يعرف أحد مصدرها أن المسخ سافر إلى الشمس وأقنعها أن تزوجه ابنتها، ولما حل الليل تزوج ابنة القمر. تضاعفت قدسيته مرات، علما أنه كان يتواصل مع الجميع، مثل طفل، بالغماغم والإشارات، فيتدبرونها دون كلل، وأحيانا يشاء أن يكون لسانَه حاجبُه المظلوفُ إثرَ ضَربة، حين يرفعه بقوة يفهم منه الجمهور أمرا، أو يخفضه أو يلعبه، ولكل حركة في تفاصيل وجهه أمر وفصل تتم الاستجابة لهما من قبل الرعية، حسب الأصول. بلاهات طفولية لا تُحصى كان يقولها بطريقة مستخفة، مُطلقا معها آهات خالصة، أو جلبة غير مفهومة، ومُقْحَمات صوتية خالية من المعنى، وتصرفات فَظة مثل الضرب بالعصا أو السيف أو اللكم والضرب بالقدم، وكانت الجماهير تشعر عند سماعها الكلام وتلقيها الضرب والإيذاء بنوع من التشويش الذهني تنبثق منه الاستنارة التي تؤدي إلى أن آفاق حياتهم تتسع، وبالسكينة تنزل عليهم. بمرور الزمان تشبعت برسائله الدينية الأفئدةُ والعقول، فاستشرى نوع من جنون الحب، وبالتدريج فقدَ الناس رغبتهم في الكلام تشبها به، وصاروا يتأوهون طوال الوقت، أو يصدر عنهم أزيز حاد وطاحن يفهمه المقابل، ويرد على قائله بجلبة أو ضوضاء أقوى. كثرت المشاحنات والمعارك بين أفراد القبائل بسبب غياب لغة التفاهم، ولم تنفع تدخلات قوى الشرطة والجيش، ونشبت حربٌ دامت سنين أدت إلى فناء الجميع، حتى البهائم لم تسلم من أعمال القتل فنفقت كلها”.
في المكان الذي يشبه ساحة شاهدنا لوحة منقوشة على جدارية عالية لرجل تبدو عليه أمارات الجنون الشديد والقوي، وبدا لنا أنه على وشك التحرك والصياح على الجماهير المحتشدة. كيف سلم هذا الجدار من أعمال الحرب؟ لا أحد يدري. دخلت صورة الجدارية مباشرة في ستوديو هواتف جميع السياح. وأنا أتأمل رسم الرجل كاملا دون نقص فيه أو تشويه يُذكر، تخيلت الأرواح تتهافت والأجساد ترتمي للدفاع عن البناء القائم. هل هي صورة المسخ الذي أوصل المدينة المنكوبة إلى هذه الحال؟
لابد أن خيانة النخاس حمد المرجبي لبلاده، وتسليم مقدراتها وثرواتها إلى ملك البلجيك، كان لها الدور الرئيسي في الخراب الذي عم الديار، وإن المرء ليشعر إزاء الموقف بالشفقة والذعر. كانت الظهيرة تقترب والحر صار قويا، مقياس الحرارة في الهاتف يقرأ 49 درجة في الظل. الأمر المهم الذي لمسته، وكنتُ واثقا منه، هو الحنان المفقود، عندما تُفقد لغة التفاهم تغيب العِشرة بين الناس، فيصير حتى الهواء له مذاق العلقم. ثم اتجهنا صوب البحر وشاهدنا أفقا واسعا وعميقا وملتهبا، والموج المتلاطم يغلي فيبدو كنار سائلة. البحر يزبد ويتموج ويُطلق صوت عصفٍ قوي أصابنا بالرعب، ولفحت ريحه العفنة غير المحتملة وجوهنا. لم نعد نقوى على السير وقد أنهكنا العطش فطلبنا من دليلنا العودة. وفي الطريق إلى الباص عثرتُ على بقايا سوط بمقبض مضفور احتفظتُ به كتذكار. في الواقع لم يكن فيه شيء غريب عدا كونه ثقيلا. سألتُ دليلنا السياحي، وكان متوجسا من مشهده. سائحٌ ياباني ظل يفحصه بإمعان، وكان يعمل فيما يبدو في عالم الطبيعيات. قال:
– سوط قديم مصنوع من قضيب ثور.
أمضيتُ بقية اليوم وأنا أتساءل عمن يجلدُ منْ في هذه الجزيرة النائية، وهل كانت مصادفةً أنه العلامة الوحيدة التي عثرنا عليها في المكان، وتدل على حياة البشر؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية