بعد قرون عديدة من سؤال عنترة : هل غادر الشعراء من مُتردّم، أعاد السؤال ذاته لكن بصيغة أخرى شعراء عرب معاصرون وكان هذه الحيرة أبدية، وان ما قاله دانتوس وهو : سحقا لمن سبقونا فقد قالوا أقوالنا كلها، شملنا نحن العرب، فالراحل صلاح عبد الصبور استعدّ لمقايضة بين من يدله على طريق الدمعة البريئة وبينه، بحيث يعطي ما اعطته الدنيا من التجريب والمهارة لقاء يوم واحد من البكارة، أما الراحل خليل حاوي فقد ذهب إلى ما هو أبعد حين قال :
تولد الفكرة في السّوق بغيا ثم تقضي العمر في لفق البكارة
فهل حقا قال الاوائل كل شيء بحيث لم يتبقّ لنا إلا التنويع، وتداول العبارات المستعملة، وهنا أوضح ما أعنيه بسوق الكلمات المستعملة، على طريقة تلك الأسواق الشعبية التي تباع فيها الملابس المستعملة، فمن يشتري حذاء مستعملا رقص به فازلاف نجنسكي أو قبّعة ارتداها كازانتزاكي لا يعيش التجارب ذاتها وإنْ حاول ذلك فعلى نحو فيتيشي، أي الاستعاضة عن التجربة الجسدية بالثياب كما يحدث لبعض المصابين بشذوذ جنسي .
وحين نتأمل المسافة بين ما قاله عنترة وما ردده عبد الصبور وحاوي نجد انها مأهولة، بل معبّدة بوقع الحوافر على الحوافر، وهذا ما يسميه النقد الحديث التنّاص، لكن هذا التكرار وهو قدر لا فكاك منه ليس واحدا وهو الرقيب العقيم الذي يتأسس على الاجترار فثمة ما يسميه بعض النقاد التكرارات الأصيلة، ومنها ما قاله كامو عن تكرارات شيستوف التي تبدو في ظاهرها تكرارا لكنها في العمق أشبه بتلك الحزمة من القش التي رسمها «مانيه» عشرين مرة في يوم واحد ليقول ان لونها تغيّر عشرين مرة على الأقل تحت الشمس في درجات مختلفة .
لكن الظاهرة الأعم هي التكرار الاجتراري حيث تتبدل المفردات فقط، خصوصا في لغة ثرية بالمترادفات، وكان الشعر العمودي هو المجال الحيوي بامتياز لمثل هذا الاجترار أو النّسج بمنوال السابقين. وقد نجد مئات القصائد العمودية التي حاول أصحابها محاكاة المتنبي، لكنهم لم يبلغوا حتى عتبة بيته. وما قاله عنترة ومن بعده أحفاد أحفاده من الشعراء العرب عن مترّدم الكلام، به شكوى صريحة من تراكم الخبرة، وبالتالي حرمان الوريث من البكارة التي أراد عبد الصبور مقايضتها بكل ما لديه من التجريب والمهارة، فالمخلوق الأول أو آدم المعرفة أو ما يسمى صفر الخليقة لم يعد متاحا، ولعل هذا الفهم هو ما دفع كارل ماركس مثلا إلى استثناء الحقبة الاغريقية من نظريته وما يتعلق منها بصراع الطبقات، فهو كان يقرأ اسخيليوس وثالوث الفلسفة اليونانية باعتبارهم بكارة المعرفة، ولم يستوقفه حتى كون سدس سكان اثينا كانوا من العبيد، وان افلاطون ذاته بيع في سوق الرقيق، هذا التسامح المفرط مع الاغريق لكونهم الاوائل الذين يمثلون البكارة لم يتكرر لدى ماركس أو سواه ممن يقرأون التاريخ في ضوء منهج المادية الجدلية .
٭٭٭ ٭ ٭٭ ٭
أحصى الشاعر جيته الثيمات الكبرى التي تمحور حولها النتاج الأدبي فكانت قابلة للحصر، ومنها الموت والحزن والخوف والحنين، لكن ما كتب عن هذه الثيمات منذ الأساطير والملاحم حتى الآن، كان يتجدد لأن كل موت هو الموت الأول، وكذلك كل حزن وكل خوف، ورغم كل ما تراكم من طبقات حول هذه العناوين في التاريخ، إلا ان الإنسان لم يتأقلم معها باعتبارها أمرا مألوفا لهذا كانت مساحة الجديد غير المطروق هي الموت الخاص والحزن الشخصي، وكذلك الجوع والخوف، بهذا المعنى لا يكون الاوائل قد قالوا أقوالنا بل قالوا أقوالهم قدر تعلّق المكابدات بهم وبانفعالاتهم وأشواقهم، ولو أخذنا للمثال فقط قصيدة واحدة عن الحب كُتبت قبل آلاف السنين في مصر الفرعونية وقصيدة أخرى كتبت في أيامنا لوجدنا ان القاسم المشترك الوحيد بين القصيدتين هو موضوعة الحب وليس تفاصيله، وهذا ما تنبّه إليه ت ـ س ـ اليوت في قصيدة الأرض اليباب وكذلك صلاح عبد الصبور الذي تأثر به في مسرحية مجنون ليلى . في قصيدة اليوت يصبح الحب الرومانسي في القرن الثامن عشر نقيض الحب في الربع الاول من القرن العشرين، ولكي يوضّح اليوت الفارق اختار مسرحا للحب هو نهر التايمز … ففي المرحلة الرومانسية كان شاطىء النهر مليئا بالمناديل الحريرية المبقّعة بالدموع وبزجاجات العطر الفارغة، لكن شاطىء التايمز في عصر اليوت أصبح يعجّ بزجاجات البيرة الفارغة والمناديل الورقية الملطّخة وبقايا الأطعمة وقشور البيض .
أما عبد الصبور فقد جعل ليلى العامرية في القرن العشرين موظفة وبذلك أعاد إنتاجها وإنتاج مجانينها في ضوء متغيّرات جذرية حيث لا مكان للعذرية على اختلاف تجلياتها في زمن مادي تتحكم بكل نسيجه الذرائعية والواقعية المستنقعة، لكن عبد الصبور وبعض أبناء جيله من شعراء الحداثة فاتهم ان المتغيرات شملت كل شيء حتى دلالات الأسطورة فقد استخدم هؤلاء الشعراء بتفاوت فني أسطورة بنيلوب التي تنتظر عودة عوليس التائه في البحار، ومنهم من حاول توظيفها سياسيا أو تاريخيا بحيث تكون بنيلوب هي فلسطين التي تنتظر عودة الشعب المهاجر، وذلك على النقيض من استخدام شاعر يوناني معاصر هو يانيس ريتسوس لهذه الأسطورة. ومن المعروف عنه انحيازه للقضية الفلسطينية التي كتب عنها نصوصا نشرها الشاعر محمود درويش في مجلة (الكرمل)، ما قاله ريتسوس هو ان بنيلوب فوجئت بعوليس الذي شاخ وهزل جسده وان عودته جاءت متأخرة عن موعدها، فانكرته وبكت عمرها الضائع وهي تحوك وتطرّز المناديل بانتظاره .
بهذا المعنى يستطيع ريتسوس ان يقول بأن الاوائل لم يقولوا أقواله، لأنه أعاد ابداعها بطريقته وبتناغم مع ايقاعات زمنه، لهذا يبقى في نطاق ما نسميه سوق الكلمات المستعملة، ذلك النتاج الذي يعيش حتى الشيخوخة على الرضاعة ولا يبلغ الفطام بحيث تصبح الكتابة اجترارا أو مهارة في التلاعب بالمترادفات. وإذا كان سوق الملابس المستعملة يعني ان الملابس المعروضة قد استُعملت لمرة واحدة فقط أو (second hand) فإن الكتابة المستعملة بلغت حدّ الرثاثة والاهتراء لفرط استخداماتها المتكررة.
كاتب أردني
خيري منصور
نص مقولة غوتة استاذ خيري هو:ليس الادباء الكبار/العظام ادباء كبارا ،لانهم اتوا باشياء جديدة،وانما هم ادباء كبار /عظام،لانهم ابرزوا الاشياء ،كما لو انها تكتب لاول مرة.
واما محمود درويش فكتب في لا تعتذر عما فعلت:تنسى كانك لم تكن،وفيها اشار الى ان ما يكتبه هو تعديل او تغيير على ما كتب،قيل ما ساقول.
ولكن درويش لم يكتب هذا الا بعد ان سقط الحصان عن القصيدة وسقط هو مضرجا بدم الحصان،،،أي يوم هدات خيول الثورة وعاش هو هادئا مستقرا فاخذ يجتر موضوعات كتب فيها من سبقه،ولكن تجربته من 60ق20حتى العودة الى رام الله وكتابة جدارية لم تكن كذلك،بل قبل جدارية-أي منذ لماذا تركت الحمار/الحصان وحيدا،فلا حرب ولا سلام وهكذا اخذ يعيد كتابات سابقة بصياغات جديدة،وهو ما لاحظناه في قصيدة شتاء ريتا الطويل.تحياتي
يبدو ان الاستاذ خيري قد اعاد هو السؤال عن المتردم ، وهو ذات السؤال القديم ، وبينما يتساءل كرر الحدث مرتكبا ذاته ، الموضوع الاهم في الكتابة انها فعل بشري تتقاطع بينهم التجارب والخبرات ، فتتقاطع المعارف، وحتى التعابير تجدها مشتركة ، المهم هو هل مطلوب منا ان نكون استجابة لسوق المشترين ام اننا نبدع ونقدم الهدايا الجميلة ، اذا كان البحث هو استجابة لمشتر فالمطلوب هو الجديد كل يوم اما اذا كان الجمال هو الهدف، فقد سبق القائل ان قطعة الماس الجميله لها وجوه عديدة ويزيد من جمالها وجه اضافي اخر
اياد شماسنة
ان تكرر قول عنترة او قول الآخر :
ما ارانا نقول الا معارا من قولنا مكرورا
فهذا التكرار طبيعي لان الانسان هو الانسان وكل ما يفرزه من معطيات انسانية فهي مشتركة ويبقى القول وطريقة التعبير وفن التعبير المتميز والذي يستخدم الخيال اللغوي والنفسي استخداما خاصا والا فالمضمون واحد انه عنوان انساني لان الذي يقوله والذي يشعر به هو انسان بالمعنى الشمولي لاسم الجنس هذا
ان اللغة لا يمكن ان تتجاوز نفسها حتى والحروف ان كانت لغة الوجود ذاته فالمصفوفة اللغوية عبر الجملة وتتابعات الحروف بين الثلاثي والرباعي والخماسي تبقى معطياتها محدودة فإذا ادخلنا عليها الاستعارات اللغوية وهي اتخدامات اللغة لغير المعنى القاموسي او الاسطلاحي فهي ان تخترع لغة تركيبها خاص بك كمبدع ليس الا وانما الانسان هو الاسلوب كما يقول سانت بيف والاسلوب هو الفن الخاص والا فالمواضيع تنتهي في العد استمدادا من الطبيعة الانسانية فقط