كلنا نسعى للتميز، وكذلك أن نكون بارزين في دوائرنا العائلية، أو المجتمعية، وقد يمتد ذلك لرغبة عارمة في السعي للتميز على المستوى الجماهيري، سواء المحلي أو العالمي. فالتميز هو السبيل للشهرة والمجد، أو حتى ذيوع الصيت. وذلك، بشكل عام، يحدث حالة من الرضا عن النفس، مهما كان نوع هذا التميز. ومن أشهر أمثلة العصر الحديث عن السعي للتميز بأي شكل من الأشكال السيرة الذاتية للمطرب مايكل جاكسون، فقد اختار مايكل جاكسون لنفسه لتميز المفضي للخلود بجميع الأشكال؛ لعلمه الشديد أن المطربين المراهقين الذين يصلون لدرجة معشوقي الجماهير سريعاً ما ينطفئ بريقهم، وتخبو شهرتهم فور وصولهم لمرحلة الرجولة. وعلى هذا، سار مايكل جاكسون في حياته وفق مقولة «من الأفضل أن أشتهر بكوني غريب الأطوار، عليّ أن أكون لا شيء». ولهذا، لم تنطفئ جذوة تواجد مايكل جاكسون على الساحة الفنية والاجتماعية حتى بتواريه عن الغناء، وعالم الأضواء؛ ببساطة لأن جميع وسائل الإعلام كانت تتهافت على معرفة المزيد عن حياته الشخصية، لكشف ما يقترفه من فضائح، أو حماقات بين الفنية والأخرى. وبذلك، صار مايكل جاكسون – حتى بحادث موته ـ متفرداً، وشهيراً حتى الآن، وذلك ما يعبر عنه فعلياً عدد مشاهدات أي مقطع يوتيوب يتناول حتى ولو قبساً من حياته الشخصية. ولعل مقولة بنجامين ديزرائيلي (1804-1881) – السياسي البريطاني المحنك، ورئيس حزب المحافظين، الذي تمكن من أن يكون مرتين رئيساً لوزراء بريطانيا العظمى ـ هي خير دليل على إمكانية نيل الشهرة والتميز في أي حال من الأحوال، حين قال: «تميز هذا الرجل بجهله؛ حيث كان يصر على فكرة واحدة، وكانت تلك الفكرة خاطئة».
فالتميز يحتاج لشجاعة كبرى لمواجهة الآخرين بما نتميز به، لكن لو تميزت جماعة بفكرة ما، أو مجموعة من الأفكار، فإنهم في ذاك الوقت يشكلون «أقلية» في مجتمع الأغلبية. لكن لو تضافرت جهود تلك الأقليات – سواء كانت فكرية، أو عرقية، أو دينية، أو غيرها في عالم الأغلبية ـ نجد أنها تحدث تأثيراً ملحوظاً، وقد تشكل جماعة ضغط، بل تجبر الأغلبية على أن تنصاع لمطالبها. ومن ثم، تزداد أعداد المنتمين لأيٍ من هذه الجماعات، بل قد يشكلون في ما بعد الأغلبية، في حين أن من يناهضونهم يتبوؤن موقع الأقلية. ويعج التاريخ – سواء القديم أو الحديث – على مدار العصور أجمع بأمثلة توضح ذلك المفهوم، ولعل خير دليل في العصر الحديث هو الاتجاه للاهتمام بقضايا البيئة، والاهتمام بحقوق الإنسان والمعاقين، وأيضاً، الاهتمام بحقوق الحيوان بما في ذلك الضالة منها. وأما مفاجأة العصر الحديث فكانت الثورات الملونة التي امتدت للعالم العربي. فتلك الجماعات الثورية الضئيلة العدد جداً اجتذب أفكارها العديد والعديد، إلى أن صاروا أغلبية بلغت من القوة والقدرة على أن تطيح بزعماء كانوا مهابين وذوي نفوذ فعَّال على المستوى العالمي.
لا يمكن تجاهل المفهوم الفلسفي لتعريف ووصف «الأقلية» الذي طوره كل من الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز وفيليكس جوتاري في كتابيهما: «كافكا: نحو أدب الأقلية» )1975(، و«ألف هضبة» (1980).
وفي ذلك الشأن لا يمكن تجاهل المفهوم الفلسفي لتعريف ووصف «الأقلية» الذي طوره كل من الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز وفيليكس جوتاري في كتابيهما: «كافكا: نحو أدب الأقلية» )1975(، و«ألف هضبة» (1980). فبالنسبة لديلوز وجوتاري «الأقلية» كمفهوم لا يتشابه مع المفهوم الدارج واللغوي للمعنى اللفظي لمصطلح «أقلية»، لكنها تشير قبل أي شيء لهوية المرء واتجاهاته، فهي زمرة الجزيئات التي تنتمي لدولة الأغلبية، علماً بأن كل دولة تضم عددا لا حصر له من زمرات الجزيئات، ولكل زمرة جزيئات اتجاهاتها وخصائصها». ما يعني أن «الأقلية»، أو من هم «على وشك أن يصيروا أقلية» هو فعل أخلاقي في المقام الأول، وكذلك هو أحد الاتجاهات التي يتم التأثر بها عند محاولة التجنب الانضمام للفاشية». ويقصد بالفاشية هنا هو الانضمام لزمرة الأغلبية الديكتاتورية، أو التابعين لنظام ديكتاتوري ذي صوت واحد، وحزب واحد، ويقمع صوت الديمقراطية، في حين أنه يمجد الدولة الشمولية.
والأقلية بالنسبة لكل من جيل ديلوز وفيليكس جوتاري، غالباً لا تشير إلى الأقلية العددية، ومثالهم على ذلك سُلطة الجنس الذكوري على الإناث، على الرغم من أن الإناث يفقنهم عدداً. فعند تمحور الحديث عن «السُلطة»، نجد أن تحول هذا الشأن لقضية حساسة: فلا يزال الرجال يشكلون الأغلبية، بينما تقبع النساء في إطار الأقليات، ما يؤكد أن الأقلية وتواجدها قبل أي شيء هو فعل «أخلاقي». ومن ثم يصير مفهوم «على وشك أن يصير أقلية» يتلاقى مع مفهوم «على وشك أن يصير امرأة»، أو «على وشك أن يصير حيوانا»، أو «على وشك أن يصير جزءا»، أو «على وشك أن يصير غير ملحوظ»، أو في نهاية المآل «على وشك أن يصير ثوريا». وعلى هذا، تصير الأقليات هي العنصر الفاعل الذي يمكن من خلاله إحداث الثورات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية، وكذلك السياسية. فمثلاً، حركات تحرير المرأة من السلطة الأبوية بدأت في بداية الأمر على يد أقليات آمنت بحقوقها، وبدورها الفاعل في المجتمع، إلى أن صارت الآن قوة لا يستهان بتأثيرها في المجتمع، وأهميتها، على الرغم من أنها لا تزال أقلية. لكن وجودها على هامش الحياة الاجتماعية منحها قوة التصرف بكل حرية خارج مجتمع الأغلبية المقيد بقوانين عدة، تحد من تصرفاته وأنماطه السلوكية، وتشكل هويته. وبهذا استطاعت المرأة أن تشكل لها مركزا في حياتها الهامشية تلك، تذهب له الأغلبية، وتعترف بوجوده ككيان ثوري فاعل.
وبالطبع، عندما ساق جيل ديلوز وفيليكس جوتاري هذا المثال عن المرأة، ومكانتها في المجتمع، ومحاولاتها المستميتة للتخلص من جميع القيود التي تكبلها؛ بسبب الحقبة الزمنية التي سيق فيها المثال، لأن أهم القضايا في تلك الحقبة كانت قضية المرأة، خاصة أن كتب ديلوز وجوتاري تتناول قضية «أقليات الهوية المتفردة» مثل فرانتز كافكا، وكيف أن تفردهم يبعدهم عن مجتمع الأغلبية الذي يمجهم، لكن في نهاية المطاف يعترف بتميزهم. وعلى هذا، كانت نصيحة جيل ديلوز وفيليكس جوتاري التي وجهاها للجميع «كن من الأقلية»، لأن التميز ينبع من الأقلية فقط، وليس من الأغلبية التي تساق وراء أيديولوجيات فرد واحد كالقطيع.
قطعاً، كانت الأفكار والمفاهيم الفلسفية لجيل ديلوز وفيليكس جوتاري دافعاً ومحركاً للعديد من الأفكار الاستقلالية الثورية النزعة في العصر الحديث، التي ساعدت في إعطاء الثقة للكثيرين ممن تفردوا بمفاهيم، أو نزعات شخصية، أو حتى اتجاهات أو ميول غريبة عن المفاهيم السائدة؛ فقد أقنعهم هذا المفهوم الفلسفي أنهم لا يحيدون عن الصواب.
مفهوم كل فرد للحرية والتفرد يختلف كثيراً عن الآخر؛ بسبب توافر اختيارات لا حصر لها أمام كل فرد، لم ينل أي من الساعين للتفرد مؤخراً لقب «على وشك أن يكون أقلية».
فالاختيارات الفردية المتفردة حتى لو بدت غريبة للأغلبية، لكن لابد من عدم التنازل عنها؛ فهناك الكثيرون الذين يتمنون أن يجدوا من يشبههم ليكونوا أقلية فاعلة، قد تكون نواة لتغييرات اجتماعية وثقافية ثورية. بدون أدنى شك، لا يشوب ذلك المفهوم أدنى شائبة، لكن ما اعتراه من تغييرات حرفت قوامه وغاياته، جعلت منه سلاحاً سلبياً يؤدي إلى إحداث أفعال من شأنها إشاعة بلبلة لا طائل منها إلا الخراب. فمؤخراً، شهد العالم تغييرات متلاحقة غريبة، ليس من السهل فهم مغزاها حتى من قبل جيل الشباب أنفسهم؛ حيث يجنح العديد إلى تأكيد هويتهم بصورة لا تعبر إلا عن ضعف في الشخصية؛ بسبب اعتناق الكثير لأفكار، أو مفاهيم جماعات لا تمت إلى واقعهم بصلة، بل الأدهى من ذلك لا يمكن التواصل معها من خلال سبل الاتصال والتواصل الحديثة لتشكيل أقلية فاعلة؛ إما لصعوبة الوصول إليهم، أو لاحتقار تلك الجماعات لعرق أو جنسية، أي أن الغربة هي المصير المؤكد لمن يسعون للتفرد في مجالات تبعد عن واقعهم ومعطياته. ومن ثم، امتدت أذرع الفوضى في المجتمعات، خاصة بين الشباب، بل انتشرت المخدرات، والانحرافات النفسية والسلوكية بحجة السعي للتفرد من خلال اعتناق مفهوم «على وشك أن يكون أقلية».
وبما أن مفهوم كل فرد للحرية والتفرد يختلف كثيراً عن الآخر؛ بسبب توافر اختيارات لا حصر لها أمام كل فرد، لم ينل أي من الساعين للتفرد مؤخراً لقب «على وشك أن يكون أقلية»؛ لأنه جعل من الصعب جداً وجود من يشبهه، وكذلك بسبب تفضيل الحياة السهلة التي ينال فيها المرء ما يتمناه بدون بذل أدنى مجهود، أو المخاطرة بكل ما حققه من مكاسب أو التنازل عن بعض الفروق والاختلافات، كما كان يفعل الثوريون المتفردون في الماضي، إلى أن استطاعوا التجمع حول فكرة، وكونوا أقلية كانت من شأنها إحداث تغييرات جوهرية على المجتمع، كان من أهمها فكرة تقبل الآراء المخالفة لمفاهيم الأغلبية. وبسبب ذلك، يفضل هؤلاء الساعون للسيادة والتفرد أن يعزلوا أنفسهم في عالم خاص بهم، الذي هو غالباً العالم الافتراضي الموازي لعالم الواقع. وبالتأكيد، ساهم اتساع هذا العالم الافتراضي – وسهولة الاتصال بالآخرين القابعين في هذا العالم – في ميل الأفراد الذين لطالما سعوا للتمييز في الحياة الطبيعية أن يرجحوا كفة الانتماء للعالم الافتراضي، وذلك بالانغماس الكلي تقريباً في شبكاته.
والغريب، أننا نجد مثلاً على شبكات التواصل الاجتماعي بعض الأفراد الذين لا تأثير لهم، أو بعيداً عن التفرد على أرض الواقع، لكنهم على شبكات العالم الافتراضي لهم مستمعون ومريدون لا حصر لهم. وبناء على ذلك، استشرت حالات التشرذم في الحياة الواقعية، وتهدمت جسور التواصل بين الأفراد، إلى أن أصبح الشذوذ عن الأغلبية أمر معتاد، بما في ذلك الشذوذ عن الأغلبية المتفردة. فلقد فضل هذا الجيل التشرذم، وعدم الانتماء ولو حتى لمفهوم واحد متعارف عليه؛ حيث أن كل فرد يسعى في جو شديد الأنانية نابع من أمية ثقافية طاحنة أن يصير متميزاً بدون تحديد هويته أو جماعته التي يسعى للانتماء لها، وبدون أن يعي أنه حتى هذا التميز له عدة شروط يجب الامتثال لها. وعلى هذا يجب الأخذ في الاعتبار أن مفهوم «على وشك أن يصير أقلية» قد تم تفريغه مؤخراً من محتواه ليعني فقط «على وشك أن يصير منعزلاً». وأشدد على كل من يسعى للتفرد «كن أقلية، لكن إياك والتشرذم».
٭ أكاديمية مصرية
ما يعجبني كقاريء بكتاباتك يادكتورة أنك تختارين ( قضايا ) وليس هوامش موضوعات…نعم النزوع نحوالأقليّة من سمات القرن الحادي والعشرين؛ وهونزوع نحوالتطرّف الفرديّ قبل التمييزكدافع.وأرجّح أنه يلتقي مع حركات الهيبييز المتمردة على قيم النمط الرأسماليّ الاحتكاريّ في الغرب ؛ والتي ظهرت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.وتعلمين حضرتك أنّ أصل هذه الحركات السعي نحوالتمييزكدافع ضد التهميش وانطلقت من نواتها (Beat Generation ) الثقافيّة ؛ حينما صدح رائدها إروين ألن غينس بيرغ بقصيدته ( عواء ).وغينس بيرغ الأمريكيّ الجنسيّة ؛ لقيط من أم يهوديّة ؛ واليوم النزوع نحوالأقليّة يتواكب مع عالم الفيسبوك والعجيب أنّ مؤسسه يهوديّ أمريكيّ كذلك هو ( ماك زكريا بيرغ ).لا أريد القول بنظريّة المؤامرة بل هي نزعة الأقليّة بين ( بيرغين ) ؟نجدها في اليهود قبل غيرهم حتى لو لم يقولوها علانية ؛ لذلك يسعون لتعميمها بالانعزال والتشرذم بصيغ الانفتاح والتواصل.
ما أثار إعجابي حقاً في هذا المقال دكتورة نعيمة هو أنك وضعت يدك على مشكلة جوهرية وحساسة وهي مشكلة تشرذم الشباب سواء في الأفكار أو الاتجاهات وأنك تلمسين في مقالاتك واقع كلنا نعيشه يوضح أن الخواء الروحي للشباب وعدم قدرتهم على تحديد هدف واضح لهم او تحديد ملامح مستقبلهم يجعلهم متخبطين وغير قادرين على تحديد هويتهم. فهم يسعون للتميز دون أن يكونوا مميزين في أي شئ. أشكرك على مقالك الممتع.
ظاهره التشرزم دكتوره قديمه منذ الازل واعرف شخصيات قريبه مني جدا يحاولون اظهار انفسهم رغم علمهم بانهم اقليه ويحاولون الوصول للقلوب من هنا اشكر حضرتك على هذا المقال الرائع والمنسوب لسيده واعيه ذكيه تعرف كيف تكتب وكيف تعبر شرف لي ان اكون متابع لحضرتك