سيارتي وطني

حجم الخط
0

السيارة في البلاد التي تنتجها وسيلة نقل سريعة لا وسيلة تعريف إجتماعية. في بلاد الإنتاج ينتجون السلع النافعة لمجتمعاتهم ومواطنيهم. ويتعاطون معها بصفتها الوظيفية تلك لا بأي صفة أخرى. والسلعة بهذا المعنى منخرطة عامة في نسق كامل لا تشذ عنه ولا يمكنها أن تقوده الى التفكيك أو الإنفجار. نقول عامة لأن للظاهرة هوامش تتيح للقلة التعاطي معها كمنتج غير وظيفي، للهواة الأثرياء وهواة جمع السلع النادرة. غير أن الهامش هذا يندر أن يحتل المتن وتبقى السلعة وظيفية تفيد الناس في مكان ما.
هناك إذن نوع من الإنسجام بين الآلة الإقتصادية المنتجة وما تنتجه وبين مختلف أوجه الحياة العامة. فلا الناس كمستهلكين يرون في ماكينتهم الإنتاجية الضخمة عبئاً أو لزوم ما لا يلزم بل ضرورة لتطوير حياتهم والإستفادة من ابتكاراتها، ولا الماكينة نفسها ترى في الناس وسيلة للترويج والشراء والربح بدون تلبية حاجة معينة لديهم. اضف أن المستهلك هنا قد يكون هو أيضاً الشريك في انتاج هذه السلعه لا في استهلاكها وحسب. الى هنا تبدو الأمور منسجمة الى أبعد الحدود. الخلاف يبدأ بعد ذلك. حول ثمار التطور وسرعته وإيقاعه وحول آثاره وعواقبه على الطبيعة والبيئة والصحة والموارد الطبيعية. في البلاد المنتجة يختلف الناس لا على انسجام السلع مع حاجاتهم وطبيعة حياتهم بل على صورة المجتمع التي يتمنونها.
ما يهمنا من هذه المقدمة وبعد معاينة طويلة لسلوك الناس في بلادنا هو معرفة كيفية تعاطي المستهلك الخارجي لسلع ومبتكرات العالم الصناعي. يهمنا التوقف عند رؤية المستهلك في بلد غير منتج وغير صناعي لسلعة لم يشارك حتماً في صنعها ولم تكن يوماً جزءاً متمماً لنسق حياته الإقتصادية. بل بالعكس هي سلعة كلما اقتناها كلما ساهم في إغناء الغير وفي إفقار بلاده من حيث المبدأ. وكلما أستعملها كلما ساهم في خلق فرص عمل في البلد المصنّع وكلما قتل فرصة عمل موازية لها في بلاده.
علاقة المستهلك في بلد ‘متخلف’ إقتصادياً مع سلع الدول المصنّعة هي إذا ومن حيث المبدأ غير إقتصادية أي غير عقلانية. فهي لا تاتي في نهاية مسار إنتاجي محلي متكامل الحلقات كما في دول الصنع، بل في بداية مسار إقتصادي آخر، تجاري، بين المصنّع والمستهلك. السلعة هناك قد تكون سلعة وسيطة كما يقال أي سلعة تنتج سلعاً أخرى إذا ما دخلت في عملية تحويل صناعي جديدة. بينما السلعة هنا نهائية أو هالكة، اي غير منتجة.
وعليه فإن صورة السلعة عند المســــتهلك المــــحلي في بــــلادنا لا يمكن أن تكون ذاتها عند المستهلك ‘ الصناعي’ إذا جاز القول. فهي عــندما تفقد جانبها الوظيفي الرئيس في إعــــادة إنتاج مجتمعها لا يبقى فيها غير جانبها الوظيفي الثانوي الخاص بها.
فالسيارة مثلا تبقى وسيلة للنقل والتلفون وسيلة للإتصال. لكن الملاحظة عن قرب لسلوك المستهلك في بلادنا مع السيارة مثلا تفيد بوجهة مخالفة تقريباً. فالناس لا تقتني السيارة بوصفها وسيلة تقلهم من مكان لآخر بشروط جديدة تخفف عنهم عناء التنقل الحيواني وبطئه بل بوصفها ربما آداة ترقّي إجتماعي وصورة تعكس المكانة الإجتماعية لصاحبها.
التعاطي الغربي الصناعي مع السيارة تحكمه العقلانية. فالمستهلك يقتني ما يفيده منها لا ما يتكلم عنه، قد تكون سيارته صغيرة وغير باهظة الثمن لسهولة الانتقال بها خلال أزمات السير ولسهولة ركنها ومصروفها المتواضع. يختارها إنطلاقا من حاجاته لا من حاجاتها هي. بينما يمكن أي منا أن ينظر الآن من نافذة مكتبه المطلة على الشارع لكي يلحظ بأم العين عدد السيارات الرباعية الدفع التي صنعت بالأصل خصيصاً لكي تستعمل خارج المدن. وحده هذا المثل-الإختيار كاف لتبيان العلاقة غير العقلانية التي تحكم المستهلك في بلادنا مع السلعة المصنّعة.
ففي هذا الخيار عندنا ما يتناقض مع الحاجة التقنية ومع أزمة السير ومع الإنفاق والتبذير ومع المرآب ومع الحاجة الموضوعية ككل. ولا تتوقف العلاقة غير العقلانية مع السيارة عند هذا الحد. هناك نوع من إستيطان لها من قبل صاحبها. يسكن المستهلك عندنا سيارته ف’ينيّمها’ بأقرب مكان ممكن للبيت حتى لا تفارقها عيناه. لا يركنها بعيداً إذا ما قرر التوقف عند تاجر ما بل مباشرة أمام الباب ولو اضطر إلى قطع السير عن بقية السائقين والسيارات ولمدة طويلة. وهو لا ينساق الى قانون للسير يحكم علاقة السائقين ببعضهم بل الى قانون إجتماعي يعطي الأولوية لا لليمين بل للسيارة ونوعها ولون زجاجها وراكبها ‘المعروف’.
علاقة السائق في بلادنا بنظام السير الكود- الذي يسهّل على الناس عادة علاقتهم فيما بينهم في هذا المجال ويحدّ من الحوادث الممكنة، علاقة تلقائية يحكمها مزاج السائق وصورته الإجتماعية عن نفسه وعن عائلته او عشيرته أو طائفته. فهو يخرج من الصف للتجاوز فقط عندما يقرر هو ذلك ومن دون استعمال الإشارة التي تعذّب المهندس في الدول الصناعية لكي يخصصها لذلك. الأولوية على المفارق للأقوى أو من يظن أنه الأقوى. ففي غياب علاقة عقلانية مع هذه الوسيلة الصناعية لا يبقى لديه كمرجعية تاريخية إلا وسيلة النقل السابقة، الحيوان. فيستعمل كوداتها.
في إعلان معبِر جداً عن هذه الحالة ومن أجل الترويج لسيارتها في الغرب تقوم إحدى شركات السيارات بتصوير إبن أمير عربي قرب سيارته الصغيرة يحاول إقناع والده عبثاً بأهمية السيارة التي استوردها ب’أوصافها الكاملة’ فيما الأمير الوالد يجدها ‘صغيرة’ عليه. عبر السخرية مررت الشركة رسالتها الترويجية بأن السيارة الصغيرة مفيدة للمستهلك الصناعي فقط لا غير.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية