كانت رواندا أول بلد إفريقي فرنكوفوني تتخذ نخبته الحاكمة قرارا بالاستغناء عن الفرنسية في المعاملات الرسمية وقطاعات التجارة والتعليم والإعلام. فقد ارتأى الحكام الجدد بقيادة بول كاغامي أن تلك هي إحدى أهم وسائل الانتقام من فرنسا التي تخاذلت عن نصرة أهالي التوتسي عندما كانوا عرضة للمذابح المروّعة أثناء الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد عام 1994. وكان هذا الخيار مندرجا في سياق توجهات جديدة تركز على الانفتاح الاقتصادي على العالم واجتذاب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع الشباب الرواندي على الأخذ بأسباب التجديد التكنولوجي والاندماج في حركة السوق العالمية. وهذه كلها مجالات تسودها اللغة الإنكليزية. ولا شك أن رواندا هي من أنجح الدول الإفريقية أداء اقتصاديا طيلة العقدين الماضيين، حيث إنها صارت قطب جذب لشركات التكنولوجيا الفائقة. ولكن هل يجوز إرجاع هذا النجاح الاقتصادي النسبي إلى قرار الأخذ بالإنكليزية؟ وهل يمكن الزعم بأن رواندا ما كانت لتحقق هذا النجاح لو أنها تمسكت بالفرنسية أو أخذت بخيار التنوع، أي استخدام كلتا اللغتين حسبما تقتضيه المصلحة؟ فها هي الكاميرون منقسمة منذ زمن بعيد بين منطقة تأخذ بالفرنسية لغة رسمية وأخرى بالإنكليزية، فهل المنطقة الإنكليزية أفضل حالا من الفرنسية؟ وها هما ليبيريا وسيراليون تستخدمان الإنكليزية، فهل هما أفضل حالا من جارتيهما الفرنكوفونيتين السنغال وساحل العاج؟
صحيح أن الملاحظ منذ أوائل القرن أن الأوضاع الاقتصادية تتجه نحو التحسن النسبي في عدد من بلدان إفريقيا الأنغلوفونية رغم إزمان الهشاشة الاقتصادية في معظم البلدان الفرنكوفونية، وبقاء كثير من مناطقها نهبا لثالوث القحط والجوع والإرهاب. وقد أثبتت أحداث العامين الماضيين أن الأوضاع السياسية في عموم البلدان الفرنكوفونية بائسة، بدليل تواتر الانقلابات العسكرية في غينيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر. ولكن هل هذا الاختلاف في الأحوال هو نتيجة الاختلاف اللغوي، مثلما تجزم الأحكام التعميمية المتسرعة؟ وهل أن البلدان الأنغلوفونية أفضل حالا، نسبيا، من البلدان الفرنكوفونية لمجرد أنها تستخدم الإنكليزية؟
اتخذت الحكومات المغربية في السنوات الماضية قرارات بالتعريب النسبي للتعليم، وبعدها قرارات بالعودة إلى التعليم بالفرنسية خصوصا في المواد العلمية، ثم قرارات بتعزيز التعليم بالإنكليزية مع الإبقاء على الفرنسية
حتى الآن لا تزال هذه التساؤلات وأمثالها غير مطروحة للحوار الوطني في دول المغرب العربي، ولهذا فإن التخبط لا يزال هو السمة الغالبة على سياساتها اللغوية. حيث اتخذت الحكومات المغربية في السنوات الماضية قرارات بالتعريب النسبي للتعليم، وبعدها قرارات بالعودة إلى التعليم بالفرنسية خصوصا في المواد العلمية، ثم قرارات بتعزيز التعليم بالإنكليزية مع الإبقاء على الفرنسية. وها إن أحدث ما أعلن في هذا الشأن في الجزائر هو قرار توسيع نطاق تعليم الإنكليزية في المدارس الابتدائية.
صحيح أن مجال هذا «التوسيع» محدود، إذ لا يتجاوز كل أسبوع حصتين مدة كل منهما 45 دقيقة. وليست الدقائق التسعون الأسبوعية هذه بالمدة التي يُعْتدُّ بها في تعلّم اللغات. فالمعروف أن مفردات اللغة وقواعدها لا ترسخ في ذهن الطفل ولا تنمو ملكة اكتسابه لمواردها التعبيرية إلا إذا كان يتعلمها بمعدل ساعتين في اليوم.
ولكن إعلان وزير التربية الجزائري أن «تعليم اللغة الإنكليزية هو خيار استراتيجي في سياسة التعليم الجديدة للبلاد» مقترنا مع قانون التضييق على المدارس الخاصة ذات البرامج التعليمية الفرنسية أساسا، إنما يشير إلى أن هذا الخيار اللغوي الجديد ليس وليد توجهات تربوية خالصة، بل هو أيضا عنصر في سياسات المناكفات مع فرنسا، أي أنه ليس ترجمة لسياسة لغوية بقدر ما هو عرض لمرض السياسات الكيدية المتبادلة بين نظامي الحكم في الجزائر وفرنسا. وقد كانت تونس سباقة إلى الوقوع الطوعي في فخ التخبط اللغوي هذا. ولكن شهادات أهل الذكر تثبت أن تعليم الإنكليزية لم يحقق أي نجاح حقيقي.
صحيح أن الفرنسية تكاد تضمحل في تونس، ولكن هذا لا يعني أن الأجيال الناشئة صارت متمكنة من الإنكليزية. بل الواقع أن شباب اليوم لا يتقنون أي لغة، ولا حتى العامية! أي نعم! ولنفترض جدلا أنهم صاروا يتقنون الإنكليزية، فأين إذن هو التقدم الاقتصادي والتكنولوجي المنشود؟ وهل يجرؤ المتحمسون لسياسات التخبط اللغوي هذه على الزعم بأن جيل الأبناء، الذي ينطق فلا يكاد يُبِينُ بأي لغة كانت، هو أمتن تكوينا وأقوم بيانا من أجيال الآباء الذين كانوا نموذجا لفضائل الازدواج اللساني العربي – الفرنسي؟ وهل كان هذا الازدواج الحميد ليتأتّى لولا ذُخْرُه من الخبرة التاريخية والعشرة الثقافية الحميمة؟
كاتب تونسي