أقر الدارسون بأهمية مفهوم النوع الأدبي وضرورته في تنظيم حقل الأدب؛ فهو يفيدنا في تصنيف الأعمال الأدبية، وإعادة تجميعها في مختلف مقولاتها تبعًا لمعايير مُحددة، وهو ما عملت على بلورته نظرية الأنواع الأدبية منذ بدايات القرن العشرين.
من الهوية إلى اللاتحديد
وإذا كانت الثوابت هي التي تُحدد هُوية النوع بعد أن تكون قد استقرت عبر فترة طويلة، فإن النوع نفسه يمتلك حقلًا غنيا من الإمكانات المتنوعة والمتغيرة، وحتى المتعارضة، وهو ما يساهم في عملية خلق البنية وتنويعاتها واتساعها، إلى الحد الذي يجعله في غير مأمن من الاختراقات التي تحدث من حين لآخر. فالنص – بحسب عبد الفتاح كيليطو- وإن لم يحترم العناصر الثانوية «فإن انتماءه إلى النوع لا يتضرر. أما إذا لم يحترم العناصر الأساسية «المسيطرة» فإنه يخرج من دائرة النوع، ويندرج تحت نوع آخر، أو في الحالات القصوى، يخلق نوعًا جديدًا».
هكذا تنشأ أنواعية النص بالأحرى من الدينامية التي تنبني بين سمات النوع التي يدل عليها المؤلف- جماع القيود الشكلية، الثيمات، الصيغ والموتيفات، مثلما الوظائف التي تناط بها – وسيرورة تعرف هذه السمات التي ينخرط فيها القارئ (جريان، تصنيف، قراءة، إعادة تأويل). وتحت تأثير موجة الحداثة التي عرفتها الآداب الأوروبية، وصعود مفاهيم النص والكتابة، باتت الممارسة الأدبية تتخذ اختيارات كتابية، أحدثت خروقات لا يستهان بها لنقاء النوع الأدبي واستقلاليته، تحت مسمى التناص بما هو خاصية أيما نص كان، بقدر ما استتبعت تحطيمًا جذريا، للترسيمات الفاصلة بين هذا النوع وذاك، وبين شكل تعبيري وآخر، وهو ما أعاد النظر في مقولات الأنواع الأدبية وتراتُبيتها المعهودة. من الحلم الرمزي بـ«الكتاب الكُلي» و«تراسل الحواس» الذي انطلق مع حلم الرومانسيين لتجاوز الأنواع، إلى رفض الأنواع الذي ميز قطاعًا مُهما من الأدب الحديث، كما تجلى أساسًا في أعمال موريس بلانشو ورولان بارت وفيليب سولرس وجوليا كريستيفا، خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، فيما هم يُلحون على المعنى الجديد الذي ينبغي أن يُمنح لمفاهيم مثل النص والكتابة والبوليفونية، وذلك من أجل رد الاعتبار للحداثة من جهة، ورفض التراتبية والقيود الأنواعية المعتبرة كعوائق أمام الإبداع، من جهة أخرى.
بخصوص هذه التراتبية الأنواعية التي ناقشها النقد الأدبي في الغرب، يتحدث جاك دريدا عن سياسة النوع وما تثيره من تقسيم بين المعيار والانزياح، في علاقته بالمعيار، بين الاستعمال والفوضى، بين الشكل الخالص والنسخة الـمُعدلة.
بخصوص هذه التراتبية الأنواعية التي ناقشها النقد الأدبي في الغرب، يتحدث جاك دريدا عن سياسة النوع وما تثيره من تقسيم بين المعيار والانزياح، في علاقته بالمعيار، بين الاستعمال والفوضى، بين الشكل الخالص والنسخة الـمُعدلة. فهو يُظهر، في مقالته «قانون النوع» كيف أن هذا القانون يفترض أنه «يجب عدم خلط الأنواع» ويؤكد أنه «بمجرد ما تُسْمع كلمة «نوع» أو تظهر، أو نحاول التفكير فيها، يرتسم الحد، هكذا بمجرد ما يعلن النوع عن نفسه، يجب احترام المعيار، يجب عدم اجتياز الخط المتاخم، يجب عدم المخاطرة باللانقاء، بالشذوذ أو المسخ». لقد انشغلت نظرية الأنواع في الغرب، تقليديا، بإقامة الحدود وخطوط الترسيم الصارمة، والحفاظ على النقاء الأنواعي المثالي، حتى لو اتضح أن شيئًا كهذا مستحيلٌ عمليا، لأن قانون النوع كما لاحظ دريدا يقوم على «ضد القانون».
كانت هذه النظرية، في حقيقة الأمر، تتعالى على واقع الأدب، ونشاط ممارساته النصية، فكان كل همها هو التصنيف وتجريد المقولات. ولهذا، فإن أهم الأجوبة التي قدمتها عن النوع الأدبي يتردد بين أن يكون معيارًا، أو جوهرًا مثاليا، أو قالبًا للقدرة، أو مجرد مصطلح تصنيفي لا تقابله أي إنتاجية نصية خاصة به، حتى وضعت نفسها في إطار «نظام مغلق» كما يرى جان ماري شيفر. في مقابل ذلك، يجري الحديث من داخل واقع الممارسات النصية عن «انحراف» «انعدام تحديد أنواعي» وعن كون الأنواع صارت «مركبة» أو داخلها التهجين، بل عن «انفجار الأنواع». ولذلك، بات من الصعب حصر الجهود التي بُذلت لتجديد التأمل والنظر في الأنواع الأدبية، بله اقتراح أسس «براديغم» نظري جديد حولها إلى حد تعميق إشكالياتها الراهنة.
«اختراق» النوع السيرذاتي
بخصوص النوع السيرذاتي، فإننا نجد مجموعة من المنظرين من أمثال: جورج غوسدورف، وجان ستاروبنسكي، وفيليب لوجون، وإليزابيث بروس وغيرهم، قد عملوا على تحديد معالم السيرة الذاتية على نحو دقيق وصارم، في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي هذا السياق، شكل التعريف الذي أعطاه فيليب لوجون للسيرة الذاتية في كتابه ذائع الصيت «ميثاق السيرة الذاتية» (1975)
مرحلة تدشين داخل نظرية النوع، وسمح بتسليط الضوء على مختلف السمات المخصوصة، التي تُميز السيرة الذاتية عن باقي أشكال الأدب باستعمال ضمير المتكلم، حيث قدم «الوصف النظري للنوع وللأشكال التي يستعملها». ويستشكل ذلك التعريف ثلاث مقولات أساسية: شكل اللغة من خلال الحكي نَثْرًا، والموضوع الذي يتناول الحياة الفردية وتاريخ الشخصية، ثُم وضعية المؤلف التي تتمثل في تطابق المؤلف والسارد والشخصية، عدا المنظور الاسترجاعي للحكي.
فالعمل لا يكون ـ في نظره – سيرةً ذاتيةً إلا عندما يكون ثمة تطابقٌ بين المؤلف والسارد والشخصية، وهو ما يُسميه بـ(الميثاق السيرذاتي) الذي يميز نوع السيرة الذاتية عن غيره. كما أنها نص مرجعي، هدفها ليس «أثر الواقعي» كما في الرواية، بل الحقيقة؛ فهي تُقدم معلوماتٍ يمكن أن تخضع لاختبار صدقيتها. وهذا «الميثاق المرجعي» بتعبير لوجون نفسه، هو عمومًا يقع ضمن الميثاق السيرذاتي. وقد صار بوسع كتابة السيرة الذاتية ـ رغم تشنيع الأيديولوجيا المضادة بها – أن تتملك الطرائق التي وردت عليها من الأنواع الأدبية الأخرى فتهضمها تدريجيا، وعبر هذه السيرورة استطاع النوع أن يتقوى ليصبح اليوم نوعًا مهيمنًا. وقد تحدث جاك لوكارم عما سماه «انفجار» النصوص السيرذاتية طوال العقود الأربعة الأخيرة، وهو ما ترتب عليه تطور النوع، رافقه توجهٌ عام نحو استعمال ضمير المتكلم ونحو السيرة الذاتية. وسوف تغدو هذه الكتابة الوسيلة المثلى من أجل الإجابة عن «أزمة الذات» المعاصرة من جهة، ومن أجل تحليل الصعوبات التي تواجه الذات للتعبير عن نفسها في اللغة من جهة أخرى. فمن نموذج عن الذات إلى آخر داخل أشكال الكتابة الذاتية، يبرز «الانهمام بالذات» بله اعتبار «الذات كتخييل». فما يبقى سوى تخييلات الذات القائمة على التاريخ الشخصي بوصفها وسيلةً «لإدراك العالم»؛ التعبير الذي يمكن تأويله بـ«تنظيم الحياة» إلى أن «يُعثر على المعنى فيها» بتعبير مارغريت دوراس، كما يمكن أن يترتب عليه مشكلات نوعية تخص بناء الكتابة وطابعها التداولي، بل إن هذه المشكلات تحولتْ إلى «ساحة معركة» تتلاقى فيها عدة موضوعات أساسية للنقاش النظري الأدبي، اعتبارًا لأمور ذات اعتبار؛ إما لكون النوع السيرذاتي يمفصل العالم والأنا والنص، أو هو على تماس مع التاريخ والسلطة والذات والتمثيل والإحالة، فضلًا عن اللغة التي يُكتب بها. وإذن، بسبب تنوع الاهتمام بالسيرة الذاتية وانفجار نصوصها الكتابية جعل من الصعب تعريفها وضبط حدودها بقدر ما ألقى الضوء على جوانبها المعقدة. فمعظم المقاربات التي أتت بعد التعريف اللوجوني الشهير، قد نأت بنفسها عن أي تعريف تعميمي للكتابة السيرذاتية، لأن مثل هذا التعريف منذورٌ للفشل، إذ ليس بوسعه أن يأخذ بأشكال التفرد والأصالة والسياقات المختلفة (الاجتماعية، التاريخية، الثقافية، السياسية والإثنية) التي تكمن خلف إنتاج كل حكي ذي طابع سيرذاتي.
وإذا كان بعض هذه المقاربات لا يخرج عن التصور المتعارف عليه بخصوص نوع السيرة الذاتية؛ باعتبار أن الأنا الذي يحكي عن حياته في النص، إنما يوجد في انسجامه ووحدته، قبل أن يُعبر عن نفسه داخل اللغة، وأن الإمكانات المرجعية لا يطالها الشك واللغة يمكن أن تُمثل الأنا ووجوده، فيما السرد يتبع عادةً النظام الكرونولوجي للحياة المروية. فإنه، في المقابل، مقاربات ذات منحى ما بعد بنيوي- حداثي، تعتبر الذات مُتشظيةً ومنشطرةً، والإحالة على الواقع الخارج – نصي وَهْمًا، فيما تفقد اللغة وضعها كوسيطٍ شفافٍ إذ تدخل في لعب لا يتوقف من الكلمات التي تحيل، مثل المرايا، على بعضها بعضا، بدلًا من أن تسجن نفسها في دلالة وحيدة وقطعية. ومثل هذا التصور الذي تزعمه مُفكرو التفكيك وما بعد البنيوية، ومُنظرو التحليل النفسي: من أمثال جاك دريدا ورولان بارت وجاك لاكان وبول دي مان، له تبعات خطرة تهدد وجود مفهوم السيرة الذاتية بحد ذاته؛ فإذا كانت الإحالة وَهْمًا، فلن تكون السيرة الذاتية أكثر من شَكْلٍ تخييلي، أو عملٍ مُتخيل لا يمكنه البتة أن يُطلعنا على مؤلفها وهُويته، طالما أن «الذات غير ثابتة ومنشطرة». والأخطر في هذا التصور أنه يعترض على مفهوم الحقيقة، فيما هو يثبت أهمية دور اللغة والخطاب في بناء الذاتية. إن فكرة انسجام الأنا ووحدته ليس ـ بحسبه – سوى وَهْـم. من هنا، فإن الأنا النصي ليس لها علاقة مع أنا المؤلف. ومن ثمة، فإن «إشكالية التطابق هي، في المقام الأول، لسانية ونصية. ويقوم الفهم النظري على استحالة المطابقة الكُلية، عبر اللغة، بين «أنا» ذات التلفظ و«أنا» ذات الملفوظ، بسبب الصدع الفضائي- الزماني والحدود اللغوية». فالنص السيرذاتي يعرض الحياة ويبني الأنا، وهما معًا يتطوران ولا يتشكلان إلا عبر فعل الكتابة، من أجل تحقيق كيان نهائي وتام لم يكن موجودًا في البداية. فالأنا ينبثق من هذا النص- الأنا الذي لم يكن واقعًا في البداية- يكشف في آخر المطاف عن كونه بناءً نصيًا، لا علاقة له مع مؤلف النص. وبالنتيجة، تصير كل كتابة للذات تخييلًا، مثلما أن كل كتابة للحياة تصير تخييلًا، ولا يبقى في المحصلة النهائية سوى الشخصيات على الصفحة ويمكن بدورها أن تُفكك.
في السرد الشعري الذي يستعير من القصيدة وسائل فعلها وتأثيراتها، يحدث تطورٌ يمس أطر المحكي، بقدر ما يبلبل مفاهيم الشكل التعبيري الخاص بها.
تداخل الشعري والنثري
حققت سرود الشعراء التي أكثر من غيرها خاصية التخلل الأنواعي، قياسًا إلى ما شهدته نظرية الأنواع الأدبية، في الآونة الأخيرة، من اختراقٍ مفاهيمي ومرجعي لم تعد معه قادرةً على الفصل بين نوع أدبي وآخر في كثير من الحالات، كما «لم تعد البرهنة على الفوارق بين الشعري والنثري واضحة»؛ وهذا ما عبر عنه رومان ياكبسون بقوله ذائع الصيت: «ما الشعر؟ ينبغي لنا إذا أردنا تحديد هذا المفهوم أن نعارضه بما ليس شعرًا، إلا أن تعيين ما ليس شعرًا ليس، اليوم، بالأمر السهل». ففي ظل التداخل بين ما هو شعري وما هو نثري أو سردي، تتحول البنيات، سرديةً كانت أم شعريةً، إلى مجالٍ مفتوحٍ ومرنٍ لاستيعاب التنوع أو الحوار الأنواعي على صعد اللغة والبناء ومتخيل الكتابة، ومن ثم «لم يعد ممكنًا الحديث عن الرواية باعتبارها نثرًا فحسب، بعد أن اختلط الشعر بالنثر، والتاريخ بالكتابة». لقد أضحت السمات المهيمنة التي تعبر من نوع معين إلى نوع آخر سمات مشتركة تنتمي إلى الأدبية، أكثر منها إلى الشعر وحده أو إلى النثر وحده. فكما يمكن الحديث عن عبور تقنيات السرد إلى الشعر أو نصوص قصيدة النثر تحديدًا، يجري الحديث – بموازاة مع ذلك – عن اختراق الشعر لعدد من الأنواع السردية التخييلة وغير التخييلية، بما فيها السيرة الذاتية، فيحدث نتيجة ذلك عنصر الهجنة الذي يُولد سرودًا جديدة أو يصعب تصنيفها مثل الرواية الشعرية، أو المحكي الشعري، أو الكتابة عبر النوعية بتعبير إدوار الخراط الذي أولى اهتمامًا ذا اعتبار للسرود ذات الحمولة الشعرية، ووجد في لجوئها إلى الشعر واعتمادها عليه بمثابة «الخلاص من الرثاثة والابتذال والمهانة التي يتميز بها الواقع المحيط بنا» على حد تعبير إدوار الخراط.
في السرد الشعري الذي يستعير من القصيدة وسائل فعلها وتأثيراتها، يحدث تطورٌ يمس أطر المحكي، بقدر ما يبلبل مفاهيم الشكل التعبيري الخاص بها. وكذلك في السيرة الذاتية الجديدة التي تتناول بالسرد، شأن الرواية أو القصة، حدثًا ما مضى من حياة المؤلف، لكن الـمُعول عليه فيها ليس استعادة ماضي الأحداث وتذكرها وحسب، بل الكيفية «المُشَعْرنة» التي تروى بها هذه الأحداث من جهة، وطريقة النظر إليها استدعاءً وتخييلًا، وما تفصح عنه في تسريدها للذات وللعالم من جهة ثانية. وإذا مثلْنا بالسير الذاتية التي كتبها الشعراء (سليم بركات، جبرا إبراهيم جبرا، محمد عفيفي مطر، عبد المنعم رمضان..) وجنسوا محكياتهم تحتها، وهي قليلة بالقياس إلى عشرات السير الأخرى التي ألفها مؤلفون من زوايا ومشارب وأفهام أخرى مختلفة، فهي تُعبر عن روح جديدة في كتابتها، وعن كيفياتٍ مخصوصة في بنائها وتخييلها، ويتجلى فيها الشعر بأناه الغنائي والمجازي حاضِرًا فيها بكثافته ليس على مستوى الكون الاستعاري والتخييلي لهذه السير، بل كذلك على مستوى تشييدها فنيًا. لقد أثارت مثل هذه السير، مُجددًا، مسألة الشعر المقيم في قلب الظاهرة السردية.
كاتب مغربي