تسيطر المخاوف على المستهلكين والمستثمرين في بريطانيا من خطورة السياسة الاقتصادية للحكومة الجديدة على مستوى المعيشة والقوة الشرائية للدخول، واستقرار الإسترليني، واحتفالات النمو، واستقرار سوق العقارات وغيرها منذ أعلن وزير الخزانة الجديد كوازي كوارتينغ «الميزانية المصغرة» في 23 من الشهر الماضي. الميزانية تضمنت قفزة هائلة في الإنفاق، وتخفيضات كبيرة في الضرائب بدون موارد واضحة للتمويل. الجنيه الإسترليني تعرض لهبوط حاد في السوق وخسر ما يقرب من 6 في المئة من قيمته، كما ارتفعت أسعار الفائدة على القروض العقارية إلى أعلى مستوى منذ عام 2008. وتقدر دراسة لحزب العمال أن ذلك سيؤدي لإحباط سوق العقارات، وزيادة تكلفة التمويل الجديد بنحو 500 جنيه في المتوسط شهريا على أقساط سداد القروض العقارية المستحقة على ملاك العقارات. بنك انكلترا تدخل فورا لوضع حد لتدهور الجنيه، في خطوة برهنت على انعدام الثقة في سياسة الحكومة، التي ردت بتوجيه اتهامات غير مباشرة إلى بنك انكلترا، وحملته مسؤولية رفع سعر الفائدة والنتائج المترتبة على ذلك. البنك من ناحيته دخل في اشتباك غير مسبوق مع الحكومة، وأرسل السير جون كانليف نائب محافظ البنك للاستقرار المالي خطابا طويلا إلى النائب ميل ستراند (حزب المحافظين) رئيس لجنة الشؤون المالية في مجلس العموم، يلقي فيه باللوم على الحكومة في إضعاف قيمة الإسترليني، وتهديد استثمارات صناديق المعاشات، وهو ما اضطر البنك إلى التدخل في السوق بشراء كمية كبيرة من السندات الحكومية، حتى لا تتعرض موارد صناديق المعاشات للانهيار، وتعهد البنك المركزي بأن يستمر تدخله في السوق يوميا حتى 14 من الشهر الحالي. الحكومة تواجه أيضا صعوبات شديدة في توفير التمويل اللازم لرفع المعاشات والإعانات الاجتماعية في ميزانية السنة المالية المقبلة، في الوقت الذي تتسع فيه موجة إضرابات شملت عمال السكك الحديد والبريد ومراكز الاتصال لمرفق الإسعاف. بينما دعت جمعية التمريض أعضاءها إلى إضراب للمطالبة برفع الأجور بنسبة 5 في المئة فوق معدل التضخم المعلن، وبدأت بالفعل في إرسال خطابات التصويت على الإضراب لما يقرب من 300 ألف من الأعضاء. وإضافة إلى متاعب الحكومة فإن الهيئة التنظيمية لقطاع الطاقة حذرت من أن بريطانيا، التي لا تستورد أكثر من 5 في المئة من احتياجاتها من الغاز من روسيا، قد تتعرض لانقطاعات في إمدادات الكهرباء في شتاء العام الحالي، وهو ما يهدد قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات، إذا لم يتم ضمان وصول الإمدادات الكافية إلى شركات توليد الكهرباء.
بريطانيا، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي منذ عامين، ما تزال تبحث عن هوية اقتصادية، وتواجه حكومتها الجديدة بزعامة ليز تراس اختبارا للثقة أمام الناخبين، الذين من المرجح، إذا استمرت الأمور على حالها، أن يطيحوا بحكم المحافظين في الانتخابات المقبلة. وقد اضطرت الحكومة للتراجع عن إلغاء ضريبة الحد الأقصى للدخل، بعد أن فشلت في الدفاع عنها. ليز تراس تبدو غارقة في مستنقع قد لا تستطيع الخروج منه في الـ 18 شهرا المتبقية على موعد الانتخابات العامة المقبلة، وقد لا يمهلها حزبها نفسه البقاء حتى ذلك الموعد. كثير من قيادات المحافظين فضل عدم الظهور في المؤتمر السنوي للحزب الذي انتهى يوم الأربعاء الماضي، حتى من باب المجاملة والتضامن مع رئيسة الوزراء الجديدة. أحدث استطلاعات الرأي العام يشير إلى تقدم حزب العمال بمقدار 25 نقطة مئوية، في حين أن أغلبية الناخبين تصف تراس بأنها «عديمة الفائدة» و«غير كفوءة» و «غير جديرة بالثقة». هذه صفات ثلاث تنزع الثقة عن أي رئيس للوزراء، خصوصا وأن أصواتا قوية من داخل الحزب مثل نادين دوريس وزيرة الثقافة السابقة تطالب الحكومة ضرورة الالتزام بالبرنامج الانتخابي الذي فاز به المحافظون في الانتخابات أو الدعوة لانتخابات مبكرة.
ولم تستطع ليز تراس منذ توليها رئاسة الحكومة أن تقدم لحزبها أو لجمهور الناخبين، ما يصلح لبناء الثقة، في الوقت الذي تمر فيه بريطانيا والعالم بعاصفة من الاضطرابات، تحتاج إلى نوع متمرس من القيادات، يملك القدرة على الأبحار بأمان في بحور هائجة. تراس تتبع سياسة اقتصادية وصفها الخبير الاقتصادي العالمي محمد العريان بأنها «تنتمي للسياسات الاقتصادية للدول النامية وليس الدول المتقدمة». هذا الوصف ينطبق إلى حد كبير على مضمون وأسلوب الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة، بما في ذلك «الميزانية المصغرة» التي أعلنها وزير الخزانة في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي.
أسلوب إعداد السياسة الاقتصادية
تتألف السياسة الاقتصادية لأي دولة من عدة مكونات أهمها السياسة المالية، ومركزها الضرائب، والسياسة النقدية ومركزها سعر الفائدة، والسياسة التجارية ومركزها الرسوم الجمركية والاتفاقيات التجارية. وتعتمد الدول المتقدمة على أساليب علمية بعيدا عن الارتجالية وردود الفعل في إعداد وإدارة هذه السياسات. لكن ليز تراس بادرت بإعلان قرارات مهمة في اليوم التالي لتشكيل الحكومة، بدافع خلق قاعدة شعبية مؤيدة لها، قبل أن تدرس هذه الإجراءات دراسة كافية، ما أدى إلى صدام نادر مع محافظ البنك المركزي أندرو بايلي، بعد إعلان الميزانية المصغرة التي تضمنت تخفيضات ضريبية بقيمة 45 مليار جنيه استرليني، وزيادة في الإنفاق بما يتجاوز 100 مليار جنيه استرليني، فوق تقديرات الميزانية الأصلية، يتضمن تكلفة وضع سقف لأسعار الغاز للقطاعين المنزلي والصناعي، وضمانات مالية لشركات الطاقة بقيمة تتجاوز 60 مليار جنيه إسترليني. وقد تم إعلان هذه الإجراءات بدون تقدير قيمة التمويل اللازم لتغطيتها، وهو ما أثار فزعا في الأسواق، وموجة انخفاض للإسترليني وأسعار الأسهم. كما تواجه الحكومة صعوبة شديدة في تمويل الزيادات القانونية في مدفوعات المعاشات والضمان الاجتماعي والتأمينات للعام المقبل، نظرا لأن هذه الزيادات يجب أن تعادل نسبة التضخم السنوي على الأقل، وهو ما يضعها في مواجهة شرسة مع الناخبين، ويضع حزب المحافظين على طريق خسارة الانتخابات المقبلة.
وقد اضطر بنك انكلترا إلى التدخل بقوة في السوق لشراء سندات خزانة، بعد أن لاحظ أن محفظة صناديق المعاشات «أصبحت معرضة لخطر مادي» حسب تعبير محافظ البنك، الذي تتمثل مهمته الرئيسية قانونا في تحقيق الاستقرار المالي. وتستثمر الصناديق نسبة كبيرة من أموالها في شراء سندات الخزانة باعتبارها أكثر الأصول الاستثمارية الأكثر أمانا. كما أعلن البنك رفع أسعار الفائدة، وهو ما ترك انطباعا قويا لدى مؤسسات التمويل العقاري البريطانية بأن أسعار الفائدة في طريقها للارتفاع حتى العام المقبل، فرفعت هي الأخرى أسعار الفائدة على قروض الإسكان. وبسبب تسرع الحكومة في اتخاذ قرارات «ارتجالية» بدون التشاور مع المؤسسات المعنية والمراكز المستقلة، التي تقوم في العادة بدور استشاري مع الحكومة قبل الميزانية، فإن ردود الفعل الحادة في السوق، أدت إلى زيادة الانتقادات الموجهة للحكومة حتى من داخل حزب المحافظين، وبلغت الضغوط ذروتها قبل انعقاد المؤتمر السنوي للحزب، فاضطر وزير الخزانة كوارتينغ للتراجع عن إلغاء ضريبة الحد الأقصى للدخل التي تبلغ 45 في المئة التي كانت تصل تكلفتها إلى حوالي 3 مليارات جنيه استرليني. وهو ما قلل الثقة في كل من وزير الخزانة ورئيسة الحكومة.
الحاجة للنمو
في كلمتها الختامية للمؤتمر السنوي لحزب المحافظين، رفعت ليز تراس شعار «النمو» بوصفه عنوان برنامجها الاقتصادي. وقالت إن لديها ثلاث أولويات هي «النمو…النمو…النمو» وهو ما يعني أنها تريد دفع الاقتصاد للحركة بأقصى قوة ممكنة، بأن تجعل بريطانيا دولة جاذبة للاستثمار عن طريق تخفيض الضرائب، وتقديم التسهيلات للمستثمرين الأجانب، وفتح بوابة التنقيب عن النفط والغاز، خصوصا في منطقة بحر الشمال. وقد أثارت النقطة الأخيرة احتجاجات واسعة بين جماعات المحافظة على البيئة، وتمكنت منظمة «السلام الأخضر» من إرباك كلمة تراس والاعتراض عليها، ورفع لافتة تحتج على سياستها داخل قاعة المؤتمر. ومن ثم فإن غياب البعد البيئي في برنامج النمو يضع بريطانيا في حرج، خصوصا وأنها كانت الدولة التي استضافت المؤتمر الأخير COP27 لشركاء البيئة في العام الماضي.
وتعتقد تراس أن الطريق إلى النمو يمر حتما بتخفيض الضرائب. ومن ثم فإن برنامجها الاقتصادي يتضمن تخفيض الضرائب على الشركات إلى 19 في المئة. ويتفق كثير من قيادات حزب المحافظين على أهمية تخفيض الضرائب، بشرط حساب أثر ذلك على الاستقرار المالي. وعلى العكس من ذلك يدعو حزب العمال إلى فرض «ضريبة ثروة استثنائية» على شركات النفط والغاز، واستخدام حصيلة هذه الضريبة في تمويل برنامج لتخفيف الأعباء عن المستهلكين. وقد انضم واحد من أهم قيادات صناعة النفط والغاز في العالم، وهو بن فان بوردن، الرئيس التنفيذي لشركة شل العالمية بدون قصد إلى معسكر معارضي ليز تراس، عندما أكد في منتدى النفط والغاز في لندن، الذي تصادف مع انعقاد مؤتمر حزب المحافظين، أن الحكومات يجب أن تفرض ضرائب على شركات استخراج النفط والغاز من أجل الإنفاق على برامج مساندة المستهلكين في مواجهة ارتفاع تكاليف الطاقة.
وتواجه تراس خيارات معقدة داخل حزبها خلال الأسابيع المقبلة، تتعلق بقرارات صعبة يتعين عليها اتخاذها. فقد تجنبت في المؤتمر السنوي للحزب مناقشة مسألة الخلاف مع أوروبا بشأن إدارة الحدود في إقليم أيرلندا الشمالية، وهو خلاف قد يزيد مرارة علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، ويؤدي إلى المزيد من تدهور قوة «التيار الاتحادي» لصالح «التيار الجمهوري» الذي يسعى لتوحيد النظام السياسي في الجزيرة الأيرلندية أو على الأقل الانفصال عن المملكة المتحدة. كذلك فإن السياسة الاقتصادية للحكومة قد انعكست سلبا على سوق العقارات البريطانية، وذلك على العكس مما كانت تأمل تراس. ذلك أن الإعفاءات على ضريبة الدمغة ورسوم تسجيل العقارات، تبخر أثرها بسبب ارتفاع أسعار الفائدة على قروض التمويل العقاري إلى أعلى مستوى منذ 14 عاما.