منذ مطلع الخمسينيات وحتى الآن لم نر من الأعمال الدرامية الدينية والتاريخية، إلا بعض النماذج المعدودة التي حفظها الجمهور عن ظهر قلب، وهي لا تعدو سوى اجتهادات حالف الحظ بعضها وجانب الصواب البعض الآخر، وما حالفه الحظ منها ربما يكون معروفاً للعامة لأنه دائم التكرار على الشاشة بوصفه الأفضل من حيث التناول الفني والتوظيف التكنيكي والرؤية المقبولة لصورة الإسلام والنبي الذي بُعث هدى للعالمين وبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغُمة.
تلك هي التضمينات التي وردت في معظم ما تم طرحه من الصور الدرامية والسينمائية، وبرغم صحتها المؤكدة ودلالتها الواقعية والفنية إلا أنها لم تكن كافية للبلاغ والبيان، فليس المطلوب إقناع المشاهد المسلم بمعطيات الرؤية الفنية والتاريخية للإسلام، وإنما الأهم هو إقناع الآخر الذي لا يؤمن بما نؤمن به نحن المسلمون الموحدون، ولهذا لم تفي الوسائط الإبداعية بالغرض الذي عُنيت به وظلت مجرد وسيلة للفرجة نتداولها في ما بيننا بعيداً عن مواطن الخلاف والشك في دول وبلدان لا تعرف عن الإسلام والمسلمين غير ما يصلهم من رسائل مُغرضة مفادها التشويه والتعريض والسب والقذف.
وقد لاقت تلك الرسائل رواجاً بفعل الفراغ الثقافي والنضوب الإبداعي في هذا الملف، فعلى كثرة المهرجانات والفعاليات المحلية والدولية لم يُبادر أحد بإقامة مهرجان أو كرنفال أو احتفالية تقوم على المشاركة الفعلية للأفلام والمسلسلات الدينية والتاريخية إسوة بما يحدث في مهرجانات السياحة والمرأة التي تقام على مدار السنة بلا انقطاع في معظم الدول العربية بعناوين وتفصيلات وتفريعات مختلفة كلها تصب في مرمى واحد، في حين تبقى المساحة الخاصة بالثقافة الدينية شاغرة بلا أي محتوى يُذكر، اللهم غير النزر اليسير من أعمال فنية قديمة وكلاسيكية تُستدعى قصصها وحكاياتها على استحياء في المناسبات لمجرد الإشارة فقط وبعدها تدور عجلة المهرجانات الدعائية متجاوزة كل نفيس وقيم لإرساء قاعدة هي الأسوأ في مجال التوظيف التجاري للسينما وغيرها من ألوان الفن الأخرى، وهي تأسيس الفكرة الدعائية على الأصول الإبداعية كدمج السينما بالسياحة بالمهرجانات بالموضة بالإرهاب بالكباب إلى آخر ترهات النظام الثقافي المقرر في دفاتر أحوال الأوطان العربية قاطبة.
يأتي هذا الإسراف من قبل المؤسسات الإنتاجية الرسمية وغير الرسمية والرعاة من رجال البيزنس والتجارة، ثم يأتي التباكي على صورة الإسلام المشوهة وسيرة النبي المختار المُعتدى عليه بالاجتراء والكذب في بلاد الغرب وبمباركة وتشجيع من الرؤساء والقادة السياسيين، كل ذلك من دون طرح السؤال الأساسي على أنفسنا في معادلة الكراهية والغُبن، لتحديد المسئولية الجنائية والعقائدية على من تقع، ومن المُتسبب في ظاهرة الاعتداءات المتكررة؟
الإجابة الشافية والقاسية تكمن في أوجه التقصير المشار إليها سلفاً والمتمثلة في فقر المعلومات الصحيحة عن الإسلام ورموزه لدى المتهجمين – الهمجيين، ونُدرة الإبداعات الفكرية والدينية والتاريخية وتركيز المتوفر منها على صور الفتوحات وزهو الانتصارات بلا سياق درامي يوضح ضرورة تلك الفتوحات في أزمنتها التاريخية وتضمينها للسلام كخيار أول قبل الشروع في الحرب، بما يحقق القناعة التامة لدى المشاهد العنصري بأنها لم تكن حرب إبادة ولا شهوة دماء كما يصورها المغرضون.
المؤسف أن معظم الأعمال الدينية تجاهلت تلك الإشكالية الجدلية وأبقت فقط على عناصر التشويق والإثارة في المعارك، ولم يُستثن منها غير القليل كفيلم “الرسالة” للمخرج الكبير مصطفى العقاد، الذي راعى الجوانب الإنسانية كأولوية قصوى في رؤيته الفنية للتاريخ الإسلامي فبدا فيلمه هادئاً مُقنعاً على كافة المستويات. بيد أن ذلك تحقق أيضاً في أعمال درامية استثنائية كمسلسل “الوعد الحق” ومسلسل “على هامش السيرة” المأخوذان عن روايتين للدكتور طه حسين، وكذلك مسلسلات مثل “محمد رسول الله” و”لا إله إلا الله” و”الطارق” و”عمر ابن الخطاب” اتسمت كلها بالعرض التاريخي المتوازن والهادف، وبالفعل كان لها وقع إيجابي على المشاهد المصري والعربي، ولم يكن ينقصها سوى الترجمة للغات الأجنبية ليصل صداها إلى أبعد مدى، ولكن أبداً لم تعتن حركة الترجمة بإدراج المُسلسلات ضمن اهتمامها، فباتت مجهولة لدى من لا يعرفها ومن ثم ظلت الفكرة السلبية ثابتة في أذهان المناوئين والمتربصين والمعادين لكل ما هو إسلامي من غير اطلاع على صحيح الدين والسيرة النبوية لصاحب الرسالة.
ذلك هو مربط الفرس في سوء التفاهم القائم بين الإسلام والغرب، الوقوف عند حدود الصورة المشوهة بفعل الإهمال والتكاسل من جانبنا والاكتفاء بالدعاء على الآثمين من فوق المنابر من غير حول ولا قوة منا لتغيير الصورة الذهنية واستبدالها بالصورة الحقيقية التي تعكس الرضا والسماحة والعفو عند المقدرة بعيداً عن العنف والإرهاب والتكفير ولغو الكلام والاتهام.