-1-
منذ مدة أصبت بمرض الإفراط في المخيلة، أو المخيلة السمينة جداً. أستطيع الكتابة مثلا ً عن عشبة في كوكب المريخ، أو عن اللغة المشفرة لسلالة متطورة من الجنس البشري، أو عن البحار الهابطة من السماء والعربات التي تتسلل هاربة بين المجرات والكواكب البعيدة. ولم يغب عني أيضا ً السؤال الفلسفي الأكبرالذي صار بمثابة أرق دائم في المساءات، ولا الوجع المعرفي، ذلك الوجع الأزرق الذي أورثني أزمة في القلب وعطبا في الروح. لكنني عاجز.. عاجز جدا عن الكتابة عن المشاهد المنبثقة من ألم الواقع وشجونه، أو الأشياء الصغيرة التي تشاركني تفاصيل الحياة اليومية.
تلك الأشياء التي لها روح المكان والذاكرة، والتي تأسرك ببساطتها وكآبتها الساحرة. رغم أنني متأمل صموت ومستنطق لجوهرها وكينونتها وفنائها. وأدرك تماما أن الأشياء التي يسكنها حزن لا مرئي أو لون من ألوان الكآبة هي الأكثر سحرا وجمالا في هذا العالم. أشعر بالتحول البطيء لهذه الأشياء، أشعر بالزمن وهو يسري كسم في عروقها المتجمدة. لكنني مازلت عاجزا عن تحويل طاقتها المادية إلى هيكل شعري سائل، أو خلقها من جديد بعد موتها. أطفئ الجحيم العالق بمخيلتي على هيئة رموز وصور مرعبة، تتجلى لي وديعة في الكوابيس ثم تأخذ مسارها في الحياة وتفرض سطوتها مع كل فكرة قهرية تتدحرج من رأسي. الأحلام تخلصني من عبودية الأشياء والذاكرة، والكتابة تحررني من الخوف القديم الذي رافقني منذ الطفولة. من حسن حظي إن معظم الشعراء إن لم يكن جميعهم لا يحبون ما أكتب ولا يستسيغونه،
وربما ينفرون منه نفورا شديداً. حجتهم في الظاهر: هي أني لم لا أملك حرفة الشعر ولست مطلعا على أسراره الخفية ودهاليزه المظلمة، لكن في أعماقهم يتمنون الاحتراق بجحيم هذه المخيلة المرعبة والمجنونة. ومن حسن حظي أيضا أن الذين يتابعون ما أكتب بشغف ولهفة هم، الفلاسفة.. علماء الفلك.. أطباء النفس.. المجانين.. المجرمون.. المرضى.. بائعو المراثي.. الأشباح.. الموتى.. حراس المقابر.. السحرة .. الكهنة… الخ. خسائر الحياة الفادحة وهزائمها المتكررة تحمل نقيضها الجوهري دائماً.. وهي أن نخرج منتصرين ومتوهجين من ظلمة الأعماق المرعبة،
الكتابة هي انتصار دائم على الوهم والزمن
انتصار للعالم في عزلته..
انتصار اللامرئي في المرئي
والحاضر الخفي بكامل غيابه
انتصار لذلك السر الكوني الكبير
السر الأعظم
-2-
الأشياء القديمة، الأشياء التي لها بريق الكآبة، والتي كانت تصبغ العالم كله بالرمادي لا أدري أين هي الآن؟ هل اختفت نهائيا من الذاكرة؟ أم غرقت في متاهة الأعماق؟ وحدها الأحلام تعرف كل شيء. وحدها الأحلام ستدلنا على بؤرة الضوء في هذا النفق الطويل والمظلم.
-3-
كنا نحدق كالأطفال بعيون ساخرة، ونشرب نخب الخلود على مائدة الليل كنا ملائكة أشقياء، وأعمارنا كأعمار الآلهة. نطوف تحت الغسق المرمري ونحلق بعيدا في الآفاق المتجمدة. أين كل هذا الآن؟ الأسرار الحارسة.. والعشب الذي كان ينبت في قلوبنا؟ أين ذهبت كل تلك القهقهات والأوجاع الصغيرة.. وتلك العيون التي تنبض بالمحبة والأسى، وحدها الأشياء ما زالت تراهم في الأمس وفي الغد. وأنت وحدك الذي يتكرر دائما.. وفي كل مرة تتكرر. الزمن… هو أنت ولا شيء غيرك.
– 4-
في خريف شاحب تتلاطمه العواصف البعيدة، يقفز ذلك الخريف البعيد أمامي، البعيد جدا مثل سماء قديمة تحدق إلينا في الصور. مازلت أفر من الذاكرة ومن رعب الأشياء وهي تفترسني في الكوابيس. أحدق طويلا في الكآبة وهي تسيل من جدران غرفتي، في الكآبة أيضا سحر وجمال غامض، لكن العقل وحده مأساتنا الكبرى وجحيمنا البارد في الأزمنة الغريبة. أتأمل عاصفة الضباب اللامرئية وهي تحوم حولي، وأرى وجهي يغيب في الفصول المطعونة بسحر البدايات، وفي كل المرايا التي حملت ملامحي الأولى. لكنني ما زلت بخير رغم النجوم التي تقطف دموعها كل مساء من طفولتي، رغم الأمس الذي ما زال يمضي في شريط داكن، رغم الوجوه المحدقة إليّ من هاوية الحلم، والدوامة التي اقتلعت حبال صوتي، ما زلت بخير، نعم مازلت بخير.. أبكي وحيداً مع الصمت والموسيقى أبكي مقهقها من قسوة السعادة وأكتب لكم كل يوم من رماد العزلة.
-5-
للعالم الذي صار بلا لغة صورة واحدة وثابتة في قلب الأشياء.. حزمة أطياف ملونة ومتشابكة تبصرها عين زجاجية في الأعالي
هذا العالم ساكن منذ الأزل، ومتحرك منذ الأزل.
٭ كاتب عراقي