في سياق حديثه عن رحلة الذاكرة عبر التاريخ، كان المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف قد وصلَ إلى فكرة تقول بأنه غداة الحرب العالمية الأولى، كنا أمام تطور جديد على صعيد الذاكرة والمجتمع، فبدلا من التركيز على ذاكرة الناس وتسجيلها وتوثيقها، كانت الدولة الحديثة تدفع حدود الذاكرة المشتركة إلى الغفلية، من خلال تشييد ضريح الجندي المجهول، الذي سيغدو مع الزمن هو من يمثل تاريخ وذاكرة هذه الأمم. وقد عنى هذا الأمر، وبالأخص في بلدان الشرق الأوسط، أن آلاف القصص والسير ستتنحى وسيجري تهميشها، لصالح سير الأبطال الأيديولوجيين والعسكر، الذين سيحتلون المشهد اليومي، وكذلك عالم السير والذاكرة إلى حد كبير. وعلى الرغم من حجم المراجعات في هذا الجانب، ومحاولة الكشف عن سير وذاكرة أخرى غير الذاكرة السياسية، بقيت هناك إشكالية في عالمنا العربي تتمثل أحيانا في كيف نبدأ؟ ومن هم الأشخاص الذين يمكن أن نكتبَ لهم سيرا ذاتية، أو نؤرخ لذاكرتهم بالأحرى، خاصة أن الخوضَ في هذا المشروع يتطلب حقيقة، مخيالا آخر، وأسلوبا جديدا في الكتابة التاريخية، أقرب ما يكون لأسلوب الروائيين، الذين استطاعوا في العقود الأخيرة أن يرثوا في مرات عديدة دورَ المؤرخ، من خلال صناعة عالم من الأبطال والأحداث والمواقف البسيطة، التي تحيط ببعض الأحداث التاريخية الكبرى، والتي لم يكن المؤرخ بأدواته التقليدية قادرا على الإحاطة بها، وربما هذا ما أدى إلى أن تتحولَ الرواية اليوم إلى الكتاب الشعبي، بدلا من أن تكون كتب التاريخ أو السير هي من يلعب هذا الدور.
وبالعودة للسير الذاتية وذاكرة القرن العشرين، يمكن القول إن هناك محاولات جيدة باتت تقدم في السنوات الأخيرة على صعيد عالمنا العربي، واللافت هنا أن بعضها ليس قادما من حقل المؤرخين والأكاديمية، بل ناجمة عن جهود روائيين وكتاب قصة وصحافيين، أخذوا يسعون لتأسيس تواريخ وسير أخرى غير سير الأبطال المؤدلجين، الذين ابتلينا بهم في المئة سنة الأخيرة، وكمثال عن هذه الجهود الطريفة، يمكن الإشارة لمؤلفات الصحافي المصري عمر طاهر، وبالأخص كتابه «صنايعية مصر»، الذي يتطرق فيه لسير أشخاص وأفراد لعبوا دورا في الصناعة والحياة الثقافية والاجتماعية، قبل أن تطمسَ جهودهم وتواريخهم مع قدوم سيل ثورة الضباط الأحرار في مصر. ولعل من الأمور الطريفة في ما كتبه طاهر في هذا الكتاب، وفي غيره من الكتب، أن أسلوب المؤلف حمل رائحة «الحدوتة المصرية» التي تأسرك وتسحرك بأسلوبها في القص، والانتقال بين الأشخاص والأحداث، وهو أسلوب جعلَ من المؤلف ومن قسم كبير من الروائيين الكتاب المفضلين اليوم لدى غالبية القراء والناس العاديين، وربما هذا ما ميزَ أيضا كتابات عالم الاجتماع المصري الراحل جلال أمين، ويفسر سبب انتشار كتاباته مقارنة بأقرانه.
صانع السير:
يسير بنا الطاهر في شوارع القاهرة والإسماعيلية والإسكندرية، ليعرفنا على سيرة معلم كولونيا الثلاث خمسات، وسيرة مؤلفة أول كتاب لأصول الطهي في مصر، وفي أماكن أخرى نتعرف على سيرة صانع أول شوكولاته محلية مصرية، وصاحب أول معمل للدخان المحلي، وسيرة رؤوساء بعض نوادي كرة القدم مثل نادي الزمالك. وفي هذه السير الصغيرة، والمكتوبة بلغة سهلة وبسيطة، نكتشف أن لمصر في القرن العشرين تاريخا آخر، وهو تاريخ هُمشَ وقُمعَ، أحيانا بسبب التواريخ الرسمية، ومرات أخرى من قبل المثقفين أنفسهم، ولعل هذا ما يشعرنا به المؤلف نفسه، من خلال لغة الحنين والمديونية تجاه هؤلاء الأشخاص، وتجاه زمنهم الجميل، الذي عاش المؤلف آخر أيامه في مرحلة الطفولة خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، قبل أن تشهد البلاد لاحقا، وفقا لبعض الدارسين لتاريخ مصر، مرحلة جديدة على صعيد الاقتصاد والحياة اليومية.
لم يضع كتاب أبلة نظيرة وأبلة بهية لمسته على الطبخ الذي يميز كل أنثى عن الأخرى، ويعبر عن شخصيتها فقط، بيد أنه اهتم أيضا بأرشفة كل الأكلات الممكنة في تاريخ مصر بطريقة بسيطة، ثم اهتم بكل ما هو وراء الطعام.
ومن السير الطريفة التي نعثر عليها في الكتاب كما ذكرنا، سيرة صانعي كولونيا الثلاث خمسات (حمزة الشبراويشي). كانت هذه الكولونيا على مدى عقود ترتبط في حياة المصريين بالاحتفالات والأفراح، والذهاب للحلاق، كما كانتهي الرائحةَ المميزةَ لركن مقاعد كبار العائلة في آخر الجامع في صلاة العيد. سيعثر المؤلف بالصدفة على نعي منشور وردَ فيه اسم حمزة الشبراويشي كأحد أفراد العائلة، وبعد محاولات، سيتمكن من اللقاء بأحد أحفاده ليكتب لنا عن سيرة جده. في كل مرة كانت توضع أمام عبد الناصر قوائم بأسماء ستخضع لقرار التأميم، كان ناصر يشطب اسم الشبراويشي. كان يؤمن بأن الشبراويشي رجل عصامي، وليس اقطاعيا ويمثل مصر بصناعة وطنية. خرج حمزة من قرية شبراويش (محافظة الدقهلية) لا يحمل شيئا سوى ذائقة فريدة وموهبة في صنع اسنسات العطور. في البداية استقر في منطقة الحسين، وافتتح محلا صغيرا لبيع العطور، التي صنعها بيديه. عرفَ النجاحَ سريعا، فافتتحَ فرعا في الموسكي، ثم وسط البلد، ثم قررَ تحويلَ معمله الصغير إلى مصنع، فاشترى قطعةَ أرض صغيرة في دار السلام، لم يكن مهتما بالسياسة. في عام 1965 سافر إلى سويسرا لتلقي العلاجَ من جلطة قلبية، واستغل البعض ما حدث، وكانت الوشاية مكتملةَ الأركان (حمزة هربَ من مصر إلى لبنان). هنا قرر عبد الناصر فرضَ الحراسة على ممتلكات الشبراويشي، وبعد أن سمعَ صاحبها بالخبر قررَ الاستقرارَ في لبنان، واستمر في إنتاج الكولونيا حتى توفي مع نهاية الستينيات، ومن المفارقات التي يذكرها طاهر هنا، والتي ربما فضّلَ عدم البوح بها، بل تركَ تقديرها للقارئ، أن منزلَ الشبراويشي، الذي كانت تزرع فيه الأزهار بأنواعها لدرجة أنه حصلَ على كأس الملك فاروق، سيتحول منذ عام 1980 إلى منزل للسفير الإسرائيلي، حتى رحلَ عن المعادي. أما مصنعه، فقد تحولَ إلى مقلب للقمامة، أما الكولونيا نفسها فقد صارَ البعض يراها مناسبة للسخرية.
وفي سيرة أخرى سنتعرف على تيمو خريستو، صانع شوكولاته الأطفال في الخمسينيات. ولدَ هذا الرجل في الإسكندرية لأب يوناني، وبدأ نشاطه بمصنع صغير في الإسماعيلية، أطلقَ على منتجاته اسم شوكولاته رويال، ثم انتقلَ إلى الإسكندرية وبدأ بقطعة أرض صغيرة. كان ينتقي العاملين بعناية، انطلاقا من أن أحد شروط صناعة الشوكولاته أن يكون صانع كل هذه السعادة سعيدا، فعجينة الشوكولاته كما كان يقول حساسة جدا وتلتقط بسهولة مزاجَ من يطبخها. مما يروى عنه أنه أقامَ ملعبا لكرة القدم بجانب مصنعه، وكان الملعب ترابيا ومشهورا بوجود غزال بري شارد يظهر فيه كثيرا، وكان العمال يعتنون به ويدللونه. وذات يوم، وعلى هامش إحدى المباريات، انطلقت قذيفة كروية اصطدمت برأس الغزال فماتَ في التو؛ بعد هذه الحادثة سيقرر خريستو أن يجعلَ هذا الغزال رمزا لما يقدمه، ووضعَ صورته على أغلفة الشوكولاته ليخلدها، ثم بنى له تمثالا في مدخل المصنع. ومن المفارقات أن الشوكولاته التي كان يصنعها أخذت تستقر في تفاصيل حياة المصريين، لكن كان للحكومة المصرية رأي آخر، إذ قامت بتأميم الشركة، وأطلقت عليها اسم شركة الإسكندرية وأصبحت قطاعا عاما، كما حولت الدولة منزله إلى مقر تابع للأمن، بعد ذلك بسنوات ستتزوج ابنته الكبرى ليا من دبلوماسي صغير صار أمينا للأمم المتحدة اسمه بطرس غالي، وتزوجت شقيقتها من وزير إسرائيلي، ويقال إن الأختين كان لهما دور ما في بدايات معاهدة السلام.
سيرة صانع الشاي
في قصة أخرى، نتعرف على سيرة الشاي في مصر، وسيرة صورة «الشيخ الشريب» التي كانت توضع على علب الشاي في الثمانينيات. كان هناك رجل يدعى علوي الجزار، انطلقَ في صناعة الشاي بمشاركة ثلاثة من أشقائه، ولاحقا أصبح رئيس مجلس إدارة مصنع كوكا كولا، وصاحب 70% من أسهم هذا المشروع، وقد اختارَ صورةَ الشيخ الشريب، انطلاقا من فكرة أن اختيار صورة شيخ بسيط، قد تبدو أكثر قربا لوجدان المصريين، فهو شخص منهم وليس نجما سينمائيا، أما الصورة فتعود لشخص يدعى «عم عرفة» كان يعمل سائقا عند علوي الجزار، وكان الجزار يحبه ويتفاءل به، فقررَ أن يجعلَ صورته رمزا للشاي الذي اجتاحَ مصر بقوة حتى نهاية الثمانينيات. في بداية الستينيات تولى الجزار رئاسةَ نادي الزمالك، وكان أصغرَ من تولى هذا المنصبَ سنا (38 عاما)، وصاحبَ أقل فترة رئاسة (عام واحد) وقد استطاعَ أن يستضيفَ فريقَ ريال مدريد ليلعبَ مباراة ودية في القاهرة، ويقال إن هذه المباراة كانت سببا في تعرضه للتأميم..
ومن السير التي نقرأ عنها في الكتاب أيضا، سيرة صانع ملعب نادي الزمالك (أبو رجيلة)، فبعد تولي عبد اللطيف أبو رجيلة رئاسةَ الزمالك في منتصف الخمسينيات، لم يدر طموحه حول تحقيق بطولة، بل كان مشغولا بفكرة مقر يليق بالمؤسسة. كان مقر نادي الزمالك مجردَ ثلاث غرف ومدرج خشبي على نيل العجوزة، فاختار منطقةَ (ميت عقبة) وكانت خليطا من المزارع والمساكن العشوائية الفقيرة، وقبل أن يشرعَ في البناء قررَ أن يمدّ الكهرباء والمياه لسكان ميت عقبة على نفقته. وبعد تأسيسه ستكون مباراة افتتاح الملعب مع فريق أوروبي سيحضر على نفقة أبو رجيلة، الذي كان يمتلك إلى جانب ذلك شركة أتوبيسات، كان لدخلها دور في بناء المدرجات. وفي أحد الأيام استيقظَ أبو رجيلة على قرار بتحويل شركة الأتوبيس إلى هيئة النقل العام في القاهرة، فغادر إلى إيطاليا، وبقي يتحسر على حال مشروع الأتوبيسات والمواصلات في القاهرة، وبعد رحيله بسنوات قررت إدارة جديدة لنادي الزمالك وضع اسمه فوق المدرجات، لكن ذلك لن يستمر كثيرا، إذ ستقرر الإدارة لاحقا هدمها لتقيم مكانها مول تجاري.
سيرة أبلة نظيرة
من الفصول الممتعة أيضا فصل يتعلق بسيرة أبلة نظيرة، مؤلفة أول كتاب حول الطهي في مصر. كانت أبلة نظيرة نيقولا قد سافرت إلى لندن في بعثة تابعة لمعهد معلمات الفنون لدراسة فنون الطهي وشغل الإبرة. عندما عادت أبلة نظيرة من لندن نزلت بنفسها إلى ملاعب الطهي الشرقي لتتقنه، فكانت تقضي أياما طويلة في محلات الحلوى لتتعلمَ أسرارَ صناعة الكنافة والبقلاوة. وتحكي كيف قضت أياما في مطابخ مطاعم شهيرة وقتها مثل مطعم (عزوز) ومطعم (العشى) تراقب طرقَ طهي الخضروات واللحوم. في تلك الأثناء أعلنت وزارة المعارف عن مسابقة لتأليف كتاب في الطهي تعتمده الوزارة كمنهج دراسي للفتيات، قبلها كانت نظيرة نيقولا قد صادقت أبلة بهية عثمان العائدة من بعثة مماثلة في إنكلترا، فاتفقتا على تأليف الكتاب معا، فكان كتاب (أصول الطهي) في أكثر من 800 صفحة.
لم يضع كتاب أبلة نظيرة وأبلة بهية لمسته على الطبخ الذي يميز كل أنثى عن الأخرى، ويعبر عن شخصيتها فقط، بيد أنه اهتم أيضا بأرشفة كل الأكلات الممكنة في تاريخ مصر بطريقة بسيطة، ثم اهتم بكل ما هو وراء الطعام، كانت أبلة نظيرة تعتقد أن متعةَ العين جزء من متعة الطعام، ويروي ابنها أنها ظلت تعمل بدأب حتى سن التسعين عاما، ورحلت عام 1992، ويقول إنها رغم كل ما حصدته من تكريم كانت لديها غصة من سخرية ممثل كوميدي (سمير غانم) منها في إحدى مسرحياته «المتزوجون» بأن كتابها هو صفحة الوفيات، أو ربما لم يخطر في بالها أن سمير غانم (الذي تزوج من فتاة غنية في المسرحية، وذهب لاحقا للعيش في منزل والدها) أراد القول من خلال أسلوبه الساخر، أن عالما واسعا كان يموت مع بداية التسعينيات لصالح عالم آخر دعته إحدى الباحثات الأنثروبولوجيات في حياة القاهرة بعالم سلطة سيزر والكافي لاتيه، الذي أزاحَ وهمّشَ حيوات وسير ملايين المصريين، لصالح مغامرات وأحلام طبقة ميسورة.
٭ كاتب سوري
أخبار تأريخية متنوعة ومشوقة! شكراً للكاتب!! ولا حول ولا قوة الا بالله
شكرا يا أستاذ محمد تركي الربيعو على هذا العرض الممتع، و قبل ذلك على اختياراتك الجميلة و الموفقة دائماً.