لمن لا يعرف سيغريد كاغ، هي دبلوماسية هولندية عريقة تقلبت في عديد من المناصب والوزارات، كما شغلت عدة مناصب في الأمم المتحدة بعضها يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. وكاغ متزوجة من الفلسطيني أنيس القاق، وعندها أربعة أطفال. تم تعيينها في ديسمبر وإعادة الإعمار في قطاع غزة، بعد اعتماد القرار 2720 بتاريخ 22 من الشهر نفسه، الذي يدعو إلى تعيين شخص يكون المسؤول الأعلى عن كل عمليات الإغاثة الإنسانية في غزة، بعد انكشاف مدى الدمار والقتل وغريزة الانتقام المنفلتة من كل عقال.
في تلك الفترة أطلقت ماكينة الدعاية الكاذبة للكيان الصهيوني تهمة عظيمة ضد وكالة إغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (أونروا) مفادها أن 12 موظفا ساهموا في عملية طوفان الأقصى. أطلقت بعدها حملة عالمية لتشويه الأونروا واتهامها بأنها جزء من المشكلة وليست جزءا من الحل. انصاعت 16 دولة للإملاءات الإسرائيلية وأوقفت دعم الأونروا. بعضها تراجع بعد اكتشاف كمية الكذب والتزوير، وبعضها ظل متمسكا بموقفه الخاطئ. ومن الذين انصاعوا للإملاءات الإسرائيلية الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي شكل فريقين للتحقيق، واحدا في مزاعم المشاركة في طوفان الأقصى، والثاني في حيادية الوكالة.
تجاهل الأونروا وعدم التنسيق معها، وعدم التأكيد على مركزية دورها، يشير إلى أن استحداث منصب كبيرة منسقي الشؤون الإنسانية جاء جزءا من حملة تصفيتها على طريق تصفية القضية
الغريب في هذا القرار الذي اعتمد بغالبية 13 صوتا، بينما صوتت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الروسي بـ»امتناع»، كل لأسبابه، أنه أنشا منصبا رفيعا لكبير منسقي الإغاثة الإنسانية. علما أن في الأرض الفلسطينية منسقا خاصا بالشؤون الإنسانية، إضافة إلى فيليب لازاريني المفوض العام للأونروا، وهناك منسق لبرنامج الصحة العالمي وآخر لليونسيف وآخر لبرنامج الأغذية العالمي، وفوق كل هؤلاء وإلى جانبهم منسق عملية السلام في الشرق الأوسط تور وينيسلاند الذي، من المفروض أن يكون أرفع منصب في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكن إنشاء منصب جديد يطوي تحت جناحيه كل هذه المناصب جميعها، لا نعرف كيف يساعد العمليات الإنسانية. لقد تم اختيارها بعد أربعة أيام من اعتماد القرار، وهو رقم قياسي في سرعة التعيين وباشرت عملها في الأسبوع الأول من يناير 2024. قدمت كاغ تقريرها الأول لمجلس الأمن بتاريخ 5 أبريل وتقريرها الأخير بتاريخ 2 يوليو. ولا أكاد أجد خلافا كبيرا بينهما، فقد ذكرت في تقريرها أمام مجلس الأمن في أبريل ما يلي: «لقد تمكنت من تفعيل آلية قرار مجلس الأمن 2720 (2023) في غزة حيث سيبدأ التنفيذ في الأيام المقبلة. وأنا ممتنة للتعاون البناء حيث سيتم تطبيق الآلية مبدئيا على طريقي قبرص والأردن على التوالي. وسيتم الانتهاء قريبا من المشاورات الفنية مع مصر بشأن مسارها». وقالت إنها أبلغت إسرائيل بتفعيل الآلية وفقا للقرار المذكور. وفي تقريرها يوم 2 يوليو كررت المقولة نفسها بإنشاء الآلية: وكما كان متوقعا، كان هذا الأمر محفوفا بالتحديات. لقد أحرزنا التقدم نحو إنشاء آلية لمراقبة المساعدات الإنسانية والتحقق منها، ومراقبو الأمم المتحدة يستعدون للانتشار في مكاتبها المنشأة حديثًا في غزة». وأضافت: «ستعمل الآلية أيضا كمنصة رئيسية لتسهيل دخول جميع المواد الإنسانية الحيوية إلى غزة، وتعزيز الممارسات الحالية، بما يتوافق مع هدف القرار. وفي ردها على سؤال حول إنجازاتها خلال الشهور الستة الماضية قالت: «يمكن أن تنظر إلى هذا التعيين من منظور قرار مجلس الأمن الدولي نفسه، الذي يضم جانبين: أولا تسهيل وتسريع وتوسيع المساعدات الإنسانية، وثانيا إيجاد آلية لتحقيق ذلك. سأبدأ بالجزء الثاني. الآلية الآن بدأت تعمل وقد أقمنا مجموعة نقاط انطلاق: الأردن قبرص وميناء أسدود وسكيم، ومعبر إيريز الذي يسهل الوصول إلى شمال غزة. كما أن إغلاق معبر رفح بعد بدء الهجوم على رفح أعطى أهمية قصوى للآلية الجديدة». وحول تفسيرها لتعثر عمليات الإغاثة، حمّلت الفلسطينيين جزءا مهما من المسؤولية، «هناك وجه آخر لعملية الإغاثة الآن وهو انتشار الفوضى وانهيار القوانين والسلم الداخلي في غزة، ما جعل إمكانية استلام المساعدات الإنسانية وتوزيعها أمرا صعبا للمنظمات الإنسانية، بما فيها الأمم المتحدة. إذن، هناك نوع من التقدم ولو بسيط، ولكن بالنسبة للفلسطينيين، واحتياجاتهم ونوع تلك الاحتياجات وحجمها، فالجواب بالتأكيد لا، وأقل بكثير مما يمكن أن يحفظ كرامتهم».
إذن تعترف كاغ بأن الإنجازات لا تؤيد تشكيل الآلية بعد اتفاقات مع الأردن وإسرائيل لانطلاق قوافل المساعدات، التي لم تصل بعد. ستة أشهر وشلال الدم سارٍ دون توقف، والمقتلة تتعاظم كل يوم والتدمير أمر غير مسبوق، ثم تسمع تقرير كاغ لمجلس الأمن فترى صورة إيجابية للإنجازات، لكنها إنجازات ما زالت على الورق وأن كمية الشاحنات التي تصل غزة في تناقص مستمر، لكن هناك ما هو أخطر من ذلك، فقد عكس تقريرها صورة إيجابية للكيان الصهيوني وكبار المسؤولين، بمن فيهم رئيس الوزراء نتنياهو الذي قد تصدر بحقه مذكرة توقيف بسبب ما ارتكبته يداه من جرائم حرب. وسأمر على بعض الملاحظات والإشارات التي وردت في تقريرها أمام مجلس الأمن، التي يجب أن تسترعي انتباه المسؤولين الفلسطينيين والعرب العاملين في المنظمة الدولية، والتنبه للغة والرسائل المبطنة التي تجدها في الخطاب.
– لقد تجاهلت في خطابها بشكل أساسي الأونروا إلا من أشارة يتيمة في عدة كلمات، ما جعل السفير الجزائري عمار بن جامع، يثير المسألة أمامها في مجلس الأمن ويسألها كيف تجاهلت الأونروا؟
– أشادت بالتعاون مع الكيان الصهيوني ورموزه خاصة رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو. جاء في تقريرها: «خلال إحاطتي الأخيرة، أبلغت أنه في الخامس من أبريل، تم تشكيل مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي، وقدمت عدة التزامات تتعلق بالقرار 2720 (2023) وقامت بعثتي بمراقبة تنفيذ هذه الأمور وغيرها من الالتزامات، وبعضها موجود. وراحت تعدد مجالات التعاون والاتفاق. ومن الملاحظ أن مثل هذه الأطروحات تخلق صورة مناقضة للصورة الحقيقية التي يظهر فيها أمام العالم كمجرم حرب، ويمكن أن يسهل إفلاته من المساءلة والعقاب. ولنقرا مزيدا من الإطراء على رئيس الوزراء. جاء في الإحاطة التي قدمتها لمجلس الأمن: «وقد قدم رئيس الوزراء نتنياهو المزيد من الالتزامات لتسريع عملية التسليم من الإمدادات الأساسية للمياه والصرف الصحي، وإدارة النفايات والخدمات الطبية والاحتياجات التعليمية. هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة».
– حملت الفلسطينيين مسؤولية أساسية لتعثر توزيع المساعدات، بسبب الفوضى وانهيار الاستقرار، وكأن الفلسطينيين بعد كل ما لحق بهم من قتل وتدمير يتوقع منهم أن يفقدوا روحهم وكرامتهم ويرتمون على أعتاب المنظمات الدولية يعانون الجوع حتى الموت. جاء في التقرير: «وأدى الانهيار شبه الكامل للنظام المدني إلى نشوء بيئة من الفوضى والإجرام. وهذا الاتجاه المثير للقلق يعيق بشكل كبير قدرة الأمم المتحدة على تحقيق إنجاز ولايتها». والحل طبعا تجده عند إسرائيل: «وقد طلبت الأمم المتحدة من إسرائيل إيجاد حلول لتمكينها من تسليم المساعدات بأمان، المساعدات التي ينبغي أن تصل إلى المدنيين الفلسطينيين في غزة».
– ولمتابعة الحلول مع إسرائيل تقول: لذلك أتابع تقديم التقارير وأقوم بزيارة متواصلة للقدس وتل أبيب لتوضيح هذه النقاط، وأسأل حول ما ما يمكنني تحقيقه». أليس ذكر القدس هنا يثير الدهشة والأمم المتحدة لا تعترف بمكانة القدس السياسة لدى الكيان. وكأن هناك عاصمتين.
– إن تجاهل الأونروا وعدم التنسيق معها، وعدم التأكيد على مركزية دورها وعدم إمكانية إيجاد بديل لها يشير بوضوح، في رأينا، إلى أن هذا المنصب جاء جزءا من حملة تصفية الوكالة على طريق تصفية القضية، فإذا غيبت قضية اللاجئين غيبت بعدها مباشرة قضية فلسطين. لذلك نحذر ذوي الشأن من ترك هؤلاء الموظفين الكبار يسرحون ويمرحون على هواهم ويختارون من الكلمات ما قد يفسرها القوي لصالح سرديته المزورة.
كاتب فلسطيني