ينتمون للطبقات الوسطى والعليا، ويحملون شهادات عليا، كما أنهم مستقلون مادياً وينحدرون من عائلات ميسورة الحال، هذه التوصيفات أتت على لسان نائب وزير الدفاع السريلانكي حول هوية منفذي العمليات الانتحارية، التي حصدت المئات من المحتفلين بعيد الفصح والسياح اﻷجانب.
ومع أن اﻷمن السريلانكي يمتلك خبرات طويلة في مكافحة الإرهاب، تراكمت أثناء تعامله مع متمردي نمور التاميل، إلا أن ما يبديه من دهشة تجاه هذه المواصفات، يبين أن خبراته في جماعات التطرف الديني على قدر كبير من المحدودية، فمعظم المتطرفين بناء على توجهات دينية يلتقون في هذه الجزئية، فالفقراء تكفيهم مشاكلهم اﻷرضية، التي تجعلهم منشغلين عن السفر والترحال حول العالم لتلقي التدريب والحصول على أحدث الإجهزة لتنفيذ عملياتهم، التي يجب معرفة أهدافها، خارج إطار كلاسيكيات المراكز البحثية التقليدية، التي أسرفت في توصيف المشكلة وفي تتبعها ومحاصرتها بالإحصائيات والشهادات واقتراح الحلول، من دون أن تقدم سبباً مقنعاً لهذه الظاهرة، التي تتفشى في أوساط الطبقة الوسطى والفئات العليا منها.
يمكن التنقل بين العديد من النظريات مثل الفراغ الروحي، أو الاغتراب الاجتماعي أو الاستبعاد وعدم القبول، وكلها نظريات يمكن أن تصيب شيئاً من الحقيقة، ويمكن أن تمثل أجزءاً من الصورة المتشظية، إلا أن المشترك بين كثير من التفسيرات يتعلق بظاهرة انحطاط قيمة الشخص في مواجهة ذاته، الشعور بالتفاهة وعدم اﻷهمية، ولذلك تصبح عملية التخلص من الذات مقبولة، يمكن أن تحدث من خلال انتحار فردي، من دون كثير من الجلبة، ويمكن أن تحدث في حدث إرهابي يمنح المنتحر شيئاً من الرضا، لارتباطه بصورة مثالية يجري تسويقها من شبكات يجب أن نلتفت لقدرتها على اصطياد ضحاياها، فأول ضحية للعمل الإرهابي هو الشخص الذي ينفذه.
الفعل الانتحاري يمثل جزءاً من الإرهاب، الذي يعتبر في حد ذاته مصطلحاً واسعاً للغاية، وغامضاً على امتداد ذلك الاتساع، ولكن الفعل الانتحاري يستخدم ﻷسباب تخرج عن الإرهاب، فحدث في عديد من المرات أن يقدم أحد الطلبة على إطلاق النار على زملائه، ليكون ذلك تعبيراً عن غضب مكتوم تجاه تنمر فعلي أو معنوي، وشهدت مصر أيضاً حادثاً أقدم فيه أحد السائقين على قتل زملائه من الموظفين والمهندسين الذين ينقلهم كل صباح لمقر العمل في شركة مقاولات كبرى، وكانت أسبابه التي قدمها حول المذبحة تتعلق باعتياد زملائه على استفزازه والسخرية منه. يضمحل منسوب القيمة الفردية للإنسان في المجتمعات العربية، وحتى وجوده في طبقة اجتماعية مريحة، لا يحميه إطلاقاً من احتمالات تعرضه للذل أو المهانة، ولذلك يحاول أبناء بعض الطبقات أن يقيموا جسوراً من العلاقات مع أصحاب النفوذ ومحتكريه، ولذلك يسهل استثارة الرغبة في الانتقام، ممن تذوقوا بشكل أو بآخر تنمر السلطة على وجودهم، وتختلف درجات المقاومة من شخص إلى آخر، حسب الصلابة النفسية التي سيبديها أمام نغمة الإصلاح حتى ولو بالعنف، التي تتبناها الجماعات المتطرفة، ففي خضم الرغبة في الانتقام والذي يمكن أن يتحقق بالنجاح مثلاً أو بالوصول إلى السلطة، تأتي عملية تسويق الانتقام تحت بند الخلاص الفردي المؤسس للخلاص الجماعي، فمن يدخلون في نوبة الانتحار الإرهابي، يجعلون التخلص من عبء الحياة، خطوة صغيرة على طريق تمكين اﻵخرين من حياة أفضل، كما أنهم يحصلون على تعويض افتراضي فوري في الجنة الموعودة، والمليئة بالكرامة بالتأكيد، ضمن أشياء أخرى كثيرة.
شخصية ابن حارس العقار في رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء اﻷسواني جعلت انضمام الشاب المحبط للجماعات المتطرفة رداً للفعل على تعذيبه وإهانته، وهي مقاربة تكتسب شيئاً من الدقة، ولكنها ليست كافية لتفسير اﻷمر، فالإهانة لا تكمن في التعذيب النفسي فقط، وتمتد لتضرب في مساحات أخرى تتمثل في التعذيب النفسي الذي يقصي معظم الشباب من أمام الفرص المحجوزة مسبقاً لأصحاب النفوذ والسلطة، كما أن الاستضعاف لم يعد حصرياً على أبناء الطبقات الفقيرة، فالرعب من فوات الفرص والانكشاف أمام قلة الحيلة والعجز أخذ يتوسع ويهدد أبناء الطبقة الوسطى، ممن وجدوا أن ما حققوه من تعليم ومن مكانة ومن مكتسبات أخرى أصبحت جميعها لا تكفل لهم أي قيمة ذاتية في مجتمعاتهم.
تسهل استثارة الرغبة في الانتقام، ممن تذوقوا بشكل أو بآخر تنمر السلطة على وجودهم
البحث عن تجفيف منابع التمويل، أو تغيير الخطاب الديني جميعها وسائل جزئية لا يمكن أن تؤدي للقضاء على الإرهاب بالمعنى المتعارف عليه، ولا حتى الإرهاب الذي يقوم على اجتهادات شخصية، كالذي حملته الذئاب المنفردة، ويمكن أن يضاف معهم طبعاً منفذ عملية الاعتداء على المصلين في مساجد نيوزيلندا، ولكن الحل يكمن في تجفيف منابع الانتحار البشري، الذي يتم استثماره من قبل العقول المنظمة، وليس من حل إلا استعادة القيمة للإنسان وزيادة منسوب انتمائه للحياة والمستقبل، ولا يتأتى ذلك من دون فرض القانون وبسطه على الجميع، بكل شفافية ومباشرة، والحد من الظروف التي يمكن أن تحط من قيمة الإنسان وكرامته في أماكن التعليم والعمل، ومختلف أنواع الممارسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ليس من شيء يدلل على حاجات المجتمع ويتداخل مع المناطق المعتمة من هويته وشخصيته مثل التعبير الفني والأدبي، ولذلك يمكن التعرف على مركزية القيمة المهدرة في تغذية الإرهاب بالانتحاريين المستعدين للموت في كل مكان من العالم، من خلال الشكوى المريرة التي أرسلها صارخاً بوجل محمد الماغوط من حنجرة دريد لحام في مسرحية «كاسك يا وطن»: شوية كرامة يا أبي، ومن دون هذه الكرامة ستبقى العقول المدبرة تمتلك الخطوة المحرجة للأمام في مواجهة مجتمع يبحث عن أعراض المشكلة، من دون أن يبحث في جذورها العميقة في حياة جعلتها السلطة متساوية مع الموت، بل وجعلت الموت حلاً مناسباً للتخلص من المهانة التي تفضح العجز حتى لو من طرف خفي.
كاتب أردني
تحليل جيد و لا شك ان افتقاد الكرامة مؤثر هام في حياة الناس و يمكن ان يدخل في تفسير الكثير من السلوكيات الاجتماعية و الفردية. و لكن كيف تفسر انخفاض نسب الانتحار في بلادنا مقارنة بالدول الاوروبية التي تحترم الانسان؟ و كيف تفسر انخفاض معدلات جرائم القتل ايضا مقارنة بافضل الدول الاوروبية؟