عن المكان الأول حيث تبدأ الحياة، وإليه تظل الروح تهفو، مسقط الرأس الذي يمثل أول العلاقة بالأرض والوطن، فالمكان الأول، أو ذلك الحيز الجغرافي المحدود يظل هو المكان الذي يختصر الوطن وربما العالم والدنيا في بعض الأحيان، عن ذلك المكان كتب الشاعر الفلسطيني الراحل خالد أبو خالد 1937- 2021 قصيدة «سيلة الظهر»، يتحدث فيها عن بلدته التي ينتمي إليها وولد على أرضها، وعاش فيها سنوات من عمره، قبل أن يضطر إلى مغادرة فلسطين. سيلة الظهر بلدة فلسطينية جميلة من أعمال محافظة جنين، تمتاز بطبيعتها الخلابة وجبالها وهضابها المرتفعة، وبتاريخها المقاوم الذي قدمت خلاله الشهداء والأبطال من خيرة أبنائها. يقال إن كلمة «سيلة» قد تكون مشتقة من كلمة «سلا»، أما تسمية الظهر فتعود إلى أنها محاطة بسلسلة من ظهور الجبال المتتابعة، وقد أطلق عليها هذا الاسم نظراً لما تتمتع به من هدوء وجمال.
أرض الشعر والشهداء
سيلة الظهر من الأماكن الحاضرة في التاريخ الفلسطيني وسير الأبطال والشهداء، وحاضرة في الشعر أيضاً إذ ذكرها الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) 1909- 1980 قائلاً: «وقفت أناجي سيلة الظهر باكيا.. وأذللت دمعي بعدما كان عاصيا.. أنادي فتى فتيانها حامي الحمى.. أبا خالد هلا أجبت المناديا». هنا يتحدث الشاعر عن الشهيد محمد صالح الحمد السيلاوي (أبو خالد) والد الشاعر خالد أبو خالد، كان الشهيد محمد صالح الحمد من القادة الخمسة الكبار الذين فجروا الثورة الفلسطينية الكبرى في الثلاثينيات، وكان رفيق الشيخ عز الدين القسام في مسيرة المقاومة والجهاد، وعرف بشجاعته كمحارب قوي وبعطائه وبذله في سبيل النضال والدفاع عن الوطن، بداية من بيعه كل ما يملك لشراء السلاح وانتهاءً بتقديم روحه فداءً لفلسطين.
استشهد أبو خالد عام 1938 في معركة دير غسانة، وترك زوجة شابة كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وابنه خالد الذي كان رضيعاً في عامه الأول وشقيقته الكبرى، كان الشهيد بطلاً وكان مطلوباً حتى بعد موته ، لذا تم تهريب جثمانه ودفنه في أحد الأضرحة دون علامة واضحة أو دليل في بداية الأمر كما يروي الشاعر خالد أبو خالد.
عند قبر الوالد الشهيد كان شاعرنا يقف في صحبة جده لأمه، يقرأ ما يحفظ من القرآن الكريم ويلقي بعضاً من أناشيد الوطن، ويؤمن بأن والده الحي عند الله يراه ويسمعه، عند قبر الأب الشهيد كان ضمير الشاعر يتكون ويتشكل وجدانه حول قضية بلاده ومن خلالها. ويمكن القول إن خالد أبو خالد شاعر له ما يميزه بين شعراء فلسطين، فهو حكاية فريدة من حكاياتها الوطنية والثقافية، وهو حلقة اتصال بين فصل قديم من فصول النضال، ربما يكون الفصل المؤسس، وفصول أخرى عديدة لاحقة، وهو كذلك امتداد لتاريخ تجسد فيه حياً، فكما ناضل والده وحارب بالسلاح حتى استشهاده، ناضل شاعرنا من أجل فلسطين بطرق شتى، وهو لم يكن شاعراً وحسب، بل كان فناناً تشكيلياً وصحافياً ومذيعاً تلفزيونياً، أمسك بالقلم والريشة وحمل السلاح أيضاً وانضم إلى ساحات المقاومة ودرب الآخرين على حمله، ومثّل جيلاً من الأجيال الفلسطينية، وما عانته من غربة وتنقل بين بلد وآخر، ومن حكايته استلهم غسان كنفاني رواية «رجال في الشمس».
غادر الشاعر خالد أبو خالد بلدته سيلة الظهر مبكراً، عندما ذهب لكي يتعلم في مدرسة كلية النجاح الوطنية في نابلس، التي كانت تحتضن أبناء الشهداء وتضمهم إليها للدراسة فيها مجاناً إلى جانب التلاميذ الآخرين القادرين على دفع المصروفات، وهناك التقى شاعرنا الذي كان طفلاً في ذلك الوقت، بشاعر آخر من شعراء فلسطين، هو الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود 1913- 1948، صاحب الكلمات الشهيرة المحفوظة التي تقول: «سأحمل روحي على راحتي.. وألقي بها في مهاوي الردى.. فإما حياة تسر الصديق.. وإما ممات يغيظ العدا». هناك في نابلس حظي خالد أبو خالد برعاية خاصة من الشاعر عبد الرحيم محمود، فقد كان أستاذه في مدرسة كلية النجاح، كما كان صديقاً لوالده الشهيد. كثيراً ما كان شاعرنا يتحدث عن عبد الرحيم محمود كشخصية نادرة استثنائية هائلة النشاط والتأثير، في النواحي الثقافية والعلمية والتربوية والرياضية والكشفية، وكمناضل وطني كبير ومحارب يربي التلاميذ على حب الوطن والدفاع عنه، ويدربهم على حمل نماذج خشبية من السلاح، ويقودهم في المظاهرات التي كانت تواجه المؤامرات الكبرى في ذلك الزمن، استشهد عبد الرحيم محمود عام 1948، وعندئذ شعر خالد أبو خالد بأنه فقد أباه للمرة الثانية.
كان الافتراق الأول لخالد أبو خالد عن سيلة الظهر بسبب الدراسة وتلقي العلم، لكنه بعد وفاة جده لأمه ونظراً لصعوبة العيش، واضطرار أمه للعمل وهي الأرملة الشابة التي لم تتزوج ثانية، وكانت تقول كيف لزوجة بطل أن تتزوج من بعده؟ لم يكمل خالد أبو خالد دراسته وافترق عن سيلة الظهر مجدداً وسافر إلى الأردن بحثاً عن عمل. بين مهن مختلفة وبلاد ترحب أحياناً ولا ترحب في أحيان أخرى، انتقل شاعرنا من بلد إلى آخر، وسافر إلى الكويت عن طريق البصرة في العراق، ليساهم إلى جانب مجموعة من أعلام فلسطين كغسان كنفاني وناجي العلي في خلق حركة ثقافية وإعلامية وصحافية في دولة الكويت، عمل خالد أبو خالد مذيعاً في التلفزيون الكويتي لفترة من الزمن، إلى أن تم ترحيله من الكويت ليذهب بعد ذلك إلى سوريا. يقول الشاعر إنه عندما تم ترحيله من الكويت شعر بأنه وضع قدميه على طريق العودة إلى فلسطين، لكنه وإن لم يعد إليها وجوداً فإنه عاد إليها شعراً في كل بيت من أبياته، وفي كل قصيدة من قصائده، وتعد قصيدة «سيلة الظهر» من أجمل قصائد العودة التي كتبها خالد أبو خالد. في هذه القصيدة يعود الشاعر إلى أول مكان عرفه من أرض فلسطين، يحدثنا عن سيلة الظهر، ويجعلنا نراها من خلال عينيه، وما في وجدانه من صور مختزنة يحتفظ بها لبلدته ومسقط رأسه، وكما توجد سيلة الظهر في فلسطين، فإن فلسطين كلها توجد في سيلة الظهر عند الشاعر، وتتداخل المعاني في القصيدة بين الوطن الكبير الجامع، وذلك الجزء العزيز منه الذي يلتصق به فؤاد الشاعر وتهفو إليه روحه.
فيها الأصل وإليها الحنين
يستهل الشاعر قصيدته قائلاً: «اسمحوا لي أيها السادة إن حدثتكم عنها.. فإني من يديها القهوة المرة أسقتني.. وصبّت لي نبيذاً.. أنصتت لي.. قبلتني.. وعلى كتفي أغفت»، ثم يستمر في التعريف ببلدته الحبيبة ورسم صورتها وملامحها بالكلمات، ووصف أوجاع الغربة والافتراق، ومحاولات العودة أو تخيلاتها، والمقاومة والموت والفداء من أجل فلسطين، والتغني بالبلدة شعراً شعبياً بلهجة فلسطين العامية، والحديث مع سيلة الظهر ومناجاتها. تعكس قصيدة «سيلة الظهر» مجموعة من ملامح أسلوب خالد أبو خالد الشعري، الذي يمتاز بقوة الروح الفلسطينية ورسوخه في أرض الوطن، وقربه من الناس والمخيلة العامة والوجدان الجمعي، وكان هذا مما يرنو إليه الشاعر دائماً سواء في أعماله الشعرية الفصيحة، أو في أشعاره العامية الشعبية باللهجة الفلسطينية، والمعروف أنه كتب مجموعة كبيرة من القصائد العامية، غنتها فرقة الجذور الفلسطينية كما غنت بعض قصائده الفصيحة، وهي في أغلبها أغنيات تستلهم التراث الفلسطيني، أو تنسج على منواله، وتعد هذه الأغنيات جزءاً من ذاكرة الشعب الفلسطيني، وثقافته الحية الأصيلة، وهذا من طبع الشاعر الذي أوتي موهبة الكتابة بالفصحى والعامية على السواء، وهو أمر لا يستطيعه كل الشعراء، وكان يتطلع دائماً إلى قوة الشعر الشعبي، ومدى قدرته على الوصول السريع إلى وجدان الناس وأعماق قلوبهم. في قصيدة «سيلة الظهر» يدمج الشاعر العامية بالفصحى في بعض مقاطعها، كقوله: «ندر عليا يا أصيلة.. اللي ضايل من إيديا ومن عينيا فدوة يا حلوة.. وهدية.. وسامحيني إن أنا قصرت عند السفح.. فالحبل انقطع»، وكقوله: «آه يا أم الخلايل.. سيلة الظهر التي غنيتها.. سيلة بلدنا والدما مزرابها.. طول الزمن وأولادها غرب.. حزانى.. وضايعين.. مشتتين الصحرا عافتهم.. وحارات المدن المعتمة جاني عليهم بابها وبوابها».
بشكل عام كان خالد أبو خالد يعمل على تقريب الشعر إلى الناس ولا يخلق الجفاء بينهما، وفي قصيدة «سيلة الظهر» نجد جزالة اللفظ وقوة المعنى، والقدرة على تصوير أدق خلجات النفس ونوازع القلب والوجدان، والجمع بسلاسة بين الصور الحقيقية والصور الخيالية، والجمع كذلك بين العربية الفصيحة والعامية الفلسطينية في القصيدة الواحدة، وذلك الثراء اللغوي والاختيار الدقيق من بين الألفاظ والمفردات الفصيحة والعامية على السواء، للتعبير عما يجول في خاطره من معان وأفكار، والتناول الصادق للمشاعر الشخصية التي تمس أعماق قلبه وذكرياته وارتباطاته وتعلقاته الخاصة، والمشاعر الوطنية العامة والجرح الفلسطيني الهائل، وتقديم كل ذلك للقارئ في صبغة فلسطينية خالصة وبكلمات تستروح نسيم الوطن.
ومن فنونه الشعرية أيضاً التي نلمسها في قصيدته ابتكارية المعاني الرمزية لديه، وموسيقى الكلمات ووزن الألفاظ، فالكلمات ترسل موسيقى يستشعرها القارئ ويسير على وقعها أثناء مطالعة القصيدة مع أنغام الألفاظ وجرسها. يكرر الشاعر بعض الجمل والمفردات، ويكون لهذا التكرار دوره في إيقاع وموسيقى القصيدة، وكذلك في توصيل فكرة معينة وتأكيد معنى ما كقوله: «آه كم واعدتها.. في الصيف قادم.. في الصيف قادم»، «يا عروسي بعد عشرين رحيلاً ورحيلاً ورحيل»، «زيتنا الصافي اعتصرناه.. اعتصرناه.. اعتصرناه.. اعتصرناه». يجمع الشاعر الذكريات ويلملم ما تبعثر منها ويتشبث بالوطن حتى آخر نفس ولحظة، كما يعبر في خاتمة القصيدة من خلال تلك الصورة الرائعة التي رسمها بالكلمات قائلاً: «فالحبل انقطع.. والذي يربطني بالحبل شرياني.. ورمشي.. احترقا.. فهويت.. رئتي مشبوكة بالصخر ما زالت.. فمدي لي يديك». وعن القضية والموت والمقاومة يقول الشاعر: «لا تلوميني.. ففي خفق الخطا عشنا على مر السنين.. نتحدى السوط بالكلمة.. والحربة بالصدر المعرى.. ونموت ويموتون.. ونحيا لنقاوم»، «آه يا متراسنا الصامد في وجه الجنازير الردية».
في مواضع عدة من القصيدة يبدو شغف الشاعر بقريته وتصويره الجمالي لها، حيث يأخذ في الإشارة إلى طبيعتها الحسناء، التي تحفز مخيلته وتمد قريحته ببديع الصور والكلمات، يراها الشاعر ليلكية اللون، أو هذا لونها في عينيه، يذكر جبال الثلج، النارنج والعشب والندى والنبع، السنابل السمراء والزيتون، سهل الشمال وريح الشمال، كرم التين، تل الصيافير. يقول الشاعر: «إنني أجترح الصيف الذي تعشقه أم الجدايل.. من جبال الثلج والمستنقعات.. صيفنا الطالع في كل السماوات»، «آه كم واعدتها.. في الصيف قادم.. في الصيف قادم.. فانطريني عند كرم التين في تل الصيافير». وعن آلام الغربة والافتراق يقول الشاعر: «الطير المسافر في سماء النار»، «يا طيري المهاجر.. حط عند الكتف لمحة.. خذ لعينيها من العازف والناي المعنّى نغمة»، «صيفنا الآتي على سنبلة شتتت حباتها السمراء في الأرض الأعاصير.. فهاجرنا وصدتنا المهاجر.. أنت بعد البحر مرسى.. وأنا في البحر.. موج البحر لا يرجع أو يخشى المخاطر». يطول حنين الشاعر إلى سيلة الظهر ويبرح به الحزن، وتطغى مشاعر الشوق واللهفة في شعره العذب الحر الطليق، الذي تجتمع فيه رقة قلب الشاعر الفنان، وقوة عزيمة المناضل المحارب.