من زاوية نظر القوى العظمى، تبدو المأساة السورية المديدة مجرد قطعة «بزل» في لوحة مفككة يراد إعادة تركيبها وفقاً لموازين القوى الفاعلة في الإقليم. أضف إلى ذلك أن الجغرافيا السورية نفسها هي لوحة بزل جزئية في اللوحة الأولى، لم يكتمل رصف قطعها بعد، وما العمليات العسكرية والسياسية الجارية، فيها وبشأنها، إلا محاولات للانتهاء من تركيبها، ليتسنى وضعها في مكانها المناسب في لوحة البزل الكبيرة. وتضم هذه الأخيرة، إلى سوريا، لبنان والعراق والأردن واليمن والمنظومة الخليجية معاً، إضافة إلى القسم الآخر الشمال إفريقي المكمل للقسم الآسيوي.
الصراعات الدائرة الآن في هذا الإقليم الكبير هي، أساساً، للسيطرة على، أو المشاركة في، وضع أسس نظام شرق أوسطي جديد يفترض أن يحل محل القديم. ويعود هذا الأخير إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حين انتهى الاستعمار الأوروبي التقليدي لبلدان المنطقة، وتم إنشاء دولة إسرائيل، وتوزعت الدول العظمى مناطق نفوذها. حدثان مفصليان جعلا إعادة النظر في النظام الإقليمي ممكناً وضرورياً من زاوية نظر القوى العظمى، هما الاحتلال الأمريكي للعراق (2003) وموجة ثورات الربيع العربي (2011). بدا التمدد الإقليمي الإيراني كما لو كان عرضاً جانبياً للحدث الأول، تحول، لاحقاً، إلى مشكلة تستوجب الحل لكي يعود النظام القديم إلى استقراره. لكن ما حدث في الواقع هو إفساح المجال أمام إيران لمد نفوذها باطراد، وصولاً إلى إلحاق 4 عواصم عربية وغزة بمركز القرار في طهران. لقد خلخل هذا التمدد أسس النظام الإقليمي، وكان من المحتمل تقبل هذا «التعديل النسبي» في النظام ليستمر في أساسه كما كان في السابق، لولا موجة ثورات الربيع العربي التي أطاحت بالاستقرار المديد للنظام، وجعلت إعادة بنائه على أسس جديدة برنامج عمل القوى العظمى الفاعلة، وبعض القوى الإقليمية الطموحة.
قامت سياسة الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما على ترك القوى الإقليمية الكبيرة أو المتوسطة تتصارع فيما بينها على السيطرة على الإقليم، مع مراقبة تلك الصراعات وضبط إيقاعها من بعيد، بدون تورط عملي فيها. وكان رهان أوباما على إيران هو أن تستكمل مشروعها الامبراطوري لتشكل القطب الإقليمي المواجه لإسرائيل ليتحقق التوازن فالاستقرار، وما ينطوي ذلك على اعتبار الدول العربية مجرد موضوع للهيمنة الإقليمية.
جاء انقلاب ترامب على سياسة سلفه في الموقف من إيران، ليتحول من المراهنة على هيمنتها إلى محاولة وقف تمددها وصولاً إلى إعادتها إلى داخل حدودها القومية. وهذا ما يشكل أحد أبرز وجوه السياسة الأمريكية في الإقليم اليوم. أما وجهها الآخر فهو تمكين إسرائيل من خلال ما يسمى بصفقة القرن العربية ـ الإسرائيلية، ومقدمتها إنشاء «ناتو شرق أوسطي» في مواجهة إيران يضم تحالفاً بين إسرائيل وعدد من الدول العربية.
الصراعات الدائرة الآن في هذا الإقليم الكبير هي، أساساً، للسيطرة على، أو المشاركة في، وضع أسس نظام شرق أوسطي جديد يفترض أن يحل محل القديم
من جهته، نشر عالم الاجتماع والمؤرخ التركي تانر آكجام، قبل أشهر قليلة، مقالة مطولة يقترح فيها قيام تحالف إقليمي ينهي الصراعات في المنطقة ويجلب إليها الاستقرار، تقودها دولتان هما تركيا وإسرائيل! تقوم فكرة أطروحة آكجام المتحدر من تاريخ ماركسي، على أساس أن سبب الصراعات الدائمة في هذا الإقليم إنما هو التدخلات الخارجية التي قد تصنع، من حين لآخر، استقراراً ظاهرياً، لكنها لا تحل مشكلات المنطقة البنيوية. وتدور الصراعات هذه على الهيمنة على المنطقة، وهو ما تفشل أي دولة منفردة في تحقيقه، فتلجأ الدول والمجموعات الإثنية أو الدينية المفتقدة إلى دول، في كل مرة، إلى مساعدة خارجية من دول عظمى، وهو ما يفاقم الصراعات بدلاً من إيجاد حلول لها. في حين أن قيام ائتلاف إقليمي بقيادة تركية ـ إسرائيلية من شأنه أن يحل المشكلات المزمنة ويصنع استقراراً مستداماً، حسب رأيه. ويسوق آكجام عدداً من المسوغات لأطروحته الغريبة، لا يتسع المجال هنا لعرضها أو تلخيصها.
صحيح أن الحكومة التركية لا تتخذ مقترحات آكجام أساساً لسياستها الإقليمية، لكن غرابة الأطروحة جديرة بالتأمل.
وأول ما يخطر في البال، تعليقاً عليها هو أنها مصممة، جزئياً، على ضوء التوجهات الأمريكية الجديدة، وبخاصة فيما يتعلق بدور إسرائيل في المقاربة الترامبية الخاصة بفكرتي «الناتو الشرق أوسطي» و«صفقة القرن». في حين أن ضم تركيا إلى إسرائيل تبدو بعيدة كل البعد عن التوجهات الأمريكية، بل إن السائد، حالياً على الأقل، في العلاقات التركية ـ الأمريكية هو التوتر.
وثاني ما يخطر في البال، بشأن أطروحة آكجام، هو النظرة إلى العالم العربي كمجال هيمنة، أي كطرف ضعيف بحاجة إلى وصاية من قوة هيمنة إقليمية. والحال أن المشهد العربي الراهن لا يكذّب هذه النظرة التي يتشارك فيها الأمريكيون والأوروبيون والروس وإسرائيل وإيران معاً، أي جميع القوى الدولية والإقليمية القادرة على رسم مصائر منطقتنا. لكن تركيا بالذات هي الطرف الأضعف بين القوى القادرة المذكورة، فضلاً عن الضغوط الأمريكية والأوروبية (والروسية من جهة أخرى) التي تتعرض لها للحد من فاعليتها. وربما كان وعي آكجام لهذا الواقع التركي هو الرائز الأساس لأطروحته، أعني إخراج بلده من خانة الضعفاء ومنحه موقع الهيمنة الإقليمية بالاشتراك مع إسرائيل. هذه الشراكة المقترحة هي أيضاً على مقاس حدود القوة التركية. لأن إسرائيل المنبوذة في محيطها الإقليمي، ستبدو كـ»الأخ الأصغر» بالنسبة لتركيا القادمة من إرث امبراطوري عربي ـ إسلامي، ومقبولة أكثر من الجوار العربي بسبب الدين المشترك والثقافة المتقاربة.
القصد من الحديث عن مقالة المفكر التركي هو أن اقليمنا مفتوح، في اللحظة الراهنة، على «الاقتراحات» والسيناريوهات في غياب دولة مركزية عربية تشكل قطب قوة إقليمية يحسب لها حساب في التوازنات الدولية. ومقابل أفول الدور الإيراني المتوقع، بعدما أخذ فرصته كاملة وفشل فشلاً ذريعاً، ثمة فقط إسرائيل وتركيا. أما مصر والسعودية التي ترشحهما امكاناتهما للعب دور مركزي، فنحن نرى، منذ سنوات، كيف فعلت قيادتاهما كل ما من شأنها إضعاف دورهما وتهميش فاعليتهما الإقليمية المحتملة.
كاتب سوري
وكان رهان أوباما أن تستكمل ايران مشروعها الامبراطوري لتشكل القطب الاقليمي المواجه لاسرائيل لتحقيق التوازن فالاستقرار في المنطقة!!!!! ( كذا؟!!)
ثم جاء انقلاب ترامب على سياسة سلفه!!!!( كذا؟؟؟؟!!!)