سينما «الديجتال»: عالم آخر يتسع لإبداع القارات الثلاث

في البداية وقبل اكتشاف التقنيات الرقمية كانت الصناعة السائدة للأفلام هي الطريقة التقليدية المُتبعة التي بدأت بالفيلم 35 مليمترا، ذلك النوع الذي استمر طويلاً وتأسست من خلاله قواعد السينما في العالم كله وتكوّن على أثره التاريخ الصناعي للتراث السينمائي، فلم يكن هناك قبل حلول الألفية الثانية أفق آخر لصناعة سينمائية متطورة، حيث لم تدخل حينئذ التقنيات الرقمية حيز الوجود.
مع تعدد الأقمار الصناعية والاتجاه إلى استغلال التكنولوجيا الحديثة في عملية التواصل الإعلامي عبر البث المُباشر للفضائيات بدأت تظهر على استحياء أولى تجارب أفلام الديجتال الرقمية كحالات فردية. وكما هي العادة في استقبال كل جديد وجدت الصناعة الحديثة مقاومة من جانب الصُناع التقليديين للسينما الكلاسيكية، إذ بدأت حملات التشكيك في مستوى الجودة الخاصة بالصورة والصوت كذرائع لرفض الدخيل الصناعي الحديث من وجهة نظر المُتمسكين بالتراث والقديم، وعلى أثر الحرب الدائرة بين الفريقين آنذاك دار النقاش في الندوات التي أقيمت على هامش الدورة الحادية والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2007 لأول مره للوقوف على العيوب والمزايا الخاصة بالنظام الرقمي للسينما الحديثة.

ولأنه من الطبيعي عدم حسم القضية الخلافية في ندوة واحدة ظلت الحوارات والمناقشات مُستمرة طوال فترة انعقاد المهرجان، ومنذ هذا التاريخ الذي يتجاوز الخمسة عشر عاماً، لا يزال الجدل قائماً حول المقارنة بين أفلام 35 مليمترا وأفلام الديجتال، رغم سيادة الأخيرة ووجودها بقوة كأمر واقع. وبالنظر إلى حيثيات التشجيع على إنتاج سينما الديجتال، وأسباب الإصرار عليها نرى في بعض الآراء الموضوعية للمُتخصصين ما يُبرر التمسك بالنظام الصناعي الحديث كامتداد طبيعي لمنظومة التقدم العلمي في المجالات كافة، فعلى سبيل المثال أبدى بيتر سكارليت المُستشار الفني لمنظومة السينما الرقمية في الولايات المُتحدة الأمريكية قبل سنوات، تأييده لأفلام الديجتال، التي تُمثل من وجهة نظرة المُستقبل الحقيقي لصناعة السينما في العالم وتُعطي فرصاً ثمينة لمحبي السينما في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي لإنتاج أفلام مهمة بتكلفة مُنخفضة تعبر عن ثقافة الشعوب وتطرح قضاياهم، دون الحاجة إلى تدفق أموال إنتاجية تُقدر بملايين الدولارات، وهذه ميزه عظيمة حسب رأيه تدفع بالتيار السينمائي في اتجاهات مُختلفة بعيداً عن سيطرة القطب الواحد.

وللسينمائي الفرنسي برتلاند موليير، الذي شغل منصب المدير العام لرابطة مُنتجي الأفلام لعدة سنوات متتالية، رأي قاطع في هذه المسألة، حيث أكد أن التجربة العملية في بريطانيا والهند أثبتت جدارة غير مسبوقة في جدوى التحول السينمائي نحو التقنيات الرقمية، خاصة في الهند التي تمتلك عشرات الآلاف من شاشات الديجتال المتطورة، تعمل جميعها بالنظام الرقمي الحديث، وهو تفوق ملحوظ ربما يتجاوز ما أنجزته بريطانيا والولايات المُتحدة الأمريكية في هذا الخصوص. وقد أشار موليير إلى عوائق السينما التقليدية مُحدداً بصفة خاصة مُشكلات القرصنة باعتبارها تُمثل تهديداً كبيراً للإبداع وحقوق الملكية الفكرية، وهو أمر مُنتهٍ بالنسبة لسينما الديجتال الرقمية المُتصلة مباشرة بالأقمار الصناعية، فضلاً عن وفرة الإنتاج التي يتيحها النظام الرقمي، الذي قلل كثيراً من استهلاك الأفلام الأمريكية بعد تنوع الإنتاج في بعض الدول الأخرى، ففرنسا على سبيل المثال كانت تعتمد في عروضها السينمائية على خمسين في المئة من إنتاج هوليوود، في حين لم تعد الهند تستهلك أكثر من أربعة في المئة من الإنتاج الأمريكي بعد تطبيقها للتقنيات الرقمية ونهوض الصناعة السينمائية المحلية لديها، التي تطورت بشكل ملحوظ وابتعدت عن النوع التجاري التقليدي من الأفلام الجماهيرية.

ومن التجربة الهندية إلى التجربة المصرية في وقتها المُبكر، برز فيلم «تيمور وشفيقة» إنتاج عام 2007 للكاتب تامر حبيب والمخرج خالد مرعي والبطلين منى زكي وأحمد السقا وهو من الثمار الأولى للنظام الرقمي الحديث، فالفيلم نجح نجاحاً ملحوظاً، وتم عرضه في العديد من دور العرض السينمائية على مستوى الجمهورية وبلغت إيراداته مبلغاً مُرضياً فكان نموذجاً لتجربة فريدة من نوعها، حينئذ تم القياس عليها بعد ذلك في مراحل تالية بعد الاستقرار على صلاحية النظام الحديث والتأكد من إيجابياته التي تفوق بكثير سلبياته المحدودة، إضافة إلى الميزة الأهم وهي انخفاض التكلفة الإنتاجية وسهولة توزيع الأفلام وعرضها في توقيت واحد في مختلف الدول. ومن بين من انتصروا لتقنيات سينما الديجتال، أو السينما الرقمية في فترة الخلاف على العمل بالنظام التكنولوجي، المصور السينمائي سعيد شيمي، الذي أدخل بدورة تقنيات التصوير تحت الماء كابتكار جديد، فقد رأى الشيمي ضرورة أن يُبادر المُبدع دائماً إلى الاكتشاف والبحث الدؤوب عن المُدهش والمُثير، فالسينما صناعة وإبداع ولا بد لها من الدخول في مضمار التطور وعدم الوقوف عند مرحلة بعينها لمجرد أنها ثابتة ومقررة، فعلى الرغم من التاريخ الطويل لعمر السينما التقليدية، إلا أنها باتت تحتاج إلى نوع من التطوير في ظل الطفرات التكنولوجية الحديثة، وقد حققت التقنيات الرقمية غاية السينما وصُناعها في التجديد والوصول بالإبداع إلى أعلى مستوياته العلمية، وهي إضافة مُثمرة في كل المقاييس يجب استغلالها الاستغلال الأمثل للنهوض بالصناعة والارتقاء بالمحتوى الفني.
هكذا جاءت آراء خبراء السينما في استشراف مستقبل السينما، إبان احتدام الأزمة بين الكلاسيكيين والحداثيين قبل أن تُحسم القضية الجدلية لصالح الداعين للعمل بالنظام الرقمي لإنتاج أفلام قوية وغنية بتكلفة اقتصادية محدودة.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية