يتساءل الفيلسوف عن ماهية الفن والدور الذي يلعبه في الحياة، هل يمكن حصره في توفير المتعة للروح؟ أم أنه ورشة لرفع الهيمنة عن الإنسان، والمعرفة من أجل أن يصبح قادرا على النضال ضد القهر والاستبداد؟ هكذا يكون قدر الفن السينمائي هو ذاته قدر الفلسفة، أي الدعوة إلى ثورة الحرية، التي تبدأ بالاستعمال العمومي للحق في التنوير والمعرفة، ذلك أن الفن لم يعد هو أصل العمل الفني، كما أراد له هايدغر، بل أضحى منخرطا في الدفاع عن الإنسان بما هو إنسان، إلى أن يحقق كرامته.
والحال أن نيتشه لم يستعمل العدمية إلا من أجل الإعلان عن «موت الإله» وولادة الإنسان الأعلى، هذا الإنسان الذي تحرر من قهر الكنيسة، ولعل أندري لالاند يحدد العدمية بأنها: «مذهب يقول بعدم وجود أي شيء مطلق»، ولذلك ينشر اليأس ويحطم إرادة المعرفة. فإلى متى ستظل العدمية تهدد الفلسفة والسينما في الوقت نفسه؟ وهل استطاعت السينما أن تعري العدمية كما هو الحال بالنسبة للفلسفة؟ وبعبارة أخرى: هل هناك صورة اللاجدوى كسؤال اللاجدوى؟
والحال أن هدف السينما لا يمكن أن يكون سوى الفلسفة، على الرغم من أنها لم تعترف بذلك في يوم من الأيام، بيد ان شغفها بصورة الفكر لا ينفصل عن شغف الصورة بالمفهوم في الفلسفة، فكلاهما يسقط أسيرا للحركة بما هي كمال لما هو بالقوة، فالحركة حين تخرج إلى الفعل تصبح مفهوما ثابتا، وقد يكون هذا التحديد الأرسطي للحركة ساهم في إبداع فلسفة السينما عند دولوز ودمينيك شاتو، لأنهما معا يتفقان على أن السينما تمنح المشاهد القدرة على التفكير، والفلسفة هي الفكر وقد غادر العقل. هكذا تصبح السينما موضوعا مهما بالنسبة للفلسفة.
من أجل تفسير الغموض بالغموض، لا بد من تحريف الكوجيتو الديكارتي بالكوجيتو الغوداري، الذي يقول أنا أفكر إذن فالسينما موجودة، والظاهر من خلال حميمية هذا الجمع، أن السينما التي تفكر هي شعار فلسفة ما بعد الحداثة، ذلك أن تجاوز التسلية والتفاهة لاختراق الروح بمتعة عميقة تساعدها على الانعتاق من سجن الجسد الذي حطمته الشهوات الحسية، ولكي تسقط الفلسفة في عشق السينما لا بد من هذا الأصل المشترك، أي الفكر.
فيلسوف المستقبل هو الفيلسوف الفنان، بلغة نيتشه، وبما أن دولوز كان أحد ضحايا فلسفة العود الأبدي والإنسان الراقي، فإنه حطم سفينته على صخرة الأبدية، ولذلك أراد أن يحقق هذا الأمل النيتشاوي، وأضحى هو الفيلسوف الفنان، ويبدو ذلك واضحا من خلال كتابيه «الصورة حركة» و»الصورة زمان»، لأنهما معا بمثابة سؤال السؤال عن ماهية الفن فلسفيا، لأن ما كان يهم دلوز ليس الأفلام، بل السينما بما هي فن وليس بما هي تقنية. يقول دولوز: «السينما فكر يفيض على الواقع.. مدرسة للرؤية، لا تهتم إلا بالعين الساحرة بجمالها وبراءتها».
والملاحظ أن سقراط في كتاب «الجمهورية» يقول الكلام نفسه عن العين، باعتبارها زينة الجسم، ولذلك يتعين على الرسام أن يلونها باللون الأرجواني وليس باللون الأسود، من أجل أن يظهر جمال وجه الإنسان.
يبدو أن الاختراق الأنطولوجي للكينونة لا يتم سوى من خلال الصورة، فالعين هي مصدر التقاط الصورة، فكلما كانت السينما استيطيقية، استحوذت على العين، لكن من المؤسف أننا لم نعد نرى الصورة في السينما العربية، بل نسمع للثرثرة في أفلام متورطة في تقنية المونتاج، إذ أضحى المونتاج هو ماهية الفيلم، حيث أخذ مكان السينما، فيلم من دون سينما، بمعنى غياب أصل العمل الفني، ما حكم بموت المتعة الاستيطيقية.
الإنسان موجود في العالم، لكنه يجهل ذلك، إلى أن تأتي الفلسفة وتخبره، ولن يتيقن إلا عندما يشاهد نفسه في السينما، والحال أن السينما ينبغي أن تصبح بمثابة أنطولوجيا الحاضر، على الرغم من أن: «الإنسان لا يهم الأنطولوجيا من حيث هو إنسان، بل من حيث هو ذلك الكائن الذي ينكشف من خلال معنى الوجود». فمعنى الوجود هو نفسه معنى الإنسان، ولذلك يتعين على السينما أن تصبح وجودية إذا أرادت أن تتسلل إلى كينونة الإنسان. وبما ان التقنية تمحي الفن، بعدما أضحى المونتاج هو المحو نفسه، فإن العودة إلى الفلسفة لم تعد ضرورية، بل هي واجب حتى لا تفقد السينما ماهيتها، ولذلك نجد دولوز يبرئ نفسه من مهنة النقد السينمائي عندما أعلن في مقدمة كتابه أنه ميتافيويقي يعالج ما بعد الصورة، كما كان أرسطو يفسر ما بعد الطبيعة. هكذا يكون دولوز قد انتقل إلى قارة السينما ومعه أدواته الفلسفية وأسئلته الميتافيزيقية، وأهمها سؤال الوجود والصورة كماهية.
فالفلسفة ليست فقط إبداعا للمفاهيم، بل هدفها الحقيقة، شغوفة بماهية الأشياء، والماهية لا يمكن تحديدها، من دون صورة، تبهر العين وتجعلها مندهشة، وبما أن الدهشة هي أصل الفلسفة، فإنها أيضا أصل السينما، ذلك أنها تتوجه نحو الروح التي تخضع للحواس، خاصة حاسة العين التي تشكل مصدرا للذوق الذي سمح بظهور الاستطيقا، ولعل هيغل في كتاب الاستطيقا، جعل من الروح مجرد ذوق، ولا يمكن أن ينمو خارج الفن.
ما ينقص السينما العربية هو هذه الروح التي تنقلها إلى أصل العمل الفني، أي الفن السابع، الذي يصالح بين الفن والإنسان، والحقيقة والفكر في عالم متوحش قام بتدمير الفن والفكر عندما أرغم الإنسان على عدم الاستجابة لنداء الوجود، فمفهوم الوجود هو الذي يحدد معنى الإنسان، إذ لا يكفي أن نقول إن الإنسان هو الموجود الذي يفهم الوجود، بل إنه غاية الوجود، إنه وثيق الصلة بالوجود، ومن خلاله يكتشف بأنه موجود في العالم.
كاتب مغربي