«سي الباجي»: نظامنا برلماني وشعبنا رئاسي!

إذا كانت الأجيال التي ولدت في الثمانينيات أو بعدها قد حرمت معرفة المغفور له الزعيم الفذ الحبيب بورقيبة (الذي يوافق اليوم ذكرى مولده)، فإنه قد أتيح لها منذ عام 2011 أن تعرف شخصية سياسية ذات نكهة بورقيبيّة خالصة. إذ إن الباجي قائد السبسي، رحمه الله، لم يكن نموذجاً للجيل الوطني الذي تتلمذ في المدرسة السياسية البورقيبية فحسب، بل إنه قد كان أيضاً أشبه أبناء جيله ببورقيبة في أسلوب التواصل وفنّيات الخطابة. ولهذا، كان من الطبيعي أن يقول كثير من التونسيين، عام 2014، إنهم صوتوا لـ«سي الباجي» رئيساً لأنه «مثل بورقيبة» أو «يشبه بورقيبة»، قبل أن يختموا بالعبارة التي يلوذ بها التونسيون في مواقف الحنين: «يا حسرة»!
كان سي الباجي (الذي يناديه بعضهم «بجبوج» تحبّباً) يعرف، على غرار أستاذه، كيف يخاطب التونسيين بما يفهمون. ولعل أحد أقوى الشواهد على معرفته بالتونسيين من ناحية، وبراعته في إطلاق العبارات الجامعة المانعة على الطريقة البورقيبية من ناحية أخرى، أنه قال مرة: «نظامنا برلماني، أما شعبنا فهو رئاسي!». وهذا في نظري توصيف دقيق لعلة الانسدادات التي يعانيها النظام السياسي التونسي منذ خمسة أعوام. فقد فرض المجلس التأسيسي دستوراً يوزع الحكم بين الأحزاب توزيع الدم بين القبائل على شعب ثقافته السياسية ثقافة رئاسية أبوية مركزية. شعبنا رئاسي وسيظل رئاسياً. فمتى يفهم أهل السياسة؟
ومن عبارات قائد السبسي البليغة الأخرى أنه أجاب، عندما سألته الصحافة الفرنسية في دوفيل عام 2011 عن توقعاته بشأن الربيع العربي: «كل ما هنالك الآن هو ربيع تونسي غير مضمون النتائج. أما إذا أزهر الربيع التونسي وأينع، فيمكن التفاؤل بربيع عربي». كما أذكر أن قائد السبسي قدّم، أيام كان وزيراً للخارجية، شرحاً سياسياً وقانونياً في البرلمان لموقف تونس من القصف الأمريكي على ليبيا يوم 15 نيسان/أبريل 1986 رداً على عملية تفجير ليبية استهدفت جنوداً أمريكيين في برلين. وكان مما قال آنذك، معرّضاً بالقذافي وأشياعه: «هذا ما يستوجبه القانون الدولي. وإذا كان البعض لا يفهم القانون الدولي، فلا يؤاخذنا على أننا نفهمه»!

قدّم قائد السبسي، أيام كان وزيراً للخارجية، شرحاً سياسياً وقانونياً في البرلمان لموقف تونس من القصف الأمريكي على ليبيا يوم 15 نيسان/أبريل 1986 رداً على عملية تفجير ليبية استهدفت جنوداً أمريكيين في برلين

وأثناء زيارة أداها وزير الخارجية البريطاني، دغلس هيرد، إلى تونس، استفسر عن العلاقات مع ليبيا، فأجابه قائد السبسي بأنها علاقات تاريخية قائمة على التضامن وحسن الجوار، وبأن تعزيزها يخدم مصلحة الجانبين، ـ «ولكن كيف تتصرفون مع القذافي؟» ـ «مثلما نتصرف مع الروماتيزم في تقلّباته بين حالات الالتهاب والسكون. ألم كامن لا ينتهي، ولكنه لا يميت. ولهذا فإننا نتعايش معه».
أما حنكة سي الباجي الدبلوماسية، فقد تجلّت بأوضح ما يكون عقب العدوان الإسرائيلي على حمام الشط مطلع تشرين الأول/أكتوبر 1985. إذ بذلت الدبلوماسية التونسية بقيادته جهوداً استثنائية لاستصدار قرار من مجلس الأمن بإدانة العدوان ومطالبة إسرائيل بدفع التعويضات اللازمة. وما كان لقرار الإدانة أن يصدر لولا نجاح تونس في استجماع التأييد الدولي من ناحية، وممارسة الضغوط الذكية لحمل أمريكا على الامتناع عن ممارسة حق النقض من ناحية أخرى. ومعروف أن أمريكا دأبت على مدى العقود على نقض أي مشروع قانون لإدانة إسرائيل. ثم إن ما عقّد الوضع آنذاك أن الرئيس ريغان سارع فوراً إلى وصف الاعتداء الإسرائيلي بأنه «دفاع مشروع عن النفس»، إلا أن الغلبة الدبلوماسية آلت آخر الأمر إلى تونس بعد أن أصدر ريغان، في استثناء أمريكي لا سابق له ولا لاحق، تعليماته لمندوبه فرنون وولترز بالامتناع عن التصويت. وهكذا صدر قرار مجلس الأمن يوم 4 تشرين الأول/أكتوبر بإدانة عدوان إسرائيل. وقد كان وقع الصدمة على مندوبها الذرب اللسان بنيامين نتانياهو صاعقاً إلى حد أنه توجه إلى مقعد فرنون وولترز وجذبه من جاكيتته احتجاجاً على كل هذا الغدر!
إذا التمست سيرة ذاتية لسي الباجي فلن تجدها، لأنه لم يكتبها. على أنك واجد قصة حياته مبثوثة بثاً موزوناً مقدّراً في كتابه «بورقيبة: القمح والزؤان» الذي لا شك عندي أنه سيبقى سيرة مرجعية يعتدّ بها رغم كثرة السير والشهادات التي نشرت عن زعيم تونس التاريخي.

كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هادي:

    من المدرسه البورقيبية بقي لنا الطاهر بلخوجة أطال الله في عمره.
    تحياتي سي مالك
    هادي
    برشلونه

  2. يقول محمد جسوس:

    هراء واستهتار وجهل : القايد السبسي رجل سياسي ينتمي لبلد صغير لايؤتر حتى على تونس … وما قلته عن امتناع ريقن عن التصويت غير دقيق .

    1. يقول الشاذلي:

      ينبغي أن تكون تونسيّا صميما حتّى تدرك ما قيل في المقال. والإدراك أعلى درجة من مجرد الفهم.

    2. يقول عبد المجيد - المغرب:

      الغريب أن وزير خارجية هذا البلد الصغير قال قبل أيام إنه مستعد لإعادة القضية الفلسطينية إلى الصدارة! ولا أعرف كيف يمكن لبلد صغير جدا وهو نفسه ليس في الصدارة أن يعيد القضية الفلسطينية إلى الصدارة!

    3. يقول الشاذلي:

      هذا هو قَدَر هذا البلد العربي الصغير مساحة، قليل عديد شعبه ولكنه عظيم بأبنائه. لا يجد إلا الاستخفاف من أشقائه أقول لمن يؤلمهم تفوّق هذا البلد على الكثير من ممالك التخلّف وجملوكيات الزيف : تعلموا منه كيف تكونون كبارا حقا لا توهما واجتهدوا وإن لم تستطيعوا فكفوا عن التشويش وابدؤوا بالارتقاء بمستوى تعليقاتكم.

  3. يقول عادل:

    هل دخلت في علم الله بقولك المغفور له .بل قل نطلب الرحمة له

  4. يقول عابر سبيل:

    تونس بلد صغير ولكن بإنجازات يعجز عنها كثير من “الكبار”.

  5. يقول مغربي محب للخضراء:

    تونس صغيرة ولكن إنجازاتها تفوق إنجازات كثير من “الكبار” وأنظمة القرون الوسطى.

  6. يقول المغربي-المغرب.:

    أعتقد أن الأستاذ التركي عاد بنا كتابة واسلوبا إلى زمن التقريض الذي كان مفروضا بقوة التسلط والنرجسية المفرطة على كل وسائل الإعلام. ….وأعتقد أيضا أن هذا التوجه لم يأتي من فراغ…ولكنه نزوع ممنهج نحو استنساخ الماضي في الحاضر بإضافة توابل الإنشاء وصيغ المبالغة. ..وهذا رهان مؤسف على قصر أمد الذاكرة الشعبية والمراهنة على نسيانها لكل الكوارث السابقة في عهدي بنت عمار وسيلة….وبعدها الدكتورة في علم الكوفرة. …ولاحول ولا قوة إلا بالله.

إشترك في قائمتنا البريدية