تقع مدينة خانقين في الجهة الشرقية من العراق، وترتوي أراضيها من نهر الوند الذي يتحدّر من جبال زاجروس في إيران، ويبلغ طوله من منبعه إلى مصبّه 150 كيلومترا، ويقسم النهر (الذي يُسمّى أيضا نهر حلوان) مدينة خانقين إلى جانبين يربطهما جسر الوند الحجري، الذي شيّدته أميرة فارسية في الماضي القديم من أجل أن يعبر الحُجّاج إلى الضفة الثانية من النهر، وكانوا يجدون مشقة عظيمة بسبب تدفّق المياه السريع والعنيف.. وأمسكتها مرّة موجة عالية وكادت تغرق المركب الذي ينقلها، ونذرت الأميرة لو أنها نجت، أن تبني في المكان جسرا يسير عليه الحُجاج على أقدامهم. وكنتُ مسافرا في ذلك اليوم إلى هذه البلدة، خانقين، وشاهدتُ مجلس عزاء تقوم به النسوة في المدينة لأحد «المربّين الفاضلين» حسب تعبير اللافتة المرفوعة على الخيمة المقامة (السرادق) على رصيف الشارع الموازي للنهر. كانت الثياب السّود هي حلّة الجميع، والنسوة يجلسن على مقاعد مصفوفة في جانبي الخيمة، ثقيلات القلوب بالحزن المأتميّ الذي ألقى حولهنّ ظلالا بنفسجية اللّون، وتقول المرأة في خانقين عن حزنها مثلما تتنهّد النّبتة، إذا قلت عن النهدات إنها تشبه زهورا بيضاء، فلستُ ممن يرغبون بلغة الشعر في هذا المقال، لكن عبق الأزهار الكثيف الذي كان يملأ الشارع يرفع ما شهدته، وما أزعم به الآن، إلى درجة الإيقان.
المرة الأولى التي كابدتُ فيها الموت كانت في صورة أمّي، وكنت حينذاك طفلا، وكانت تتهيّأ للذهاب إلى مأتم خالي الذي مات صبيّا بالداء الخبيث. شقّت صرختها في تلك اللحظة سقف بيتنا، وهي تمسك بسماعة الهاتف، وتتلقّى النّبأ. صار كلّ الهدوء في البيت معكوسا، كأن جلبة وحش الموتِ دخلت فجأة وحطّمت السكينة. دقائق، وعادت الحياة إلى ما كانت عليه، عندما ارتدت أمي ثوبها الأسود الفضفاض والواسع -الهاشمي- ووقفت ترى نفسها في مرآة «الكومودينو» نفسه الذي يحمل الهاتف. لقد غاص حوت الموت في أعماق بحر ثوبها، واختفى. كنت ألمح في الأثناء أخاديد سوداء تتماوج في شمس النافذة، وتنعكس من النجيل في حديقة البيت. وصارت لي قناعة منذ ذلك الوقت بأن اللون الأسود في ثياب المرأة ليس حداديّا ولا مأتميّا بالمرّة. فهو يحمل في لجّته لمعة شعلة خضراء، وعلى هذه الشعلة تراهن الحياة، وأمّها المرأة.
تقيم النساء في المجتمع الحضري في العراق مجالس العزاء في البيت عادة، وصورتها تشبه ما مرّ ذكره في مجلس العزاء في خانقين. أما الطقوس في الريف العراقي فتختلف كثيرا. تفتتح المرأة الأقرب إلى المتوفي المشهد بطريقة مسرحية: تشقّ ثوبها أولا وسط العويل، وتنفش شعرها، ثم تأخذ وهي نصف عارية في رقصة وجدانية عنيفة، وتضرب بكفّيها على صدرها وذراعيها ووجهها.. كما أن النساء القريبات لها يتقابلن معها، ويتبارين في ما بينهنّ عند أداء هذه الرياضة الإيقاعيّة التي تتمّ على شدو المرأة المنشدة (القوّالة) وكأن عنف الموت يجب أن تجابهه أمّ الحياة بالرقص العنيف وبالشِعر والغناء، وتكون الزعامة للشّديدة منهنّ على الموت، فيستقرّ عندها الحال بين الحياة والموت؛ لا غالب ولا مغلوب. لا شيء يوقف تيار العاطفة شديد القوة هذا غير التعب. ثم تستريح النسوة، يأكلن طعاما سمينا ودهينا وطيّب المذاق، وتعود النساء إلى اللطم والرقص والنياحة. هل يبلغ حزن المرأة على فقيدها نهايته؟ بعد أيام العزاء التي تدوم أربعين يوماً، تحافظ النسوة عادة على حداد صارم هو خلاصة تراكم حداد لا حصر له. مربّو الجاموس الذين يُعرفون في العراق باسم «المعدان» يطول زمن حدادهم على الميّت إلى أجل غير محدود، ويوصف المأتم الذي لا أمد له بأنه «حزن معدان».
لا يمكن الحديث عن أيّ بلدة دون ذكر متسوّليها. وشحّاذو خانقين عجائز يجلسن عند جانب السوق. إنهن نسوة على الأغلب، وممتلئات بالقناعة أي الرصانة القدرية المطلوبة في حالة الفَقر والإعواز، يلفهّن صمت بطوليّ يبدين فيه مثل تماثيل شمعيّة. لا يسألن، ولا يطلبن شيئا، كأنهن استخدمن أساليب الكدية أعجب استخدام.
يقول المثل الروسيّ: «الحياة ليست نزهة في حديقة» وكان مكتوب عليّ في أحد الليالي أن أواجه الموت في أبلغ صوره. المرأة التي كانت تحتضر قريبة إليّ، وهي في عمر الشباب. أيقظوني في ساعة بعيدة من الليل كي أعاينها. الأزرق هو لون العذاب والألم، وكان في وجهها الاثنان. وفزعت من رؤية الآثار التي تركها الوحش على وجهها، إلى درجة أنّي ارتجفت حتى نخاع عظمي. ثم جالت عيناي في الغرفة، وواجهتني مرآة الزينة التي تخصّ المرأة المتوفاة، وكانت قد أغلقت درفتيها، وغطّتهما بستار، وشدّت في موضع الإغلاق عقدة. كانوا يعتقدون في سالف السنين أن عليهم لجم مرآة المتوفّى من أن ترى أحدا آخر، وتطلبه. آثرت المرأة (وكان اسمها زهرة) أن تقوم بهذا العمل بنفسها، كي تحمي الباقين من شراسة الغول. يدعو أرسطو الموت في عمر الشباب بالموت الجليل، والصبيّ والطفل لمّا يفارق الحياة يقول عنه الناس في بلدي بأنه «ابن آخْره» أي ابن الحياة الأخرى، الباقية، وهو أبلغ تعبير يصفها، فلا يدخلها إلا من يمتلك قلبا وبدنا سليمَيْن.
لا يمكن الحديث عن أيّ بلدة دون ذكر متسوّليها. وشحّاذو خانقين عجائز يجلسن عند جانب السوق. إنهن نسوة على الأغلب، وممتلئات بالقناعة أي الرصانة القدرية المطلوبة في حالة الفَقر والإعواز، يلفهّن صمت بطوليّ يبدين فيه مثل تماثيل شمعيّة. لا يسألن، ولا يطلبن شيئا، كأنهن استخدمن أساليب الكدية أعجب استخدام. استخدمنها بعدم استخدامها! الناس في كلّ مكان يزخرون بالحكايات المدهشة، حتى أولئك الذين يبدو عليهم أن شيئا لم يحدث لهم أبدا. شابّ يجلس متربعا على الرصيف ويبدو عليه الفقر، متدثّرا بعباءته حائلة اللّون، وأمامه جوالات الكرفس والفجل والكرّاث، وفي عينيه نظرة متأملة طويلة. لكن أهمّ ما في هذا المشهد هي سحنته الشقراء الحمراء اللامعة، وشاربه الأسود المعقوف بصورة حادة إلى أعلى؛ شارب الجنرال أتاتورك. هل تسكن داخل هذا الفلاح البائس قصة؟ لكنني مررت به في ساعة الفجر، ثم غادرته، فكيف تقوم حكاية من هذه الصورة وحدها؟ تناولت فطوري على عجل، وعدت إلى المكان الذي التقيت فيه الشابَّ. لم أجده، وجوالاته في مكانها. قلت أنتظره في المقهى القريب، حيث يتناول عمّال المزارع القادمون من البساتين طعامهم. لا يوجد أحد هنا غير شابّ طلق المحيّا بِبنطال أبيض اللون و»تي شيرت» برتقالي، وكان يتناول فطوره، بيضتين مسفوحتين مقليتين مع قدح كبير من الشاي، ويستقر على الطاولة قربه هاتفان من النوع الحديث. هو الفلاح نفسه، عرفته من شاربه المعقوف، شارب أتاتورك، وكان يأكل على مهله، مستغرقا عميقا في داخله، وفي عينيه النظرة المتأملة التي ميّزتها وأنا أمرّ به في الفجر. كنت أمام شخص لديه قصة ترويها ملامح وجهه ونظرته التي فيها رزانة أبدية، لم تثلمها ولا بمقدار ذرة ضفيرتُه… اكتملت قصة الشابّ ما إن تبيّنتُ ضفيرته سوداء اللون، وكانت تبلغ منتصف ظهره. هو عاشقٌ إذن، وغندورٌ وفلّاح وله شارب الجنرال أبو الأتراك. يا لَسعد أمّه بطالعه إذن، ويا لَسعدي لأني رأيته، ويا لَسعدكم…
يقول غوته: «في ظلال النخيل، لا يجوز التنزّه على صهوات الجياد» وهكذا لا تستطيع عبور الجسر الحجريّ في خانقين، إلّا سيرا على القدمين. الوقت كان آخر النهار، والشمس تشبه برتقالة ضخمة تهبط فوق البساتين. عبرت الجسر مرة، وفي الثانية عددت أعمدته المبنية من الحجارة، وكانت عشرة، لكلّ منها عطفة تتّسع في الأعلى، وتصير فسحة بهيئة قوس يستريح فيها الحُجّاج الذين يقصدون مكة أو كربلاء، لأن هذه الأرض تقلّبت بين المذهبين السّنّي والشّيعي، ولستُ من هواة البحث في هذا الحقل الذي لا أراني أتنفس فيه الهواء…
لو أن السيدة الجليلة التي بنت الجسر صحت من نومتها الطويلة، لارتعبت من مشهد الكلاب الخمسِة التي تعبر النهر أمامي مشيا على الأقدام، بعد أن جفّ النهر تقريبا، لأن الإيرانيين حوّلوا مجرى منابعه إلى داخل تلك البلاد. التقطت أكثر من صورة… أحد الكلاب، وفي اللحظة التي استقرّت صورته في هاتفي الجوّال، شمّ رائحة أفكاري من بعيد، وأخذ ينبح.
كاتب عراقي
رائع يا أستاذ
سرد رائع ونادر