شبابنا؟ من هم؟

لأقل وأنا أتابع كلام سيادة رئيس الجمهوريّة التونسيّة، على أنّ الحوار لن يكون إلاّ مع الشباب؛ إنّي لا أملك إجابات شافية عن هذه الأسئلة الدقيقة «الحارقة» التي تطرحها «تونس قيس سعيّد». ومسوّغات ذلك أكثر من أن أحيط بها؛ فضلا عن أنّي لا أملك مؤهّلات المؤرّخ ولا رجل السياسة المثقّف أو المفكّر، للخوض فيها. إنّما أنا أتابع شأننا التونسي مثل كثير أو قليل من أبناء جيلي أي جيل الاستقلال؛ وكنّا ونحن يافعون أو شباب لم نراهق العشرين، نرى إلى بلادنا على أنّها وحدة جغرافيّة لغويّة بل دينيّة؛ ونتوقّع أنّها كانت مهيّأة منذ الستّينات، لتحقيق «اشتراكيّتها»، أو «عدالتها الاجتماعيّة» على أساس من «سياسة التعاضد»، سياسة «الحزب الاشتراكي الدستوري» حزب بورقيبة، تلك التي قادها الراحل الكبير أحمد بن صالح؛ وكان بشّر بها وهو شابّ في «اتّحاد الشغل»، ثمّ سعى إلى إرسائها، وهو وزير.
وهذا ما يجعل ديمقراطيّاتنا وشرعيّتها عرضة لارتباك غير يسير، ومفاجآت سارّة وغير سارّة في المحطّات الانتخابيّة؛ أو هي غير متوقّعة. فقد انتخب التونسيّون منذ سنتين، شبّانا وشيوخا، رجالا ونساء، الرئيس قيس سعيّد؛ بأغلبيّة مثيرة. بل دعت إلى انتخابه في الدور الثاني جلّ الأحزاب بما فيها النهضة و«ائتلاف الكرامة». لكنّ الغريب حقّا أنّ الشباب تحمّسوا لرئيس «شيخ»، ولم يرشّحوا «شابّا» منهم، والأغرب أن يدعو «الرئيس الشيخ» إلى محاورة الشباب؛ وأن يحتذيه «الشيخ» راشد الغنّوشي، فيدعو «شباب النهضة» إلى العمل من أجل «استعادة» الديمقراطيّة، وليس شباب تونس. وأنا أفضّل في هذا السياق، استعمال كلمة «شيخ»، وليس كلمة «عجوز» وهي من العجز بمعنى الضعف والتقصير والطعن في السنّ في لغة العرب. علما أنّه يقال في لسان العرب للمرأة عجوز وعجوزة، وللرجل عجوز.
من هم الشباب؟  ثمّة تعريف الأمم المتّحدة الذي يحدّ الشباب، بفترة عمريّة تتراوح بين 15 و24 عاما، وتمتدّ عند البعض إلى سنّ 29. ومن الحجج المقبولة التي تسوّغ هذا الحدّ أن أكثر الشباب في كثير من البلدان، وعندنا تحديدا، يظلّون جزءا من نظام التعليم فترة طويلة، وفي كفالة عائلاتهم؛ وليس الشأن مثل أبناء جيلنا الذين كانوا يتخرّجون في الجامعة وهم في الثانية والعشرين من أعمارهم أو حتى قبل ذلك بقليل، وكان بإمكانهم أن ينخرطوا مباشرة في العمل الوظيفي، بكثير من اليسر والسهولة؛ إذ كانت دولة الاستقلال في حاجة ماسّة إليهم. وعليه فإنّ أكثر شباب تونس اليوم، لم يندمج في سوق الشغل بعد في عمر 24 عاما.
في تونس، وهذا أنقله عن دراسات وبحوث موثّقة، يمثّل الشباب والمراهقون إجمالا، أي الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاما، ثلث السكّان. وهؤلاء الشباب الذين يدعو الرئيس قيس سعيّد إلى محاورتهم، والأخذ بآرائهم واقتراحاتهم في الشأن العامّ، كانوا من الفاعلين الأساسيّين في «ثورة 17/14»، وهي التي أفضت إلى تغيير غير متوقّع في تونس سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا. ونعرف جميعا أنّ مطالبهم الرئيسة انحصرت في الشغل والكرامة والحريّة والعدالة الاجتماعيّة. وهي مطالب عجز كلّ حكّام تونس، سواء قبل الثورة أو بعدها، عن تحقيقها؛ بل تفاقمت على نحو مخيف. إذن لنقل بكلّ صراحة إنّ الشباب التونسي يواجه مشاكل في منتهى الخطورة، في مجتمع لا يستطيع أكثرهم الاندماج فيه؛ إذ تبلغ البطالة والهجرة بين الشباب، معدّلات مزعجة جدّا. بل يواجه الشباب تحدّيات جديدة أو وافدة مثل التطرف العنيف واستهلاك المخدّرات والانخراط في عالم الجريمة «النوعيّة» وما إليها؛ لأسباب قد يكون مردّها الأساسي إلى البطالة.
على أنّي أشاطر القائلين بأنّ هذه المشاكل لا يمكن أن تُعزى إلى فترة التحوّل الديمقراطي التي عاشتها تونس منذ عشر سنوات، بما لها وعليها؛ ولكن أيضا إلى تقصير فادح في المنظومة التربويّة والاجتماعيّة والثقافيّة. ومن ثمّة فإنّ مؤسّسات الحكم والمنظّمات الحكوميّة، وحتى غير الحكوميّة تتحمّل مسؤوليّة ضمان إشراك الشباب في الشأن العامّ، ومساعدتهم على تذليل العقبات والصعوبات التي يواجهونها. وبدون التهوين من بعض الإجراءات المتّخذة؛ فإنّ النتائج تكاد لا تذكر، وخاصّة في المناطق الريفيّة. ولذلك لا أستغرب أن يشيح كثير من الشباب عن هذه «المنصّات الإلكترونيّة الحواريّة» التي يدعو إليها الرئيس؛ وهم  لا يعترفون تماما بسلطة رجالات السياسة أو الذين هم في الحكم، فثمّة منهم فئات خاملة، وأقلّيات «عدميّة» متمرّدة، وأفراد سلميّون، وآخرون متزمّتون، وفقراء مدقعون في المدينة وفي الريف؛ وهم أعجز من أن يشاركوا في هذه «المنصّات». لنقل بكلّ صدق إنّ «الحلم التونسي» ليس محلّ إجماع اليوم.
وأقدّر أنّ أثر هذا سيكون حاسما في الانتخابات القادمة التي لا نعرف حتى الآن متى يحلّ موعدها؛ إذ يمكن أن نباغت لا بفوز أعداء الديمقراطيّة فحسب، وإنّما أيضا بفوز أصحاب الأنساق الإطلاقيّة أو الدغمائيّة من أهل اليسار وأهل اليمين على حدّ سواء. وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنّان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا؛ و«يتحالف» هؤلاء في النيل من تجربة لا نزال نحلم بأن تجري على منوال الديمقراطيّات العريقة، والانتقال السلس للسلطة والحكم؛ وليس على أساس من «نظام مجالسي» شبيه بـ«اللجان الشعبيّة» كما يؤمّل أنصار الرئيس أو بعضهم.
إنّ محاورة الشباب على ضرورتها، مرتهنة بثنائيّات تتحكّم فيهم وفينا، مثل الثنائيّة القانونيّة، حيث الشاب مواطن مثل أيّ منّا؛ وهو في الآن نفسه مشرّع وموضوع تشريع، والثنائيّة السياسيّة حيث المواطنة الشبابيّة شأنها شأن مواطنة الشيخ أو الكهل، مواطنة تكون في الآن ذاته مبدأ وممارسات، والثنائيّة التاريخيّة حيث المواطنة عامّة مؤسّسة وصيرورة، والثنائيّة الجيو ـ مؤسّساتيّة حيث المواطنة تتطوّر على الصعيدين المحلّي والكوني، والثنائيّة المؤسّسة أو المنشئة لفكرة المواطنة. فهذه كلّها جديرة أن تؤخذ بالاعتبار في مشروع بناء تونس الحديثة الديمقراطيّة. والشاب مثل أيّ منّا، هو من جهة، شخص «مجرّد» أي هو يتولّى تجريد خصوصيّاته التاريخيّة والاجتماعيّة والجنسيّة من أجل المساهمة في إنتاج قانون أو اتخاذ قرار يلبّي المصلحة الجماعيّة بل «الكونيّة». والشاب إنّما يمارس السلطة في الجمهوريّة لأنّ أيّ قرار يساهم في سنّه، يرتقي إلى مستوى مصلحة الشأن العام. ومن جهة أخرى فإنّ هذه الممارسة تجري دائما في إطار شروط مخصوصة وفي وسط مخصوص، ذلك أنّ الشاب ينخرط بالضرورة في ممارسات اجتماعيّة، وفي «صيرورات» تاريخيّة مفردة أو مخصوصة. وهذه الثنائيّة المتعلّقة بالكوني والخصوصي غير قابلة للاختزال؛ فهي تميّز المواطنة من حيث هي فعل استئصال من الخصوصيّات أو الإقليميّات ومن حيث هي مجهود يتوق إلى الكوني.
ونحن أحوج ما نكون اليوم، إلى نوع من «الكونكوردا» أو الميثاق أو عقد التعاون المتبادل. وربّما في سياق كهذا، نفهم الشرعيّة في ماضينا القريب والأبعد؛ بل نفهم «البطانة الوجدانيّة» أو «التجاذب الوجداني» الذي يحكم خطابنا ديمقراطيّين ويساريّين وإسلاميّين وقوميّين، حيث تمتزج في ذات الواحد منّا مشاعر الحبّ والكراهيّة إزاء الموضوع نفسه. وقد يكون الجامع بيننا اليوم، هو تسليمنا بأنّ طريقة تنظّم المجتمع في أحزاب سياسيّة ومنظّمات منتخبة، هي السبيل إلى «تحرير» طروحاتنا من الاعتقادات الإيديولوجيّة والدينيّة المتزمّتة، في ظلّ عودة «المكبوت» الديني و«المكبوت» الإيديولوجي عندنا؛ وهو الذي يتحوّل عند طوائف غير قليلة إلى أبدال يقاس عليها، وموازين تحدّ ما يعدّونه «شططا» ديمقراطيّا.
صحيح أنّ الشباب ليسوا نتاج أنفسهم فحسب، وإنّما هم أيضا نتاج ماضينا نحن الشيوخ والآباء؛ لكنّ الماضي في نظرنا هو غيره في نظرهم، إذ ليس بينهم وبينه ما نسمّيه «حجاب المعاصرة»؛ بل هو في جانب منه محصّلة حاضرهم، وأمسّ به وأعلق. وفضلا عمّا تقدّم، فإنّ دخول وسائل الإعلام في النسيج أو المكوّن الاجتماعي، والتواصل وهو اليوم كلّيّ الوجود، بل كلّيّ القدرة؛ ممّا يجعل «الحلم التونسي» قابلا للاختراق، أو هو «عود كبريت» يمكن أن تطفئه ريح الوافد الإعلامي العاتية. ولعلّ ما يضاعف من الريبة «لامبالاة» نسبة من الموطنين بالشأن الديمقراطي؛ وهم الذين تستبدّ بهم الحاجة إلى الغذاء والقوت، على نحو ليس سويّا دائما؛ ويعتقدون أنّ وضعهم قدر لا رادّ له.
فلعلّ رهاننا اليوم في إصلاح المنظومة التربويّة كلّها، بدءا برياض الأطفال، وقد تكون الطفولة هي الجسر الذي سيجعل من الممكن استعادة التآخي بين الشابّ ومجتمعه. وأساس ذلك على ما أقدّر، إعادة الاعتبار إلى الأدب والفلسفة في هذه المنظومة. وكلاهما خطابان يضفيان معنى ووضوحا على وجودنا وحياتنا؛ وهما اللذان تولّدا من دهشة العالم، كما يقول أهل الذكر عن حقّ.  وكلاهما تجربة تأسيسيّة تذكّرنا قوّتها بالطفولة كلّ يوم، الطفولة التي يكاد يفتقدها كثير من شبابنا اليوم.
*كاتب من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلمى سعيد:

    (وكنّا ونحن يافعون أو شباب لم نراهق العشرين، نرى إلى بلادنا على أنّها وحدة جغرافيّة لغويّة بل دينيّة؛ )… اه
    لا أعتقد أن هناك شيئا اسمه «وحدة لغوية» في تونس، على الرغم من طموح بعض المثقفين إليها، وهؤلاء لا يشكلون سوى قلة قليلة، في واقع الحال. صحيح أن هناك من يميل إلى التكلم بالعربية الفصحى (كمثل قيس سعيِّد نفسه، وإلى حد التفذلك)، إلا أن هناك شريحة كبيرة لا تتكلم سوى العربية التونسية العامية، وأن هناك شريحة لا بأس بها تنزع على الدوام إلى التكلم بالفرنسية – هذا عدا تواجد الشريحة اليهودية ونزوعها إلى التكلم الدائم بالعبرية (الإسرائيلية) !!!؟؟

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      هل أنت تونسية أختي سلمى سعيد؟ حيث يبدو لي أن رأيك ليس بالضبط صحيح فأنا أعرف بعض التوانسة هنا في ألمانيا والتفاهم معهم بالعربية ولايوجد أي صعوبة أبدًا رغم بعض الكلمات العامية كبرشة وباهية إلخ

    2. يقول الثابث بن سلوم - مراكش:

      معلق أسامة كلية يبدو أنك أسأت فهم تعليق الأخت سلمى سعيد، ليس هذا موضوع تعليقها ولم تقل هي إن العامية التونسية غير مفهومة، موضوع تعليقها هو تحديدا عن غياب الوحدة اللغوية في تونس، وهذا ما لم تدركه وأطلقت حكمك الخاطئ بناء عليه!

إشترك في قائمتنا البريدية