«شجو الهديل» رواية المصري جار النبي الحلو: التوزّع السردي المجزأ والأفق الشعري

عادل ضرغام
حجم الخط
0

في روايته «شجو الهديل» يقدم الكاتب الروائي المصري جار النبي الحلو بناء سرديا صغير الحجم، لكنه أقرب إلى أغنية فقد تدريجي مملوء بالشجن، يتهادى طوال صفحات الرواية، نابع من الهزيمة، وعدم القدرة على الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الإنسان دوما في حياته مع اكتسابه للوعي والإدراك، بالإضافة إلى فقده للآمال الكبرى التي تتولّد بالتدريج، ويعاينها كل فرد، ويشكل من خلالها متخيله عن ذاته وعن الوجود. الرواية في ظل ذلك الفهم تأكيد على نتيجة مفادها أنه- في نطاق الأسئلة الوجودية وانسداد الأفق عن إجابة شافية- لا مهرب من هذا الشجو الحزين المشدود إلى التسليم المقهور الذي يؤدي إلى الثبات. ففي مقابل ثبات الواقعي والمادي هناك الحركة التي يصنعها صوت الشجو في أفق زمني متحرّك، لأن زمن الشجو ليس زمنا واحدا، بل أزمنة مختلطة مكدّسة، وصور تشكلها، وتعيد تشكيلها باستمرار الذاكرة.
فالرواية تؤسس بناء كاشفا عن الثبات داخل حدود واقع معين، يمثل نواة صالحة للتمثيل عن الكلّ، من خلال مجموعة من الشخصيات غير القادرة على الفعل، أو على الارتباط بوجه واحد، فهي موزعة بين نمط ريفي، وآخر حضري مديني، ولا تقدر على الحسم أو الاختيار النهائي بينهما، فكأنها شخصيات فقدت بوصلتها التي تعبّد لها حركتها نحو القادم، ولم يتبق لها سوى ذلك الشجو الذي يمثل مساحة ابتعاد وهدهدة عن الواقع الذي لم يتمّ تطويعه لسلطة المتخيل، فالشجو هنا يكفل مساحة للاستمرار والتحمل لواقع لا يستجيب بسهولة لآمال الشخصيات المطروحة للتحقيق في النص الروائي.
الرواية وثيقة الصلة بالفرد أو الأفراد داخل حدود المكان التمثيلي المقتطع، أو داخل الحياة بشكل عام، في إطار زحزحة الجزئي ليرتبط بالكلي، فيوجه حركتهم داخل المكان وخارجه، فتنفتح الرواية على المعرفة والقدرة على الرؤية. ويصبح اختيار ضعف البصر للبطل في الرواية – أو للشخصية المحورية دائمة الحضور- توجيها سرديا، وسوف تتجلى بعض الشخصيات في ظلّ ذلك الفهم بوصفها سبلا مساعدة لإمكانية الرؤية والمعرفة، بداية من سهير التي تنتمي للمدينة، وانتهاء باعتماد التي تنتمي إلى القرية والريف، وقد شكلت كل واحدة منهما متخيلا نموذجيا للشخصية الرئيسة.
فقدان المرأتين واحدة بعد أخرى، الأولى بالموت من خلال السرطان، والأخرى بالتيه من خلال الغياب، وعدم القدرة على الوصول إليها بالرغم من البحث، بالإضافة إلى النتائج التراجيدية التي تصيب شخصيات الرواية جميعها، كل ذلك يؤشر على طبيعة الحياة التي تفصح عن حتمية المطاردة واللهاث الدائم، وحتمية عدم الوصول لشيء يمكن الإمساك به، فالحياة استغراق أو مطاردة للسراب، فكل الآمال المطروحة للتحقيق تنتهي إلى نقيض متخيلها.

التوزّع السردي وتراجيديا الحياة

قارئ الرواية سوف يدرك من البداية أن هناك توزّعا للسرد بين المتكلم والغائب، وقد يرد هذا التوزّع بشكل متوال، كما في الفصول الأولى، وقد يرد بشكل غير متوال. فقد نجد في الفصول الأخيرة جزئيات سردية متوالية مرتبطة بالغياب، تردفها نتف أو جزئيات سردية مرتبطة بالمتكلم. ولهذا التوزع بين الضميرين السرديين دلالات ووظائف عديدة، ولكن أهمها يتمثل ـ بشكل مبسط – في الفارق بين رؤية الذات ورؤية الآخر لها. والآخر هنا ليس بالضرورة واقفا عند حدود الراوي، ولكن يمكن أن ينمو ويتناسل تدريجيا لكي يلتحم بالسياق وتجلياته المختلفة، ودوره في تحديد وتوجيه حركة الشخصيات، فيصبح السرد هنا حركة دائمة بين فاعلية الذات وفاعلية السياق.
وتتجلى سطوة المتكلم وفاعليته مع كل الشخصيات حين تتسلّم منصة السرد، فالمتكلم في الرواية ليس شخصا واحدا، لكنه شخصيات عديدة، يجمع بينها صيغة البوح والكشف والتخييل من خلال المتكلم في مقابل الغياب الموضوعي الذي يشدّ السرد إلى واقع فعلي تعاينه الشخصيات في لحظة انفتاحها على متخيلها الداخلي. فكل حكاية من الحكايات الجزئية في النص الروائي مشدودة إلى متخيل نموذجي مقترح للتحقيق، في مقابل واقع يناور ويرفض، ويسد الطرق على الشخصيات لتحقيق متخيلها. ففتحي الذي وجد مكانا يقيم فيه في المنور- حيث يمثل هذا الوجود مساحة كشف وتعرية للآمال وذوبانها من خلال ما يصل إلى أذنيه من محادثات واتصالات لسكّان البناية المكوّنة من طوابق خمسة – يتمثل متخيله في علاج عينيه التي لا تبصر سوى (طشاش) على حد تعبير النص الروائي. وآمال العانس – ابنة صاحب البيت عبد السلام – يتحرّك متخيلها صوب الوصول إلى الحب والزواج من كمال الفنان الذي يقطن بغرفة السطوح، وكذلك أختها الصغرى حنان تتحرك في النص الروائي وفق رغبة الوصول للزواج من حازم المعيد، وسهير ابنة المرأة البدينة يتشكل متخيلها وسعيها نحو إتمام تجربة حبها بمالك، لكن المرض أولا، ثم الموت ثانيا يشكلان حجر عثرة في إتمام هذا المتخيل.
إن هذا التوزّع بين التكلم والغياب ظلّ قانونا سرديا طوال صفحات الرواية، حتى في الفصول والجزئيات التي تتطلّب نوعا من التمدد لصوت سردي واحد في إطار المتكلم، نجد أن الرواية لا تتخلى عن قانونها المتكرّر، فتعيد القارئ ولو من خلال جزئية بسيطة إلى نسق موضوعي راصد، على نحو ما يمكن أن نرى في الجزء الذي جاء بعنوان (حجرة من الخشب تطلّ على السماء). فبعد تمدد السرد على لسان المتكلم بصوت فتحي، ينتهي الجزء من خلال الغياب بقول الراوي: (حجرة فنحي ستكون نقلة مهمة في عمارتنا) على لسان عماد. وقد أدى هذا التوزّع بين ضميري المتكلم والغياب إلى فقدان مركزية السرد، فليس هناك مركز واحد ثابت ومستقر في النص الروائي. فالمركزية تكاد تكون معدومة، فما يؤسس له صوت سردي، يأتي صوت سردي آخر ليهدمه أو يعارضه، أو على الأقل يهشم مصداقيته، في ظل جدل الرؤيا ووجهات النظر المتباينة.
والشخصيات في ظل ذلك التقطيع أو البتر لا تتجلى كاملة في نفس سردي واحد، بل تظل في النهاية مجرد صور موحية من خلال تجاورها الذي يخلق الإيحاء بكينونتها. فشخصية مثل شخصية الشيخ علي التي تعطي دلالات راهنة خاصة بالأيديولوجيات وتعددها وأثرها السلبي، لم نلمح لها- وكذلك كل الشخصيات- وجودا مكتملا، فهي صور جزئية لا تزيد عن ثلاث إطلالات، سواء كانت مستلمة منصة السرد، أو مسرودا عنها. الرواية في تشكيلها للشخصيات لا تبحث عن بناء جاهز من البداية لكل شخصية، وغير معنية بصناعته، بل مشغولة بنمذجتها وترميزها وحضور أثرها، ومن ثم فحضورها- أي الشخصيات- شبحي لا يتجلى وفق تاريخ سابق، بل في حدود كل إطلالة سردية.
في وقوف القارئ أمام شخصية عماد يدرك أنه ليس هناك رصد كامل لملامحها، بل هناك محاولات جادة للتقريب، وللإمساك بالأنماط المشابهة، وتجذيرها داخل هذا النمط، فالتشخيص أو تشكيل الشخصيات في هذه الرواية به محاولة للفهم، ومحاولة للتكديس والتسكين داخل أطر ثقافية سابقة التجهيز. ففي تشكيل الرواية لشخصية عماد من خلال إطلالات عديدة هناك وقوف يبرق إلى شيء من ملامحها الغائرة الدفينة، فهو وقوف غير مكتمل، لكنه كاف في الإيحاء بطبيعتها، خاصة في ظل عقد التوازيات بينه وبين سعيد مهران في «اللص والكلاب»، أو التوازي بين الأب والقدر في تعاليه وتعاظمه على قدرة الفرد. فمشهد سعيد مهران وهو يقتل رجلا آخر غير الصحفي رؤوف علوان، يتكرر مع شخصيات أخرى داخل النص الروائي مع عماد، وكأن هناك نوعا من التقابل، يقول في حواره مع فتحي: (أمي.. حاولت إبعاد أبي وهو يضرب أمي!!، لم أستطع، وجهت له لكمة، فجاءت في وجه أمي).
وفي كل المحاولات للتفلت من سطوة القدر يتشكل الأفق التراجيدي لشخصيات الرواية، فالشخصيات في محاولتها التعاظم من خلال تشكيل سلطة نموذج متخيل في نزالها مع القدر، للخروج من سطوته، تقف عند حدود معينة، فهذه المحاولات محكوم عليها بالفشل والقهر، ومحسومة من البداية. فالقارئ أمام رواية تعيدنا- على بساطتها- إلى التراجيديا الوجودية الخاصة بالإنسان، في فقدان الآمال تدريجيا لكل الشخصيات. فمعاينة حال الشخصيات التي انتهت إليها تثبت مشروعية هذا التوجه، وتبرر وجود (الشجو)، بوصفه الإطار الذي يخلق الاستمرار في الحياة بالرغم من اليقين بموت الآمال والأحلام، وابتعادها عن التحقق في الواقع..

السرد المجزّأ والأفق الشعري

إن آلية التقطيع في البناء السردي، بالإضافة إلى التوزّع بين ضميري المتكلم والغياب في النص الروائي كان لهما دور لافت في تشكيل السرد أو الجملة السردية. فالانفتاح على عوالم الشخصيات في إطار انقطاعات جزئية يولّد تهشيما للتمدد الخطي المستمر، ويصبح التمدد داخليا لمعاينة بنيات وتراكمات تتجلى مع كل جملة، وتستدعي الجملة في ظل ذلك الحفر والتمدد الداخلي نوعا من الوقوف بدلا من الحركة لمقاربة النص، وكأن النص بهذه الخاصية يعيد تأسيس مرتكزاته على المجاز في صناعة وتشييد العالم السردي.
فالألفاظ هنا في ظل السرد الذي يحتفي بالاستعاري والمجازي ليست أدوات ناقلة، بقدر كونها أدوات تصوير تحتاج إلى مخيلة منفتحة على طبقات دلالية للألفاظ، ففي هذا الفصل تشكل البداية في كل انعطافة سردية متحولة بين المتكلم والغياب التي تبدأ بقول النص (في تلك اللحظة) توازيا لمعاينة البنية الصورية التي تلجأ إليها كل شخصية في معاينة وتلقي حدث الموت القادم والشعور به. يكشف عن مشروعية هذا الفهم في معاينة تشكلات البنية النصية الوقوف عند الفصل التالي الذي جاء بعنوان (الصدى). فهذا الفصل مرتبط بصدى أو أثر وفاة سهير بالسرطان من خلال نفثات نفسية للشخصيات من خلال الهاتف، فقد جاء هذا الموت لتجلية السؤال الوجودي للشخصيات باعتباره نهاية محتومة تحدث زلزلة للسعي.
كثير من الجزئيات والعلاقات في هذه الرواية تقف عند شكل من أشكال التغييب المتعمد، بوصفه حالة شعرية لا تتوجّه نحو الكشف، بقدر تقديمها في نسق موح يتمّ الاختلاف في تلقيه. فليس هناك مرشدات لتصور نهائي عن طبيعة العلاقات الثنائية التي أبرقت عنها الرواية، وليس هناك تصور لتحققها المادي أو الجسدي، سواء تأمل القارئ علاقة حازم وحنان، أو علاقة آمال وكمال، أو علاقة فتحي – البطل الأكثر حضورا وهيمنة في النص الروائي – بشخصية سهير بوصفها مرحلة أولى للاكتمال، أو علاقته باعتماد بوصفها إبدالا لنموذج سابق وتعويضا عنه.
وإذا كان السرد في هذه الرواية منفتحا على التغييب الذي يحتمّ تأمل الجمل والتراكيب، وإعادة التأمل للوصول إلى دلالاتها العديدة والخفية، ويحتمّ الحفر مع كل وقوف يستدعي الشعري، فالسردي اتصال وتمدد متوال، والشعري انفصال ووقوف للمعاينة والحفر، فإن هناك جزئية وثيقة الصلة بهذا التوجه الشعري، ربما تجذّرت لديه بسبب كتابته للقصة القصيرة، وطول فترة ممارستها، تتمثل في العناوين الخاصة بالكتل أو الفصول المكوّنة للنص الروائي.
فالعنوان الداخلي في أقسام الرواية وثيق الصلة بالمنحى الدلالي والمعرفي للنص الروائي من جانب، ومن جانب آخر يطل- وهو بهذا الدفق الشعري- وكأنه بنية منفصلة تشتغل في النص الروائي على مساحة الاتصال والانفصال في آن، فالعنوان السابق لا يخلو من الإشارة إلى حتمية وجود السماء بوصفها أفقا للمراقبة والانتظار، وأفقا لموسيقى شجو الهديل الذي لا يخلو من حزن شفيف، لكنه حزن الشخص أو الشخصيات التي لم تفقد الأمل في القادم، بالرغم من طبيعة الوجود التراجيدية التي لا تصفو بشكل نهائي، ولا تعطي للبشر مساحات انعتاق كاملة في تحقق الآمال والأحلام.

جار النبي الحلو: «شجو الهديل»
دار العين للنشر، القاهرة 2024
128 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية