قبل نحو خمسة أسابيع، أعيد لي نص عن المنفى، كان ترجم إلى الألمانية لينشر في أنثولوجيا لكتاب لاجئين، وطلب مني أن أنظر في اقتطاعات مقترحة من النص قبل نشره مع نصوص أخرى.
بنظرة سريعة إلى المقاطع الستة التي اقترح حذفها تبدى أنها كلها تشير إلى إسرائيل، إما كاستثناء متعدد الوجوه في عالم اليوم، أو كنفي جغرافي وتاريخي مستمر لفلسطين، أو إلى قيام كيانها على إبادة الفلسطينيين سياسياً، أو إلى انضباط الحكم الأسدي في سوريا بالباراديغم الإسرائيلي. كان واضحاً أن الأمر لا يتعلق باعتبارات فنية تتصل بحجم المادة مثلاً، أو بتفاصيل تاريخية محلية يصعب على القراء الألمان الإحاطة بها مثلاً، بل برقابة دوافعها سياسية وأيديولوجية، أي بشيء يشبه تماماً ما كنا نقاومه في بلدنا، وما أفضى عبر مسار معقد إلى شرط اللجوء، وإلى كتابة النص في المقام الأول.
اعترضت على الاقتطاعات بوصفها رقابة غير مقبولة، ولم تصلني استجابة على الاعتراض إلى اليوم، فلا أعرف بعد إن كان نصي سينشر أم لا؟
ما نحن حياله هنا هو تحكيم ماضي ألمانيا في حاضرنا ومستقبلنا في فلسطين وسوريا وغيرهما، ومنح جهات ألمانيا نفسها موقع المقرر لما هو الكلام الصحيح عن إسرائيل، وليس من وقع عليهم غُرم المعاناة من الواقعة الإسرائيلية. على أن هذه حالة متطرفة فحسب من إنكار أوسع انتشاراً للأهلية (الأيجنسي) ربما يلتقي فيه ميراث السيادة مع شرط اللجوء، وما يبطنه من علاقة قوة بين المجتمع المضيف ومجموعات اللاجئين. كان نظام السيادة الذي تم تجاوزه في أوروبا، قد صُدّر إلى الخارج غير الأوروبي (والنازيون مارسوه في الداخل الأوروبي، وهو ما أثار على النازية الخصوم حسب إيميه سيزار، وما كانت ممارسته في المستعمرات على غير الأوروبيين مشكلة غير مهمة).
ديناميكية التوسع والفتح والتجاوز الإمبريالية تكفلت بتصدير الماضي الأوروبي إلى الخارج المستعمَر، الذي يُحرم على هذا النحو من مستقبل يخصه، بدون أن يحوز مستقبلاً أوروبياً. يصير منفى لماضي المتقدمين، ومقراً لسيادة تقتل وتعذب. دولنا بالمناسبة تنظر إلى الداخل المحكوم بعين السيادة الواحدية، التي تقتل وتعذب، وإلى الخارج بعين السياسة التعددية التي تفاوض وتساوم، فهي في ذلك عكس الدولة الغربية الحديثة، السياسية في الداخل والسيادية في الخارج. كولونيالية السلطة التي تكلم عليها أنيبال كويهانو تتكثف في هذا الواقع.
أول مستويات إنكار الأهلية هو المعرفي، ما يتصل بقدرة السوريين أو الفلسطينيين، ومن في حكمهم على تحليل أوضاعهم، وتطوير مفاهيم وأدوات مناسبة للإحاطة بها. بينما يعتمد على خبراء الشرق الأوسط الأوروبيين كمصدر للمعرفة بشأن سوريا والمنطقة، وهؤلاء يفتقدون لأشياء كثيرة أساسية: حس التاريخ، الانتماء والعناية، الشغف واللوعة، لا مآسينا تلوعهم، ولا إنجازنا المحتمل يبهجهم. المعرفة التي تخرج من أيدي هؤلاء الخبراء هي معرفة عمياء إنسانياً، تفكر بنا كمواضيع لا كذوات. يمكن للسوريين أن يكونوا موضع اقتباس في عمل للصحافي أو الباحث الأوروبي، لكن ليس مصدر تحليل أو نظرية. يشغل المتكلم السوري، أو اللاجئ عموماً موقعاً متدنياً في سلم إنتاج المعرفة، يقتصر على الشهادة الخام. تصنيع المنتج النهائي وتعليبه وتوصيله يقوم به الباحث أو الصحافي الأوروبي، ما يعني في الواقع أن معرفة اللاجئين ليست لاجئة معهم، أو أنه يتوقع منهم أن يتجردوا من معرفتهم وأهليته المعرفية، ويقبلوا معرفة البلد الملجأ بدون نقاش.. هذا هو مغزى قصة الرقابة المذكورة فوق.
إن من يختار الشر الأقل ينسى أنه يختار شراً، وقد نضيف أنه بهذا الخيار يضعف فرص البحث عن بدائل، ويسهم في إنتاج عالم مغلق بلا بدائل، مرشح بفعل انغلاقه للتفجرات العنيفة والإرهاب
ومن أوجه إنكار الفاعلية المعرفية أن الشأن السوري قلما طرق أبواب الإنسانيات، فما بالك بالفلسفة. علاقة القوة التي يقوم عليها إنكار الأهلية تأخذ شكل مقاومة أن يكون لصراعنا قيمة إنسانية عامة. سبق لسالفوي جيجك، وهو يفتي في كل شيء مثل مشايخنا، أن وصف الصراع السوري بالصراع الزائف، وليس في ما كتبه الرجل ما يدل على أدنى معرفة بتاريخ سوريا ومجتمعها وحياتها السياسية والقانونية. الأهلية السياسية موضع إنكار أولي بدورها. لا ينظر إلى اللاجئ عموماً كصاحب قضية، كمناضل، لجوؤه اليوم جزء من قصة صراع سياسي أكبر، وهو مستمر وإن بصورة مختلفة اليوم في خوض هذا الصراع، مغالباً شروط اللجوء الصعبة. ما يجري إنكاره أو التشكك فيه بصورة خاصة، هو تمثيلنا لقضيتا بلغة الحرية والديمقراطية والثورة. ربما تؤخذ أقوالنا عن نضالنا بتسامح، لكن السياسة المناسبة لنا لا تحيل إلى الفرد والمنظمة الاجتماعية والحزب السياسي، بل هي السياسة الأهلية، حيث الفاعلون السياسيون هم العشائر والطوائف والإثنيات، مثلما يجتهد أن يفعل دانيال غرلاخ هنا في ألمانيا، هذا الشكل من إنكار الأهلية السياسة يبدو نافذاً في الدوائر المقربة من جهات صنع القرار في ألمانيا وفرنسا.
الأهلية الأخلاقية في وضع مماثل، من يقرر الخير والشر في شؤوننا، وليس في الشؤون الألمانية أو الأوروبية، لا سمح الله، هو القوى الأوروبية. ثمة نظرية هنا عن الشر الأقل والشر الأعظم، وفي تطبيقها السوري خلصت إلى أن بشار الأسد هو شر أقل، و«داعش» شر أعظم. الواقع أن «داعش» شر عظيم، والحكم الأسدي شر عظيم، ولا أحد مضطر للمفاضلة بينهما، لكن ألا تبدو النظرية عاطلة ولا أخلاقية بشكل عميق؟
حنه آرنت قالت يوماً، إن من يختار الشر الأقل ينسى أنه يختار شراً، وقد نضيف أنه بهذا الخيار يضعف فرص البحث عن بدائل، ويسهم في إنتاج عالم مغلق بلا بدائل، مرشح بفعل انغلاقه للتفجرات العنيفة والإرهاب، أي لما يفترض أنها الشرور العظيمة. وهو ما يعني أن اختيار الشر الأقل لا يسهم في الحقيقة إلا في إبقاء عجلة الشر الأقل والشر الأعظم مستمرة في الدوران. ثم يا ترى، أليس من يحق له القرار في هذا الشأن هو من يعاني من الشر أكثر من غيره؟ المبدأ في انتخاب القائمين على سلطات التنفيذ والتشريع هو أننا نتأثر، نحن محكومويهم، بقراراتهم وتشريعاتهم، ولذلك يجب أن يكون لنا قول فيها، فننتخبهم أو لا ننتخبهم. هذا المبدأ هو ما يصلح لأن يستأثر من يتأذون من سلطة ما بالقرار في شأن شرانيتها. والمبدأ نفسه هو ما يؤسس للاعتراض على أن تحدد جهات ألمانية صواب وشرعية ما نقول بخصوص إسرائيل.
ماذا يعني إنكار الأهلية على هذه المستويات الثلاثة، المعرفي والسياسي والأخلاقي؟ يعني إدخال تراتب بين الناس يشغل بعضهم فيه مكانة أرفع من بعضهم، أي العنصرية. وهذه من لوازم القتل حين تمارسه السلطة المديرة للحياة حسب فوكو، لذلك فإن مقاومة إنكار الأهلية هي دفاع عن الحق في الحياة، أو هي فعل مقاومة للقتل. هذه المقاومة ممكنة هنا في أوروبا لأن شرط الإنكار ليس حتمياً، بحيث لا يمكن فعل شيء ضده، رغم أن ما يتراوح بين التشكيك في الأهلية وإنكارها هو الاستعداد الأولي لوضع اللجوء، خاصة الوارد من الشرق الأوسط، الذي يتراوح الشرط الكولونيالي فيه بين عدم الانقطاع، والتجدد بفضل من الواقعة الإسرائيلية، ووقوع منطقة الخليج في نظام الأمن القومي الأمريكي، وصعود العدمية الإسلامية منذ مستهل هذا القرن، ثم بفعل تسهيل الحكم الأسدي احتلالات متعددة، ليس بيده تقرير حدود سلطتها وامتدادها الزمني. أقول: ليس محتوماً ألا يعترف بأهليتنا هنا لأنه من جهة هناك شركاء نضال في المجتمعات المضيفة القائمة على التعددية، ومن جهة أخرى البنية (السياسية المعرفية القانونية) متفاوتة الكتامة حيال أوجه الأهلية السياسية والمعرفية والأخلاقية. معلوم أنها في ألمانيا أكثر كتامة حيال الشأن الفلسطيني، وإدانة جرائم إسرائيل لاعتبارات معلومة، لم تعد معقولة بالفعل. وهناك أصوات متزايدة ترتفع معترضة في هذا الشأن على ما يشبه صيد الساحرات من ترصد لجملة هنا أو تصريح هناك يدين إسرائيل، مثلما حدث قبل أكثر من عام مع الفيلسوف الكاميروني أشيل مبمبه.
للمؤسسات الألمانية أن تقرر في شأن مسؤولياتها حيال اليهود بالأمس القريب واليوم، لكن ليس لها أن تقرر لنا ماذا نفكر في شأن قوة نووية عنصرية، تستثني نفسها من أي قاعدة عامة تشملنا معها. المتأثرون باستثنائية إسرائيل وبسيادتها، وليس داعمو هذه الاستثنائية في ألمانيا أو غيرها، هم المرجع في شأن القول الأصح بخصوص هذا القوة العدوانية.
الصفة غير الحتمية لشرط الإنكار تعني، أن الأهلية يمكن أن تكون ساحة صراع من أجل انتزاعها أو تأكيدها تعني أيضاً أن أهليتنا مسألة نضال، مسألة قدرة وكفاءة كذلك، وبالطبع مسألة معرفة، أي أن الأمر مرهون بنا بقدر ما.
نحظى كلاجئين بحريات مهمة لم نتعب من أجلها، فنستطيع أن نعبر عما نعتقده في ما يخص شؤون بلدنا بلغتنا، ما لم يكن متاحاً من قبل، أي قبل اللجوء.. هذا ليس قليلاً، لكن بخوض الصراع من أجل تأكيد الأهلية المعرفية والسياسية والأخلاقية ننتج حرية هنا، ولا نستهلك ما هو متاح من حرية فقط. هذا يضيف للحرية هنا ولا ينقص منها.
كاتب سوري
للتصحيح كاتب عربي سوري. مقال مهم يوصف طريقة عمل الرقيب في اوربا الديمقراطية بموضوعية وعن تجربة. الرقابة هنا لها اليات وحوامل في كل المجالات الاعلامية والثقافية. وهذا ليس في المانيا حصرا.، انما في الغرب عموماً.
مقال عظيم دون شك نتعلم منك يا استاذ ياسين
شكرًا أخي ياسين الحاح صالح. بالمناسبة الأمر لايقتصر على اللاجئين بل على الغالبية من أمثالي وأنا هنا في ألمانيا منذ أكثر من ثلاثين عامًا (وكنت في فرنسا كباحث زائر لمدة سنتين تقريبًا ولايختلف الأمر عن ألمانيا أبدًا!). معرفتنا ليست ذات قيمة، أو أن علينا أن نتجرد من معرفتنا وأهليتنا المعرفية، ونقبل معرفة البلد الملجأ عادًا بدون نقاش. بل في حالة التأكيد والنضال من أجل معرفتنا والدفاع عنها تكال الإتهامات الجاهزة على شاكلة الإرهاب أو معاداة السامية (بالطبع خاصة الوارد من الشرق الأوسط) مهما كان المتهم بعيدا عن هذه الإتهامات سياسيًا وثقافيَا وأخلاقيٍا. فالقوالب الحاهزة لاتقبل الشك أو الجدال فيها. علينا القبول بما لايتفق مع ذواتنا ومغرفتنا ولا خيار آخر لنا سوى عدم الإعتراف بنا لنصبح من الدرجة الثالثة والرابعة.